نسي العالم رفعت الجمال وبقي رأفت الهجان حيا

توقف مفاجئ يشمل حياة الناس في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، على اختلاف طبقاتهم وأعمارهم وعقائدهم، يحدث ذلك مرة في كل شهر، ودائما في العاشرة مساء. تتوقف حركة المرور في شوارع القاهرة، وتحبس الأنفاس في مقاهي الدار البيضاء. وفي بغداد يترك التجار تجارتهم، وتفرغ الشوارع من المارة. كل الآذان تتركز على إذاعة القاهرة في انتظار أم كلثوم. هذا المشهد يتكرر بشكل مشابه عندما كان الزعيم المصري الراحل جمال عبدالناصر يلقي خطابا ينقل عبر الإذاعة. الحالة الثالثة، التي تفرغ فيها شوارع القاهرة، تحدث عندما يبث مسلسل “رأفت الهجان” عبر التلفزيون المصري.

لم يكن نعي المخابرات المصرية صباح الإثنين للفنان الراحل محمود عبدالعزيز، الذي وافته المنية مساء الأحد 12 نوفمبر عام 2016، عن عمر ناهز 70 عاما، بالأمر المألوف. الذين تصفحوا جريدة الأهرام الرسمية صباح الإثنين وجدوا نعيا بالحروف الكبيرة، جاء فيه “المخابرات العامة تنعى بمزيد من الحزن والأسى الفنان الكبير محمود عبدالعزيز، الذي أثرى بفنه العديد من الإبداعات”.

لم يكن أمرا معتادا أن تنعى أجهزة الأمن والمخابرات الفنانين والمبدعين، فلماذا تختار محمود عبدالعزيز دون الآخرين تقدم العزاء للمصريين بوفاته، مخالفة بذلك كل الأعراف والتقاليد؟

في الرابع من فبراير عام 1984 روى الكاتب الراحل صالح مرسي كيف ظهرت قصته عن عميل المخابرات رأفت الهجان إلى الوجود. كان الكاتب قد قرر وقتها أن يتوقف عن كتابة هذا الصنف من الأدب، لولا لقاء جمعه صدفة بضابط أمن مصري ألح عليه أن يقرأ ملخصا لعملية أشرفت عليها المخابرات.

بعد تردد حمل الملف الذي يحوي تفاصيل العملية إلى منزله، دخل غرفة النوم وشرع في القراءة. يومها، كما يروي، لم يغمض له جفن إلى أن أتم تقليب آخر صفحة في الملف. نما في داخله إعجاب وتقدير كبيران لشخصية رأفت الهجان، وقرر أن يلتقي محسن ممتاز، أحد الضباط الذين جندوا الهجان للحصول على تفاصيل إضافية تساعده في كتابة الرواية.

رفض محسن مده بمعلومات حول شخصية الهجان الحقيقية، فتوجه إلى عبدالعزيز الطودي، المتخفي باسم عزيز الجبالي، الذي روى له على مدى عشرة فصول، شغلت أكثر من 200 ورقة، تفاصيل ما حدث على مدى عشرين عاما.

شخصيات معقدة

أجهزة المخابرات المصرية تختار محمود عبدالعزيز دون الآخرين لتقدم العزاء للمصريين بوفاته مخالفة الأعراف والتقاليد

منذ ظهور قصة رفعت الجمال إلى الوجود 3 يناير 1986، بدءا من العدد رقم 3195 من مجلة المصور المصرية، استطاعت أن تجذب انتباه الملايين الذين تابعوها بشغف كبير.

شجع نجاح الرواية، التي نشرت على حلقات، الكاتب صالح مرسي على تحويلها إلى سيناريو مسلسل تلفزيوني، سيطر في ما بعد على العقول، ليس فقط في مصر، بل في العالم العربي أيضا.

وأثارت حلقات المسلسل جدلا طويلا، لم يعد الأمر مجرد متابعة لقصة خيالية في أدب الجاسوسية، وتسابقت الصحف في ما بينها لنشر معلومات جديدة حول الشخصية الحقيقية لرأفت الهجان.

ما من شك في أن تاريخ محمود عبدالعزيز يحفل بالعديد من الأعمال المميزة، التي أدى من خلالها أدوار شخصيات معقدة، من بينها دور الشيخ والابن والمهندس والطبيب، وأيضا ضابط المخابرات في فيلم “إعدام ميت”.

كان النجاح نصيب كل الأعمال المذكورة، إلا أن نجاح مسلسل رأفت الهجان، الذي جسد فيه دور عميل مصرى يعمل لصالح بلاده مخترقا الأراضى الإسرائيلية، فاق جميع أعماله.

جسد محمود في المسلسل دور ليفي كوهين، وديفيد شارلي سمحون، صاحب شركة سياحية، استطاع التغلغل في المجتمع الإسرائيلي. وتعتبر رسائله المشفرة التي دأب على إرسالها لجهاز المخابرات المصرية كنزا من المعلومات لا يقدر بثمن، خاصة في وقت لم تكن فيه وسائل التواصل منتشرة، حيث تدور الأحداث في الفترة ما بين 1955 وإلى 1971.

قبل التوغل في عالم رأفت الهجان، لا بد أن نتحدث عن محمود عبدالعزيز، مربي النحل الذي غزا خشبة المسرح متفوقا على الجميع.

ولد محمود في حي الورديان، غرب الإسكندرية، من عائلة تنتمي إلى أسرة متوسطة، وتلقى تعليمه في مدارس الحي، وتابع التحصيل الجامعي في كلية الزراعة جامعة الإسكندرية، حيث مارس هواية التمثيل مع فريق المسرح بكلية الزراعة.

حصل محمود على درجة البكالوريوس، ثم درجة الماجستير في تربية النحل. وبدلا من التوجه إلى تلك المهنة، اختار أن يبدأ مسيرة فنية من خلال مسلسل “الدوامة” في بداية السبعينات، حيث اختاره المخرج نور الدمرداش ليؤدي دورا في المسلسل إلى جانب محمود ياسين ونيللي.

أما مسيرته السينمائية فبدأت من خلال فيلم “الحفيد” عام 1974، ليتسلق سلم النجاح بسرعة أوصلته خلال عام واحد إلى دور البطولة في فيلم “حتى آخر العمر”.

وبعد ست سنوات أصبح في رصيده 25 فيلما سينمائيا، قدم خلالها أدوارا رومانسية وأدوار مغامرات، ليدخل بعدها مرحلة اتسمت بتأدية الأدوار المعقدة بدءا من العام 1982، حيث قدم فيلم “العار” الذي رسخ نجوميته.

تنوعت أدوار محمود بعد نجاح فيلمه الأخير، فقدم دور الأب في “العذراء والشعر الأبيض”، وفي فيلم “تزوير في أوراق رسمية”، ثم دور عميل للمخابرات المصرية وجاسوس في فيلم “إعدام ميت”، وتوالت الشخصيات في فيلم “الصعاليك” وفيلم “الكيف” الذي حظي بنجاح جماهيري كبير.

قدم محمود عبدالعزيز للسينما 84 فيلما، قام فيها بدور البطولة، بينما أخرج فيلما واحدا هو “البنت الحلوة الكذابة”.

بلغ أداء محمود عبدالعزيز درجة وصفها النقاد بالإعجاز في فيلم “الكيت كات” من إنتاج عام 1991. والفيلم من إخراج وسيناريو داود عبدالسيد، من وحي رواية “مالك الحزين” للروائي إبراهيم أصلان. ويحتل الفيلم المركز الرابع والعشرين في قائمة أفضل مئة فيلم مصري حسب استفتاء النقاد. يروي الفيلم قصة شيخ فقد بصره وعمله وزوجته، إلا أنه لم يفقد الأمل ولم يسلم بأنه أعمى.

رصيد مذهل يحسده عليه كل زملائه، فماذا بانتظار محمود بعد كل هذا النجاح؟

لن نستغرب إذا ذكر اسم مسلسل “رأفت الهجان” أمام أحدهم، أن يقول دون تفكير إنه شاهد المسلسل أكثر من عشر مرات. حدث ذلك مع الكثير.

ما هو الشيء المميز الذي صنع من “رأفت الهجان” عملا لا يموت؟ إلى جانب الأداء الذي تفوق فيه محمود عبدالعزيز على نفسه، تأتي القصة التي أعادت للعرب إحساسهم بالكرامة، هذا هو بطل من لحم ودم يستطيع أن يقهر عدوا طالما ظنوا أنه لا يقهر.

حقيقة وخيال

مسلسل رأفت الهجان ألهب مخيلة أجيال متعاقبة

ألهبت القصة مخيلة أجيال متعاقبة، ورممت الثقة في أجهزة المخابرات والأمن، وتحول رأفت الهجان إلى ملحمة وطنية، أثرت الشعور الوطني، وعززت الكرامة الوطنية. أصبح بإمكان الجميع أن يتحدث عن بطولات وطنية، ويشيد بالممثلين المصريين الذين استطاعوا نقل تلك البطولات للمشاهد العربي.

وبقدر ما أثار ذلك من حماسة الشارع العربي، إلى درجة أصبح فيها التفريق بين بطل المسلسل والبطل في العالم الواقعي أمرا صعبا، أثار أيضا غضب الإسرائيليين، الذين سارعوا للادعاء بأن رأفت الهجان عميل مزدوج عمل لصالح المخابرات الإسرائيلية.

قدم مسلسل رأفت الهجان في ثلاثة أجزاء، أخرجها يحيى العلمي، تتحدث عن سيرة العميل المصري رفعت الجمال، الذي تم زرعه داخل المجتمع الإسرائيلي المخملي لصالح المخابرات المصرية. وتؤكد الروايات وجود الشخصية الحقيقية، بل إن البطل الحقيقي رفعت الجمال تحدث في بعض منها عن عمله داخل إسرائيل لمدة 17 عاما، خدم فيها مصر والمصريين.

رفعت علي سليمان الجمال، هذا هو الاسم الحقيقي لصاحب الاسم الحركي الذي عرفه المصريون والعالم برأفت الهجان. العميل الذي حيّر العالم بعد وفاته، وكشف عن قصته في عملية مخابراتية مصرية لا تزال محفورة في وجدان المصريين والعرب.

ولد الجمال في 1 يوليو عام 1927، وتوفي في 30 يناير 1982 عن 55 عاما، أي أن ذكرى وفاته السابعة والثلاثين مر عليها أقل من أسبوع.

دخل الجمال إسرائيل بتكليف من المخابرات المصرية، في إطار خطة أعدت في يونيو عام 1956، وتمكن من إقامة مصالح تجارية واسعة وناجحة في تل أبيب، بل وأصبح شخصية بارزة في المجتمع المخملي الإسرائيلي.

تمكن الجمال من مد جهاز المخابرات المصري بمعلومات قيمة، وعمل تحت ستار شركة سياحية داخل إسرائيل، زود خلالها بلاده بمعلومات خطيرة. يقال إن من بينها موعد حرب يونيو 1967، وكان له دور فعال في الإعداد لحرب أكتوبر عام 1973، بعد أن زود مصر بتفاصيل عن خط برليف.

تسريب تلك المعلومات كان كافيا ليحدث هزة عميقة لأسطورة تألق الموساد، وصعوبة اختراقه، وينصب من “الجمال” بطلا قوميا في مصر.

لم تصمت إسرائيل أمام تلك الهزة التي طالت سمعة الموساد، وكان الرد الرسمي بداية “إن هذه المعلومات التي أعلنت عنها المخابرات المصرية، ما هي إلا نسج خيال ورواية بالغة التعقيد، على المصريين أن يفخروا بنجاحهم في خلق هذه الرواية”.

لكن، وتحت ضغوط الصحافة الإسرائيلية، صرح رئيس الموساد الأسبق إيسر هاريل “إن السلطات كانت تشعر باختراق قوي في قمة جهاز الأمن الإسرائيلي ولكننا لم نشك مطلقا في جاك بيتون” وهو الاسم الإسرائيلي للهجان.

حاولت الصحافة الإسرائيلية منذ عام 1988 التوصل إلى حقيقة الهجان، أو بيتون، أو الجمال، فقامت صحيفة “جيروزليم بوست” بنشر خبر تؤكد فيه أن جاك بيتون أو رفعت الجمال يهودي مصري من مواليد المنصورة عام 1919 وصل إلى إسرائيل عام 1955 وغادرها للمرة الأخيرة عام 1973.

استطاع الجمال أن ينشئ علاقات صداقة مع العديد من القيادات في إسرائيل، منها جولدا مائير رئيسة الوزراء السابقة وموشي ديان وزير الدفاع.

محمود عبدالعزيز مربي النحل الذي غزا خشبة المسرح واخترق إسرائيل

وبعد سنوات أصدر صحافيان إسرائيليان كتابا بعنوان “الجواسيس” قالا فيه “إن العديد من التفاصيل التي نشرت في مصر عن شخصية الهجان صحيحة ودقيقة، لكن ما ينقصها هو الحديث عن الجانب الآخر في شخصيته، ألا وهو خدمته لإسرائيل”.

بعد وفاة الجمال بخمس سنوات، كشفت المخابرات المصرية القليل جدا عن تفاصيل هذا الرجل الغامض وتاريخه ودوره في العمل لحسابها داخل إسرائيل. ومنذ ذلك الحين وحتى الآن تخرج الروايات من داخل إسرائيل زاعمة أن الجمال كان عميلا مزدوجا.

اللواء محمد رشاد، وكيل جهاز المخابرات المصرية السابق، وأحد الذين تعاملوا مع الملف 313 الشهير بملف رأفت الهجان، أكد أن لا أساس للخزعبلات التي تروجها إسرائيل، بهدف تأكيد قوة جهاز مخابراتها، وأن رفعت الجمال كان عميلا مصريا 100 بالمئة، وقد تم تأهيله للإقامة والاندماج داخل إسرائيل بمعرفة جهاز المخابرات المصرية، في ملحمة بطولية مخابراتية.

تم اكتشاف رفعت من قبل ضابط الشرطة أحمد رشدي الذي أصبح وزيرا للداخلية المصرية في أوائل الثمانينات، وقدمه للواء عبدالمحسن فائق، أحد قادة المخابرات في ذلك الوقت، والذي قدم دوره في المسلسل الفنان يوسف شعبان باسم محسن ممتاز، وتم تأهيله للمهمة بالتعاون مع اللواء حسن بلبل، الذي أدى دوره في المسلسل الفنان مصطفى متولي، واللواء عبدالعزيز الطودي، الشهير في المسلسل باسم “عزيز الجبالي”، ثم تابع عمله داخل إسرائيل اللواء محمد نسيم، الذي أدى دوره في المسلسل الفنان نبيل الحلفاوي.

وأكد اللواء رشاد أن عملية زرع الهجان كانت من أصعب وأنجح العمليات في تاريخ جهاز المخابرات المصرية، وظل يقيم في إسرائيل منذ العام 1955 لعدة سنوات قبل أن يقدم أي معلومات للمخابرات، وكان ذلك بأمر من ضباط الجهاز، الذين كانوا يريدون تثبيته وزرعه بنجاح ودمجه داخل المجتمع الإسرائيلي من دون أن يكتشف أمره.

بعد انتصار مصر على إسرائيل في حرب أكتوبر، قرر الهجان وضع نهاية وصفها بالعظيمة لمهمته، ورحل إلى ألمانيا، حيث حصل على الجنسية الألمانية.

يقول الهجان: سرني أن تخلصت من جواز سفري الإسرائيلي، ففي النهاية كنت دائما مصريا، بل كان الزعم بأنني إسرائيلي أو يهودي يجرحني في داخلي، ولكن كان الواجب يقتضي أن أنجز مهمتي، وقد أديتها على خير وجه، وأستطيع أن أقول بشكل ما إنني كنت فخورا بنفسي.

لقد عشت داخل عرين الأسد زمنا طويلا وأعرف حيلهم، لقد سددت ديني إلى مصر ثلاثة أضعاف، وسوف أتصرف على مسؤوليتي مثلما اعتدت دائما.

لم يخدع رفعت الجمال، أو رأفت الهجان، إسرائيل وحدها، بل “الكذبة” التي اضطر أن يعيشها كـ”جاسوس مصري في إسرائيل” أو”بطل قومي مصري في إسرائيل”، جعلت زوجته، فالتراود بيتون تعيش في الخدعة ذاتها لـ19عاما.

في تمام الساعة الثانية عشرة و30 دقيقة من يوم 30 يناير عام 1982، توفي رفعت علي سليمان الجمال، رجل الأعمال المصري، في منزله بألمانيا بعد صراع مع مرض السرطان، لتدفن معه أخطر الأسرار في تاريخ الحروب والمواجهات الاستخباراتية، تاركا وراءه رسالة موجهة إلى المرأة الوحيدة التي أحب:

حبيبتي فالتراود.. عندما تقرئين هذه الكلمات، يكون قد مضى وقت طويل منذ أن تركتكم. ربما تكونين الآن قادرة على قبول الحقيقة. أعرف قسوة الألم الذي تشعرين به، ولكن لن تدركي ما كنت أعانيه من عذاب، بسبب كذبة اضطررت أن أعيشها. أرجوك لا تستبقي الحكم علي، فأنت تعلمين أنني لم أحب أحدا أبدا أكثر منك.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: