لا دور لأوروبا… فكيف لفرنسا؟

خير الله

لا يقتصر الموضوع، في ضوء الموقف الأخير للرئيس إيمانويل ماكرون من أحداث النيجر، على عدم امتلاك فرنسا الوسائل التي تسمح لها بممارسة سياسة تليق بقوة عظمى، وإن من الحجم المتوسط. يتعلّق الموضوع بأوروبا أيضا التي تعاني كلّ دولة من دولها، تقريبا، من تخبط داخلي ينعكس على السياسة الخارجيّة للقارة العجوز والاتحاد الأوروبي، بمن في ذلك بريطانيا التي خرجت من الاتحاد، في العام 2016.

يؤكّد ذلك أنّ أوروبا ما كانت لتتحرّك بفعالية في وجه الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو غزو يهدّد كلّ دولة من دولها، لولا الموقف الأميركي الصلب من هذا الغزو. لولا الموقف الأميركي، لكانت أوروبا كلّها جلست في مقاعد المتفرجين فيما الجيش الروسي يمارس وحشيته في حق أوكرانيا وشعبها.

تكفل الموقف الأميركي الصلب بإغراق فلاديمير بوتين في الوحول الأوكرانيّة. تحسبت أميركا مسبقا للغزو الروسي. لعبت دورا، بمشاركة الحليف البريطاني، في إعداد الجيش الأوكراني للدفاع عن العاصمة كييف، المدينة التي حال صمودها دون سقوط أوكرانيا كلّها. بدأت أوكرانيا تسلّم دبابات “أبرامز” الأميركية بما يشير إلى أن الولايات المتحدة ماضية في دعمها لها.

◙ النيجر ليست المكان الوحيد الذي تلقّى فيه الوجود الفرنسي ضربة. جاءت ضربة النيجر بعد ضربات في مالي وبوركينا فاسو وجمهوريّة أفريقيا الوسطى حيث هناك وجود لمجموعة {فاغنر} التي تعمل لمصلحة روسيا

يبدو الرئيس الروسي عاجزا عن الخروج من الفخّ الذي نصبه لنفسه في ضوء صمود أوكرانيا بوجود رئيس مثل فولوديمير زيلينسكي في كييف. لا يزال زيلينسكي، اليهودي الذي يرأس دولة ذات أكثرية أرثوذكسية، قادرا على لعب دور قيادي في مواجهة ما تتعرّض له أوكرانيا منذ الرابع والعشرين من شباط – فبراير 2022، أي منذ سنة وثمانية أشهر.

بعيدا عن أوكرانيا، يبدو لافتا كيف تراجعت فرنسا عن سياستها تجاه النيجر حيث أطاح العسكر بالرئيس المنتخب محمد بازوم في 26  تموز – يوليو الماضي. تراجع إيمانويل ماكرون تراجعا كلّيا عن مواقف كان اتخذها في الماضي القريب. قرّر إنهاء التعاون العسكري مع النيجر وسحب الجنود الفرنسيين من البلد إرضاء للانقلابيين. كذلك، سيعود السفير الفرنسي في نيامي سيلفان إيتي إلى باريس بعدما وجد نفسه محاصرا في مقرّ سفارته.

ستبرر باريس موقفها التراجعي بمشاورات أجرتها مع الرئيس “الشرعي” الذي وضعه الانقلابيون في الإقامة الجبريّة مع أفراد عائلته. في المقابل، ليس ما يشير إلى أن القوات الأميركية الموجودة في النيجر ستنسحب، على غرار ما ستفعله القوات الفرنسيّة.

ليست النيجر المكان الوحيد الذي تلقى فيه الوجود الفرنسي ضربة. جاءت ضربة النيجر بعد ضربات في مالي وبوركينا فاسو وجمهوريّة أفريقيا الوسطى حيث هناك وجود لمجموعة “فاغنر” الروسيّة التي تضمّ مئات الجنود المرتزقة الذين يعملون لمصلحة روسيا. لم يعد معروفا مصير “فاغنر” في مالي وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى بعد مقتل قائد “فاغنر” يفغيني بريغوجين في تفجير طائرته بعيد إقلاعها من أحد مطارات موسكو في 23 آب – أغسطس الماضي. المثير للاهتمام أن فرنسا لم تستفد من البلبلة التي تعرضت لها مجموعة “فاغنر” في هذه الدولة الأفريقيّة أو تلك.

ثمة حال ضياع على صعيد السياسة الفرنسيّة في أفريقيا وغير أفريقيا. يشمل ذلك في طبيعة الحال شمال أفريقيا، كما يشمل لبنان. حال الضياع هذه أوروبيّة أيضا، لكنّ فرنسا تتميّز هذه الأيام عن غيرها برفض التعاطي مع الواقع. تبدو عاجزة كلّيا عن استيعاب ما تتعرّض له في أفريقيا. تبدو السياسة الفرنسية أقرب إلى غياب عن الوعي أكثر من أي شيء آخر. لا تفسير منطقيا للسياسة المتبعة تجاه الجزائر حيث يحيا النظام من العداء لفرنسا. لا تفسير منطقيا للإصرار الفرنسي على تصفية حسابات لا وجود لها مع المغرب، خصوصا لجهة رفض الاعتراف بمغربيّة الصحراء…

◙ تراجع إيمانويل ماكرون تراجعا كلّيا عن مواقف كان اتخذها في الماضي القريب. قرّر إنهاء التعاون العسكري مع النيجر وسحب الجنود الفرنسيين من البلد إرضاء للانقلابيين

تغيّر العالم كثيرا في السنوات التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي أواخر العام 1991 من القرن الماضي. تحرّرت أوروبا الشرقيّة وتحررت أوكرانيا من نير المستعمر الروسي. ما لم يتغيّر هو العجز الفرنسي عن إيجاد دور سياسي على الصعيد العالمي.

استطاع الرئيس الراحل جاك شيراك إيجاد موقع لفرنسا عندما كان في قصر الإليزيه بين 1995 و2007. عرف كيف يفعل ذلك بفضل معرفته العالم ومعرفته الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ودول القارة السمراء. مع رحيل شيراك، بدأت فرنسا تفقد بوصلتها. ليست مغامرتها الأخيرة في النيجر سوى مثل آخر على العجز عن استيعاب عمق التغيير الذي طرأ على الدور الفرنسي خارج حدود البلد. تبدو مشكلة إيمانويل ماكرون في عدم قدرته على تخيّل فرنسا مجرّد تابع لأميركا. لا يستطيع تصوّر وجود هامش ضيّق تتحرّك فيه فرنسا في هذا العالم. الهامش الذي تمتلكه فرنسا ضيّق إلى حد كبير على الرغم من أنّها بين الدول الخمس ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

خرجت فرنسا من النيجر. تراجعت أمام مجموعة من الضباط الذين نفذوا انقلابا في بلد أفريقي كان كلّ ما فيه إلى ما قبل سنوات قليلة فرنسيا. كانت فرنسا تسرح وتمرح في النيجر. يفترض في كبار المسؤولين في باريس طرح أسئلة عن أسباب كلّ هذا التراجع في أفريقيا وأسباب فقدان فرنسا قواعدها في دول عدّة. قد يكون الجواب عن مثل هذا النوع من الأسئلة سؤالا وحيدا هو الآتي: هل لدى فرنسا القدرة على التعاطي مع الواقع بحسناته وسيئاته؟

في أفريقيا وشمال أفريقيا تحديدا وحتّى في لبنان، يفترض في فرنسا الاعتراف بأنّ ليس لديها ما تقدّمه لأي دولة من دول المنطقة في غياب سياسة فعالة تعترف بما تستطيع باريس عمله وما لا تستطيع عمله. ما لا تستطيع عمله، قبل أي شيء آخر، هو امتلاك القوة التي تسمح لها بفرض إرادتها في هذه الدولة أو تلك في عالم لم يعد فيه مكان لأوروبا كلّها، فكيف لدولة مثل فرنسا؟

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: