كيف تورطت واشنطن في خلاف مدريد والرباط؟

نزار

من الوارد جدا أنها ليست طرفا مباشرا في الخلاف الإسباني المغربي الأخير، لكن هل من الثابت أيضا أن لا صلة لها على الإطلاق به؟ الواضح أن واشنطن منكفئة على نفسها، وليست متحمسة للكشف، في هذه الفترة على الأقل، عن الطريقة التي تدير بها جبالا من الملفات الخارجية الثقيلة. غير أن ذلك لا يعني بأي حال أن الأمريكيين باتوا ميالين لعدم الانخراط بشكل مباشر في معالجة المشاكل الإقليمية والدولية. والأزمة الإسبانية المغربية الجديدة، قد تشكل تحديا إضافيا لهم لارتباطها بواحد من أكثر الملفات الإقليمية وعورة وهو الملف الصحراوي.
فبعد مضي أكثر من أسبوع على ما يمكن أن يكون واحدا من أخطر الحوادث الدبلوماسية، التي مرّت بالجارتين المغربية والإسبانية، خلال الشهور الأخيرة، يبدو أن نبرة الغضب في الرباط أخذت بالتصاعد، بشكل يعطي الانطباع بأنها حسمت أمرها، وبدت أكثر تصميما على أن ترغم مدريد على أن تطوي صفحة استقبال زعيم البوليساريو على الأراضي الإسبانية، بشكل قد يخالف تماما ما توقعته وخططت له.
وليس من قبيل الصدفة أن يكون وزير الخارجية المغربي الناصر بوريطة هو من أعطى السبت الماضي، من خلال حديث أدلى به لوكالة الأنباء الإسبانية، إشارة قوية على ذلك، خصوصا حين قال لمحاروه إن «المغرب ما يزال ينتظر ردا مرضيا ومقنعا» من طرف الحكومة الإسبانية، بشأن قرارها استقبال زعيم البوليساريو إبراهيم غالي «المتابع من طرف العدالة الإسبانية على خلفية جرائم إبادة وإرهاب بالدخول إلى ترابها» وأنه أي المغرب «لم يتلق حتى الآن إجابات من مدريد على الأسئلة التي طرحها ضمن بلاغ نشره الأحد الماضي». ثم حين تساءل بعد ذلك عن السبب الذي دفع السلطات الإسبانية، إلى عدم إبلاغ المغرب بالموضوع قائلا «لماذا فضلت التنسيق مع خصوم المغرب؟ هل من الطبيعي أن نعلم بهذا الأمر من الصحافة؟ وهل إن إسبانيا ترغب في التضحية بالعلاقات الثنائية مع المغرب، بسبب موضوع إبراهيم غالي؟ إن الأسلوب التصعيدي الذي تحدث به الوزير المغربي، كان يدل بوضوح على أن علاقة الدولتين قد وضعت على المحك، وأنها أمام منعرج حاسم، وأن مسألة بقائها، حتى بعد تبدد الأزمة، في المستوى الذي كانت عليه من قبل، تبدو مستبعدة جدا. والسؤال الجوهري هنا هل كان الإسبان يدركون كل ذلك؟ أم أنهم وقعوا ضحايا سوء تقديرهم لردة فعل جارتهم الجنوبية؟ إن جزءا كبيرا من الجواب قد يوجد في واشنطن لا في مدريد. فالإدارة الأمريكية الجديدة فعلت كل شيء تقريبا منذ وصولها للسلطة، مطلع العام الحالي، حتى لا تكشف أو تفصح عن موقف واضح، أو محدد في الملف الصحراوي. وهذا وحده قد يكون منح الإسبان أكثر من ضوء أخضر. وآخر مثال لافت هو أنه حين تم الإعلان الخميس والجمعة الماضيين عن أن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أجرى مكالمتين هاتفيتين مع نظيريه الجزائري والمغربي، لم يظهر في البيانين الرسميين الصادرين عن الخارجية الأمريكية، ما يدل على أنه تم التطرق في المكالمتين للنزاع الصحراوي، الذي هو أكبر مشاكل المنطقة، لكن ما الذي جعل الأمريكيين يتصرفون على ذلك النحو؟ ولماذا أرادت إدارة بايدن أن تترك الحبل على الغارب، وتجعل موقفها من القضية الصحراوية يبدو بنظر الكثيرين قابلا للشرح والتأويل على أكثر من وجه؟ هناك على ما يبدو مسافة شاسعة بين ما يقوله، أو يعلنه الأمريكيون، وما يفكرون به أو يتطلعون لتحقيقه، وهذا في حد ذاته قد يكون مبررا، ولكن هل أن تعمد إغفال البيان الرسمي للخارجية الأمريكية، أي ذكر للحديث عن مسألة الصحراء، خلال المكالمة الهاتفية، التي جرت الجمعة الماضي بين وزيري الخارجية الأمريكي والمغربي، مقابل تكفل بعض المواقع كموقع «أكسيوس» الإخباري مثلا، بالإعلان استنادا إلى مصدرين قال إنهما مطلعان على المكالمة، أن الوزير الأمريكي أبلغ نظيره المغربي، خلال ذلك الاتصال، أن «إدارة بايدن لن تتراجع عن اعتراف الرئيس السابق دونالد ترامب بسيادة المغرب على الصحراء» يمكن أن يكون بنظر المغاربة كافيا؟ إن ما تدركه الرباط جيدا هو أن ما يقوله المسؤولون الأمريكيون لنظرائهم المغاربة في الغرف المغلقة بخصوص الصحراء، لا معنى له، إن لم يسمع بقوة خارجها، ولكن القادة المغاربة لا يريدون بالطبع أن يحرقوا المراحل، وأن يفرطوا في ما يعتبرونه أعظم اختراق خارجي حققوه في الملف الصحراوي. ولأجل ذلك فهم يستمرون في تجاهل هذه الازدواجية الأمريكية، والتعامل معها على أنها عارض طارئ سيزول بمرور الوقت. وهنا فإن بعض كلمات وزير الخارجية المغربي، في حديثه لوكالة الأنباء الإسبانية، قد لا تعني إسبانيا وحدها، بل حتى باقي الدول الكبرى، بما فيها أمريكا نفسها. ألم يقل بوريطة في ذلك الحديث «مع الشركاء لا توجد مناورات، أو طعن في الظهر حول قضية أساسية بالنسبة للمغرب»؟ إنه يعلم جيدا أن إدارة بايدن ناورت بدورها في الكشف عن موقفها من تلك القضية، بالحسم والوضوح المطلوبين، وسيكون من الصعب عليه أن لا يفكر في أن الإسبان حين قرروا استقبال إبراهيم غالي، لم يأخذوا بعين الاعتبار ذلك التذبذب والتردد الأمريكي. ولو صغنا كل ذلك في عبارة واحدة: ألم يكن واردا أن لا تظهر الأزمة الأخيرة بين إسبانيا والمغرب، لو أن الإدارة الأمريكية الحالية حسمت أمرها، وصرحت علنا، وبشكل لا لبس فيه على تمسكها بقرار سابقتها في الاعتراف بمغربية الصحراء؟

تدرك الرباط أن ما يقوله المسؤولون الأمريكيون لنظرائهم المغاربة في الغرف المغلقة بخصوص الصحراء، لا معنى له، إن لم يسمع بقوة خارجها

سيكون من التعسف أن يلقى كل شيء على كاهل الأمريكيين وحدهم، غير أنهم يتحملون وبلا شك القسط الاكبر من المسؤولية. فهم يملكون أكثر من وسيلة للتأثير في الدول المعنية بالملف الصحراوي. وترددهم وتناقضهم بين ما يرغبون في قوله هنا، وفي عدم إسماعه هناك هو ما شجع كثيرين، ومن بينهم إسبانيا، على أن تعلق أولا بأنه ليس لدولة مهما كان حجمها أن تقرر منفردة في المسألة الصحراوية، في إشارة إلى قرار إدارة ترامب الاعتراف بمغربية الصحراء، ثم على أن تمضي أبعد من ذلك، وتتصرف تاليا بالشكل الذي فعلته عندما استقبلت زعيم البوليساريو. ولكن السؤال الذي يتكرر بقوة هو ما مصلحتهم في كل ذلك؟ وما الذي يريدونه بالضبط؟ إنهم يرغبون ولسبب معلوم في دفع المغرب لأن يطرق بابا موازيا هو باب الإيباك. فذلك اللوبي الأكبر والأقوى في أمريكا لم يعد يؤثر بشكل ملحوظ في السياسة الأمريكية الإسرائيلية فحسب، بل حتى في جزء من سياسة البيت الأبيض في المنطقة المغاربية، وتوجهاتها في الملف الصحراوي. ولاجل ذلك فإن ما سيقوله الناصر بوريطة غدا الخميس أمام أعضاء ذلك اللوبي في واشنطن قد يمثل مرافعة حاسمة ضد من وصفهم بأنهم طعنوا بلاده في الظهر، في ذلك الملف بالذات، أي الإسبان والأمريكيين معا ومحاولة جدية لتغيير مواقفهما. أما بأي نتيجة سيعود؟ فلعلنا لن ننتظر وقتا طويلا لنعلم.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: