الجريمة المنظمة وتجمعات المهاجرين في السويد

شهد المجتمع السويدي في السنوات الأخيرة تحولات كيفية لافتة على صعيد بنيته. أما النتائج المترتبة على هذه التحولات، سواء الراهنة أم المستقبلية المحتملة، فهي متوقفة على مدى تمكّن الدولة السويدية من استيعاب ما حدث، ويحدث، والتفاعل معها بعقلية إبداعية، تقر بالتحولات البنيوية النوعية، وتؤكد أهمية وضرورة العمل على أخذها بعين الاعتبار في البرامج الوطنية في مختلف الميادين، وعلى جميع المستويات. وتؤكد في الوقت نفسه الحاجة إلى إعادة النظر في الإجراءات، وحتى في القوانين والمناهج والعطل الرسمية التي تراعي الوضعية المشخصة السويدية التي باتت ملامحها الجديدة واضحة بادية للعيان بعد سلسلة من التراكمات التي كانت بفعل الهجرة المستمرة من وإلى المجتمع السويدي. ولعل أبرز موجات هذه الأخيرة هي تلك التي كانت في عام 2015 نتيجة قدوم أعداد كبيرة من السوريين بفعل الحرب التي أعلنها النظام على الشعب، وقد استغل الكثير من غير السوريين ظروف فتح الحدود بعد فاجعة الطفل السوري آلان الكردي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن نسبة 77 في المئة من الزيادة السكانية العامة على مستوى السويد خلال العام المعني كانت نتيجة هذه الهجرة.

حاليا تبلغ نسبة المهاجرين من سكان السويد حدود 18.5 في المئة، وهي نسبة مرتفعة، ومرشحة للزيادة بفعل حق لمّ الشمل، وارتفاع نسبة الولادات بين المهاجرين، خاصة من الشرق الأوسط مقارنة مع السويديين. هذا إلى جانب استمرارية السويد باستقبال حصة سنوية من اللاجئين تم التوافق عليها مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

اللغة العربية اليوم هي اللغة الثانية من جهة عدد الناطقين بها في المجتمع السويدي، بعد أن كانت الفنلندية هي المهيمنة على هذه المرتبة على مدى عقود طويلة.

الدين الإسلامي هو الدين الثاني من ناحية عدد المسجلين كمسلمين.

ولكن هناك إحصائيات تستوجب التوقف والتمعن. منها أن نسبة البطالة بين أبناء وبنات المهاجرين هي أعلى من نسبتها بين أقرانهم من السويديين بحوالي ثلاثة أضعاف. ونسبة الجريمة هي الأخرى بين المهاجرين تقارب هذا المستوى، وذلك مقارنة مع مدى انتشارها بين السويديين.

وفي المقابل هناك إحصائيات إيجابية لصالح المهاجرين. فنسبة الأطباء المختصين بين أبناء المهاجرين تبلغ حدود 37 في المئة من مجموع أطباء السويد، ونسبة أطباء الأسنان بين المهاجرين تبلغ حوالي 43 في المئة. والأمر نفسه تقريباً بالنسبة إلى العاملين في حقل الصيدلة.

أما نسبة المهاجرين العاملين في قطاعات المطاعم وسيارات الأجرة والحافلات فهي طاغية، وذلك نتيجة الظروف الصعبة، والمستوى المنخفض للأجور. ولكن هناك الكثير من أبناء وبنات المهاجرين ممن حققوا نجاحات في الشركات الكبرى، ووسائل الإعلام، والفنون بميادينها المختلفة، وحتى ضمن الأحزاب السياسية، ووصلوا إلى البرلمان والحكومة.

نظام الحكم في السويد علماني ديمقراطي لا مركزي محايد، يحترم معتقدات وخصوصيات وحقوق جميع المواطنين بغض النظر عن الانتماءات الدينية والمذهبية أو القومية والعرقية. غير أنه في السنوات الأخيرة برزت ظاهرة تستوقف الكثير من السويديين، سواء من هم في الحكم أم في المعارضة، أو حتى المواطنين العاديين الذين لا يتعاملون بفاعلية مع السياسة؛ وهي تتمثل في ارتفاع نسبة الجريمة المنظّمة بين مجتمعات المهاجرين خاصة في المدن الكبرى مثل ستوكهولم ويوتوبوري (غوتنبرغ) ومالمو وأبسالا. وقد أسهمت السياسات الخاطئة التي اتبعتها البلديات في ميدان إسكان المهاجرين في تشكل هذه التجمعات؛ إذ جمعتهم، لأسباب شتى، في منطقة أو مناطق معينة، تحولت على مدى السنين إلى نوع من “الغيتوات” بعد أن هجرها السويدون، وباتت تضم المهاجرين فقط، وغالباً ممن لا تسمح لهم ظروفهم المادية بالانتقال إلى مناطق أخرى تمكّنهم من الاندماج مع المجتمع السويدي بصورة أفضل.

ظاهرة تصفية الحسابات، وحوادث القتل المتكررة بين أفراد العصابات التي تكاد أن تكون مقتصرة على أبناء المهاجرين من الشباب واليافعين، باتت جزءاً من المألوف اليومي المقلق الذي ينذر بالأخطر والأسوأ في المجتمع السويدي. وفي بعض الأحيان تأخذ الظاهرة بعدا أكثر اتساعاً، إذ تأخذ طابع المشاحنات والمشاجرات بين عوائل المهاجرين، الأمر الذي يستغله المتطرفون من القوميين، ويطالبون بإتخاذ أقسى العقوبات بحق المدانين من أبناء المهاجرين، بما في ذلك سحب الجنسية، وطردهم، أو وضعهم في سجون خارج السويد، تكون أقل كلفة ومسؤولية من عملية بناء سجون جديدة في السويد، بهدف استيعاب الأعداد المتزايدة من المجرمين.

ولكن الحكومة السويدية التي تجمع بين الاشتراكيين الديمقراطيين وحزب البيئة، وبدعم من الليبراليين والوسط واليسار، قد تمكّنت بإجراءاتها الهادئة الحكيمة البعيدة المدى من دحض حجج المتشددين، وهذا ما يُستشف من الارتفاع الواضح في نسبة المؤيدين للحزب الاشتراكي، وتراجع نسبة المؤيدين لحزب ديمقراطيي السويد الذي كان في تصاعد كاسح مستمر، خاصة في ذروة تفاقم أزمة المهاجرين، حتى اعتقد الكثيرون بأنه في طريقة نحو الفوز بالحكم، بالتعاون مع حزب المحافظين والديمقراطيين المسيحيين.

ولكن الصورة قد تغيرت الآن، حتى بين المحافظين الذين يبدو أنهم قد أعادوا النظر في بعض سياساتهم.

الحكومة لديها اليوم برنامج متكامل لمكافحة الجريمة المنظمة يتكون من 34 نقطة؛ تشمل زيادة إمكانيات الشرطة من ناحية العناصر والتجهيزات والصلاحيات؛ كما تتضمن إجراءات لحماية الشهود، والحد من امكانيات غسل الأموال، هذا بالإضافة إلى تشديد عقوبات السجن بحق المدانين، ومراقبة السيارات بصورة آلية في المنافذ الحدودية. كما تنص على ضرورة التعاون المشترك بين مختلف السلطات المعنية بهذا الموضوع، ومعالجة الثغرات القانونية التي يستفيد منه المجرمون، خاصة من ناحية استغلال الأطفال، وتكلفيهم بأعمال اجرامية لا يُحاسبون عليها بموجب القوانين السارية راهناً.

كما تشمل نقاط برنامج الحكومة المتكامل لمكافحة الجريمة موضوع تشديد العقوبات بحق المشاركين في المواجهات المسلحة، أو الذين يقومون بنقل الأسلحة والمتفجرات والمخدرات. هذا إلى جانب التركيز على برامج رعاية ومساعدة ممن يتركون عالم الجريمة؛ والاستثمار الطويل الأمد في ميادين الخدمية الاجتماعية، خاص في المناطق المهمشة التي تعاني غالباً من المواجهات المسلحة وتجارة المخدرات.

وهناك تأكيد على حيوية دور المدرسة، وأهمية التعاون بينها وبين الأسرة والسلطات المعنية. كل هذه الإجراءات تحتاج إلى سن قوانين جديدة، أو تعديل القديمة. كما توجد مطالبة من قبل معظم الأحزاب بضرورة تفعيل آلية سن القوانين لتكون متناسبة مع وتيرة وحجم المتغيرات.

هذا من جهة مساعي الحكومة المستمرة لمعالجة موضوع الجريمة المنظمة الذي بات من المواضيع المقلقة التي تُستخدم عادة في إطار دعاية المتطرفين ضد المهاجرين عموماً، وضد المسلمين منهم على وجه التخصيص. ويُشار هنا على سبيل المثال إلى الطلب الذي تقدم به كل من السياسي الدانماركي المتطرف راسموس بالودان، ودان بارك، الملقب بـ “فنان الشارع” السويدي، لتنظيم تجمع أمام مسجد في مالمو، وأعلنا صراحة بأنه سيتم في هذا التجمع حرق نسخة من القرآن الكريم. ولكن السلطات السويدية، التي توافق عادة على معظم الطلبات الخاصة بالتجمعات والمظاهرات حتى الإشكالية منها، مثل تلك التي تخص “النازيين”؛ رفضت الموافقة على هذا الطلب، وقد علل ناطق باسم الشرطة رفضهم الموافقة قائلاً: نحن نحمي أمن وسلامة الجميع، لذلك لا نوافق على ما يهدد الأمن والسلامة في المجتمع.

لم يعد سراً أن العديد من أبناء الأسر العربية والكردية هم من ضحايا عصابات الجريمة المنظمة، فكان منهم القتلى؛ وما زال منهم من يعمل ضمن صفوف هذه العصابات، الأمر الذي يحرمهم من الامكانيات الكبيرة جداً التي يوفرها المجتمع السويدي للناشئين والشباب في ميدان التعليم المتقدم وفق أرقى المقاييس العالمية، الأمر الذي سيمكنهم لاحقاً من الحصول على العمل المناسب سواء في داخل السويد أم في خارجها.

ولكن هؤلاء الشباب ممن يعانون من مصاعب أسرية نتيجة الخلافات بين الوالدين في معظم الأحيان، وبفعل الشعور بالتهميش، وتبعات أزمة الهوية، والرغبة في إثبات الذات، والكسب السهل السريع، هذه العوامل وغيرها تدفع بقسط من أبناء المهاجرين نحو المسارات الخاطئة، مما يكلف أسرهم خسائر كبرى على المستوييىن النفسي- المعنوي والمادي. كما يُحرم المجتمع نتيجة ذلك، من موارد بشرية هامة هو بأمس الحاجة إليها، ويلزمه في الوقت ذاته بنفقات مادية باهظة. هذا بالإضافة إلى المشكلات الاجتماعية الكثيرة التي تكون حصيلة عمليات القتل والتجارة بالمخدرات، والشروخ المجتمعية، سواء ضمن تجمعات المهاجرين، أم بينها وبين المجتمع السويدي العام.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن المهاجرين يتأثرون عادة بأحداث أوطانهم، يتابعون أخبار المجتمعات الأم عبر الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي، وهذه ظاهرة طبيعية. ولكن هناك من يستغل مناخ الأزمات، واختلاط المشاعر، وتباين الواقف، في سبيل الدفع بالشباب نحو التشدد، وهذا ما يكون عادة مادة دعائية في برامج القوى المتطرفة، ليس في السويد وحدها، بل في العديد من الدول الأوروبية أيضاً.

تزايد نسبة الجرائم المنظمة بين أبناء المهاجرين هو موضوع على غاية الخطورة، وستكون له انعكاسات أخطر مستقبلاً ما لم تبذل الجهود الجادة المتضافرة من قبل الأهل ومنظمات المجتمع المدني، والمؤسسات والسلطات السويدية وعلى جميع المستويات. الأمور لم تصل بعد إلى نقطة اللاعودة، ولكن المؤشرات تنذر بمخاطر جدية، لا بد من العمل على تدارك نتائجها السلبية المتوقعة بمعالجات ملموسة مجدية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: