المساجد الجزائرية: من معركة المنابر إلى نزاع الأبواب الموصدة

ناشطون من تيار الإسلام السياسي يشنّون حملة انتقادات شديدة لوزارة الشؤون الدينية والأوقاف على خلفية تملصها من مسؤولية فتح المساجد

كشفت جائحة كورونا عن مساعٍ واضحة في الجزائر لاستغلال المساجد في لعبة لي الذراع القائمة بين السلطة والمحتجين، فدُفعت بذلك إلى قلب صراع قوي بينهما، رغم مزاعم الطرفين بعدم الاستنجاد بها في تصفية الحسابات العالقة بينهما، لاسيما ما اتصل بالاضطرابات السياسية التي تعصف بالبلاد منذ أكثر من عام.

جرّت جائحة كورونا المساجد الجزائرية إلى صراع من نوع خاص بين السلطة والمعارضة الشعبية، بسبب رغبة الطرفين في استغلالها من أجل الاستقواء بها على الآخر.

ووجدت السلطة في الوباء فرصة سانحة لتحييدها بدل أن تكون منصة لانطلاق الاحتجاجات ضدها، في حين يشكك الناشطون في تعمد تأخير رفع الحظر عنها، لحرمانهم من أكبر المعالم التي كانت تنطلق منها الاحتجاجات.

وشهدت الجزائر احتجاجات أسبوعية كل يوم جمعة بعد الصلاة، انطلقت في فبراير من العام الماضي ولم تتوقف إلا بعد انتشار فايروس كورونا في البلاد وإعلان الحجر الصحي، رغم استجابة السلطة لمطالب المحتجين الذين يخرجون كل مرة بحزمة مطالب جديدة.

وما زالت الحكومة تضع المساجد تحت طائلة الفضاءات المحظورة على المرتادين، إلى جانب أنشطة قليلة، مقابل السماح بعودة الوضع العادي إلى مساحات أخرى أكثر اكتظاظا من المساجد، على غرار الأسواق والنقل الحضري والمحال التجارية الكبرى، وذلك في إطار حزمة التدابير المطبقة لمواجهة تفشي وباء كورونا.

وفيما ربط ناشطون في وقت سابق العودة إلى الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية، بعودة الظروف العادية إلى المساجد، على اعتبار أنها كانت نقطة انطلاق أنشطتهم، فإن أصواتا عديدة باتت تشكك في نوايا السلطة من وراء الاستمرار في حظر تلك الفضاءات.

وإذا كانت الحكومة قد أحكمت قبضتها على المساجد والمؤسسات الدينية، لتحييدها عن الخطاب المغاير لتوجهات السلطة، بدعوى حمايتها من الاستغلال الحزبي ومن التيارات الدينية التي تسعى للتغلغل داخلها، إلا أنه يبدو أنها فقدت السيطرة على محيطها بعد اختراقها المفاجئ من طرف قطاع عريض من المعارضة الشعبية التي لا يستبعد أن يكون وراءها الإسلاميون، خلال الاحتجاجات التي شهدتها البلاد.

وظلت مساجد بعينها في العاصمة محور انطلاق المظاهرات الشعبية التي عرفتها خلال أكثر من عام، وتحولت إلى نقطة تلاقي وانطلاق، فرغم الإجراءات المشددة التي اتُّخذت بشأنها من طرف قوات الأمن خاصة في أيام الجمعة، إلا أنها لم تتمكن من كبح جماح الجحافل الشعبية التي كانت تخرج منها للتظاهر ضد السلطة، رغم إخفاء التوجه الأيديولوجي لهؤلاء، بدعوى أن مرتادي المساجد ليسوا كلهم من تيار سياسي أو أيديولوجي معين، وأن الأولوية هي تحقيق المطالب الأساسية للحراك وليس التسويق السياسي.

ويبدو أن السلطة مصممة على سحب ورقة المساجد من أيدي المحتجين، وهو ما خلق حالة من الارتباك في صفوفهم، بعدما فقد الكثير منهم نقطة الانطلاق، ولذلك تضاربت الآراء بين الداعين إلى انتظار عودتها إلى الوضع العادي للتأكد من سلامة الوضع الصحي في البلاد، وبين من يرى ضرورة تغيير التكتيك من أجل عودة سريعة للاحتجاج.

لم تحمل الاحتجاجات أي لون سياسي أو أيديولوجي، إلا أن بصمة الإسلاميين باتت واضحة في حملة الضغط على الحكومة من أجل فتح أبواب المساجد
لم تحمل الاحتجاجات أي لون سياسي أو أيديولوجي، إلا أن بصمة الإسلاميين باتت واضحة في حملة الضغط على الحكومة من أجل فتح أبواب المساجد

وأفضى التطور المستجد إلى أن المساجد التي تم افتكاكها بشكل كبير من التجاذب السياسي والحزبي والمذهبي، دخلت في صلب صراع جديد بين السلطة والمعارضة الشعبية، وأن التحييد الخطابي المحقق في وقت سابق لم يعد بالإمكان الاستمرار فيه، بعدما بات الأمر لا يتعلق بمجرد خطاب فقط، بل بأبواب وأسوار يُتنازع حول غلقها أو فتحها.

وشن ناشطون من تيار الإسلام السياسي حملة انتقادات شديدة لوزارة الشؤون الدينية والأوقاف، على خلفية تملصها من مسؤولية فتح المساجد، وإلقائها كلية على اللجنة العلمية المتابعة للوباء، بدعوى خروج المسألة من أيدي رجال الدين إلى المختصين في الشأن الطبي.

ورغم أن الاحتجاجات السياسية القائمة في البلاد منذ أكثر من عام لم تحمل أي لون سياسي أو أيديولوجي، إلا أن بصمة الإسلاميين باتت واضحة في حملة الضغط على الحكومة من أجل فتح أبواب المساجد، ما يعزز الشكوك في وقوفهم خلف تلك الاحتجاجات التي لم تتوقف رغم استجابة السلطة لأغلب مطالب المحتجين.

ولم تعد الأعذار التي حملتها وزارة الشؤون الدينية، حول مقصد حماية الأرواح وحياة الناس في الدين الإسلامي، واتخاذها كأولوية على ممارسة العبادات الجماعية، كافية لإقناع هؤلاء باستمرار غلق المساجد.

ولأن القرار خرج من أيدي الحكومة إلى السلطات السياسية والصحية العليا في البلاد، فقد اكتفى بيان وزارة الشؤون الدينية بالقول “إننا نتطلع جميعا إلى أفق قريب تتهيأ فيه الظروف المناسبة لإعادة فتح المساجد، لتحتضن روادها في ظل الأجواء التي تعوّدوا عليها من الطمأنينة والأمن على أنفسهم وأرواحهم”.

ولفت بيان لجنة الفتوى إلى أن “خبراء الصحة العمومية الذين يعرفون حقيقة الوضع في البلاد، يؤكدون أن الظروف لا تسمح بعد بفتح كل النشاطات، لاسيما تلك التي تستقبل أعدادا كبيرة من الناس، وتتم في الفضاءات المغلقة ومنها المساجد”.

ويوحي مشهد التنازع على الأبواب الموصدة برمزية وعمق المؤسسة الدينية في توجيه دفة الصراع السياسي والأيديولوجي نحو وجهة معينة، رغم تراجع دورها إلى الخلف أو تواريها عن الأنظار خلال السنوات الأخيرة، لاسيما لدى المنحدرين من تيار الإسلام السياسي والمحافظين.

وإذا كانت معركة المنابر قد حسمت من طرف السلطة على مدار سنوات كاملة من التعبئة والتجنّد لتحييد المساجد عن التيارات السياسية والمذهبية، فإن الصراع الجديد قد يكون وجد في الأبواب الموصدة فرصة للقفز إلى الواجهة.

 

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: