مصر «الفرعون» الذي أطاح به الربيع العرب… حكم المصريين بالقهر ودعمته أمريكا بمليارات الدولارات

لم يدر بخلد حسني مبارك، طيار القاذفات السابق الذي رحل أمس الثلاثاء عن 91 عاما، أنه سيصبح رئيسا للبلاد. لكن عندما دفع به اغتيال الرئيس السابق على الملأ إلى مقعد القيادة تشبث به لأطول فترة ممكنة، وأصبحت قصته هي قصة مصر على مدى الثلاثين عاما التالية، إلى أن أدرك شعبه في النهاية أن بإمكانه أن يكتبها بنفسه في انتفاضة من انتفاضات الربيع العربي عام 2011، أصبح بعدها مبارك فصلا من فصول الماضي. لم يظهر ما يميز مبارك أثناء وجوده بمنصب نائب الرئيس أنور السادات. وفي فترة التوتر التي أعقبت اغتيال الأخير وهو إلى جواره في عرض عسكري عام 1981 أصبح مبارك بديلا مؤقتا. ولم يعتقد أحد تقريبا أنه سيستمر في منصبه.
ثم تحول ببطء ومع نجاته من محاولات لاغتياله إلى «فرعون»، وقاد البلاد على مدى عقود من الركود والقهر، وكان الخيار الذي طرحه على الشعب: إما مبارك أو الفوضى.
وصدقه كثيرون، ليس في مصر وحدها، وأغدقت عليه الإدارات الأمريكية وعلى جيشه أكبر الجيوش في الشرق الأوسط مليارات الدولارات عرفانا بوفائه، لتحول ولاء السادات في الحرب الباردة إلى الولايات المتحدة والسلام مع إسرائيل.
غير أن عهده تميز بالصراع مع الإسلاميين، الذين سلموا السلطة دون قصد باغتيال السادات، لرجل سيقضي 30 عاما في قمعهم.
ومع ذلك لم يكن أحد لديه جواب سوى مبارك، على سؤال كيف سيكون حكم المصريين في المستقبل، ورفض على الدوام تحديد من يخلفه في الرئاسة. وتوقعت واشنطن أن يستمر في تزوير الانتخابات حتى وفاته، وعندها ربما يتولى ابنه جمال السلطة.
وقال مبارك ذات مرة إنه لا يمكن أن يتصور أحد أن بالإمكان الضغط على زر لتحقيق الحريات، وإن البديل هو الدفع بالبلاد إلى الفوضى، وما تجره من خطر على الشعب.
كان مبارك طيارا في القوات الجوية عمره 24 عاما عندما أطاح الجيش بالملك فاروق عام 1952.
ولد محمد حسني السيد مبارك لموظف حكومي في قرية كفر مصيلحة، في دلتا نهر النيل، في الرابع من مايو 1928 عندما كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني وكانت بريطانيا تسيطر على قناة السويس.
والتفاصيل عن حياته في سنواته الأولى قليلة. وقد أصبح طيارا في 1950 وأمضى أكثر من عامين في الاتحاد السوفييتي بعد ذلك بعشر سنوات للتدريب على قيادة القاذفات.
وعندما دمرت الطائرات الحربية الإسرائيلية جانبا كبيرا من سلاح الجو المصري في حرب الأيام الستة عام 1967 أصبح مديرا للكلية الجوية، وتم تكليفه بإعادة بناء القوات الجوية. وهذا ما فعله وهو قائد لسلاح الجو اعتبارا من عام 1972 ثم هاجمت مصر إسرائيل في 1973.
ورأى السادات، الذي خلف جمال عبد الناصر في الحكم عام 1970، في مبارك تابعا مخلصا وعينه نائبا له في 1975.
وظل هذا المنصب شاغرا في عهد مبارك الذي بذل كل ما بوسعه للحفاظ على سلطاته.
وأثناء رئاسته أمر مبارك الجيش بالتدخل لقمع تمرد في الثمانينيات، وأصلح العلاقات مع الدول العربية بعد السلام الذي أبرمه السادات مع إسرائيل. وفي 1989 عادت مصر إلى جامعة الدول العربية، وعادت الجامعة إلى مقرها في القاهرة.
وضمنت الأموال الأمريكية عدم خروج مصر عن مستوى معين من الكياسة في التعامل مع إسرائيل، ولعب مبارك دور الوسيط بين إسرائيل والفلسطينيين لسنوات.
وظل عنف الإسلاميين في الداخل، بما في ذلك اعتداءات على مواقع سياحية ومنتجعات مطلة على البحر الأحمر، تبريرا للدولة البوليسية. وفي 1995 نجا مبارك من عدة محاولات اغتيال عندما أطلق مسلحون إسلاميون النار على سيارته خلال زيارة لإثيوبيا.
وظل الاقتصاد المركزي الذي تشكل في فترة حكم عبد الناصر الاشتراكي متخلفا عن الدول التي كانت مصر تقارن بها مثل تركيا وكوريا الجنوبية. وتضاعف عدد سكان مصر تقريبا في عهد مبارك، لكن ظلت أعداد كبيرة تعيش في فقر مدقع.
وفي العقد الأخير من حكم مبارك حدثت طفرة في النمو غذتها إصلاحات السوق التي أشرف عليها ابنه جمال، وأثرى فيها البعض، غير أن الفساد ضمن بقاء السلطة في يد النخبة المحيطة برئيس الدولة والجيش وأصحاب الحظوة لدى الحزب الوطني الديمقراطي.
وعلى الصعيد السياسي دار حديث عن الإصلاح وخاصة ما طرحه الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش في هذا الصدد. وبعد الفوز في سلسلة استفتاءات كان مبارك المرشح الوحيد فيها وكانت أساسا لحكمه، وافق مبارك على خوض انتخابات أمام مرشحين آخرين في 2005.
غير أن هزيمة أيمن نور، المحامي الليبرالي الذي تجرأ وتحداه، لم تكن مفاجئة.
بحلول 2010، كان الحزب الوطني الديمقراطي يشعر بثقة كافية في حصانته، فأعلن فوزه بنسبة 90 ٪ من مقاعد مجلس الشعب في الانتخابات البرلمانية التي أسفرت عن استبعاد الإخوان المسلمين من المجلس.
وكان من الممكن أن يهدأ الغضب الشعبي الناجم عن ذلك، كما حدث من قبل لولا النجاح المفاجئ الذي حققته انتفاضة في تونس بعد بضعة أسابيع أطلقت شرارة احتجاجات شعبية على حكم مبارك في مصر.
في البداية لم يقدم مبارك أي تنازلات لمئات الآلاف الذين احتشدوا في ميدان التحرير في القاهرة وأشعره تردد العواصم الغربية في التخلص من حليف لها بالارتياح.
وعندما بدأ قادة الجيش يتخلون عنه وانحاز الأمريكيون للإرادة الشعبية أذعن مبارك وأصر في البداية على التقاعد فيما بعد، ثم انتقل بالطائرة إلى بيته في منتجع على البحر الأحمر.
وقال إنه لن يفارق مصر إلى أن يدفن في ترابها. وبعد شهرين ألقي القبض عليه.
بدأت محاكمته في غشت عام 2011 وأسرت صورته وهو في قفص الاتهام في قاعة المحكمة المشاهدين.
وفي الثاني من يونيو 2012 وقبل فوز مرشح جماعة الاخوان المسلمين محمد مرسي بالرئاسة مباشرة، صدر حكم على مبارك بالسجن مدى الحياة بتهمة التآمر لقتل المحتجين، وتم نقله إلى سجن طرة، لكنه كان ينتقل من آن لآخر إلى مستشفى المعادي العسكري القريب لضعف حالته الصحية.
غير أن فترة السجن لم تطل لأن قائدا عسكريا آخر هو عبد الفتاح السيسي أطاح بمرسي في العام التالي.
وفي 2014 تم إسقاط الاتهامات الموجهة لمبارك، في الوقت الذي شن فيه السيسي حملة أمنية على الإخوان وصفها المنتقدون بأنها أشد قسوة من أي خطوات تم اتخاذها في عهد مبارك.
وبعد ثلاث سنوات واستئناف النيابة الحكم قضت محكمة النقض أعلى محاكم الاستئناف في مصر ببراءته، وسمحت له بالعودة لبيته في حي مصر الجديدة في القاهرة ،والذي لا يبعد كثيرا عن مقر رئاسة الجمهورية الذي شغله مبارك قرابة ثلاثة عقود

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: