ماذا بعد الوداع الأوروبي المؤثر للمملكة المتحدة

بعد سبعة وأربعين عاما، تخللتها ثلاث سنوات ونصف سنة عصيبة من المفاوضات، تلت تصويت معظم البريطانيين لصالح خيار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وما رافق ذلك من جدل ومشاعر متضاربة، سوّق خلالها مناهضو بريكست لمستقبل كارثي، جاءت ساعة الحقيقة.

لن ينسى البريطانيون، ومعهم الأوروبيون والعالم، الساعة الحادية عشرة بتوقيت غرينتش، من مساء الجمعة الموافق للـ31 يناير من 2020، اللحظة التي لم تعد فيها بريطانيا عضوا في الاتحاد الأوروبي. بالتأكيد لحظة مثل هذه كانت لتدخل السعادة إلى قلب ونستون تشرشل، الذي قال عام 1953 “نحن مع أوروبا، ولكن لسنا جزءا منها، ونحن مرتبطون بها، ولكن دون أن يؤثر ذلك علينا”.

“إنّها ليست نهاية، بل بداية. حان الوقت لتجديدٍ حقيقيّ ولتغيير وطنيّ”. بهذه الكلمات توجه رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، مخاطبا البريطانيين الذين انقسموا طويلا حول بريكست، لتدخل المملكة المتحدة في مرحلة دقيقة لإعادة بناء العلاقات التجارية مع كتلة الاتحاد الأوروبي، ومع القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة.

وكان البرلمان الأوروبي قد صادق الأربعاء بغالبية ساحقة على اتفاق بريكست وخصّ النواب البريطانيين بوداع مؤثر. وتصافح نواب، ورفع البعض منهم العلمين الأوروبي والبريطاني. وخلال نقاش قبل التصويت أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، “سنحبكم دائما وسنكون قريبين منكم وسنفتقدكم”.

عمّت مشاعر حزن وقلق مراسم التوديع، ولم تتمكن زعيمة الاشتراكيين الديمقراطيين في البرلمان الإسبانية، إيراتشي غارسيا، من كبت دموعها في لحظة وداع زملائها البريطانيين.. ولكن بريكست، كما قال جونسون، لن تكون النهاية بالتأكيد.

تصويت البريطانيين على بريكست لم يكن الاقتصاد يوما محوره، بل هي الرغبة في الاحتفاظ بالخصوصية، حتى ولو كلّف ذلك بعض الخسائر على الصعيد الاقتصادي. وأفضل من عبّر عن مشاعرهم هو النائب في البرلمان الأوروبي وزعيم حزب الاستقلال نايجل فاراج عندما قال “نحن نحب أوروبا ونكره الاتحاد الأوروبي”.

ومع خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، رأى فاراج حلمه، الذي ناضل من أجله عشرين عاما، يتحقق. ليصبح بذلك في طليعة الخاسرين لوظائفهم.

وأعلن التاجر السابق البالغ 55 عاما، الذي يحيي برنامجا عبر إذاعة “أل بي سي”، عبر تويتر الانضمام إلى مجلة “نيوزويك” الأميركية، وتكريسه أول مقال له للموجة الشعبوية التي يعتبر أنها “بدأت للتو”. داعيا مناصريه إلى الاحتفال ببريكست أمام البرلمان في لندن.

ضاعت جهود الأطراف التي ناضلت طويلا ضد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، رغم ما روّج من سيناريوهات كارثية ستلحق بالاقتصاد. الأمر الوحيد الذي يمكن الآن الاتفاق حوله هو صعوبة التنبؤ بدقة بأثر كل ذلك على الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمملكة المتحدة.

نعم، تباطأ النمو الاقتصادي في بريطانيا، وبعد أن سجل 1.9 في المئة خلال عام 2017، هبط إلى 1.4 عام 2018، وإلى 1.3 خلال عام 2019، وهي أقل نسبة نمو مسجلة منذ عام 2009. ولكن هذا ليس ثمن بريكست، كما يروّج.

في ظل حرب تجارية مستعرة بين الصين والولايات المتحدة، وحالة عدم اليقين التي تسيطر على العالم نتيجة للمواجهات مع إيران وتركيا، المملكة المتحدة ليست البلد الوحيد الذي شهد تباطؤا في النمو. وتتوقع المفوضية الأوروبية أن يكون النمو في منطقة اليورو بنسبة لا تتجاوز 1.1 في المئة عام 2019.

ومقارنة بنسبة البطالة المسجلة في منطقة اليورو والبالغة 7.4 في المئة، يبدو الوضع داخل المملكة المتحدة أكثر إشراقا، مع بلوغ نسبة البطالة فيها 3.8 في المئة، وهي الأدنى منذ 45 عاما.وسجلت الرواتب ارتفاعا يفوق ارتفاع الأسعار، حيث ازدادت بنسبة 3.2 في المئة خلال عام 2019، بينما كانت نسبة التضخم بحدود 1.5 في المئة.

ولكن ماذا عن النبوءات التي روّجت لكارثة تشهدها البلاد في حال فوز عمدة لندن السابق، بوريس جونسون، بالانتخابات التي جرت في الـ12 من ديسمبر الماضي؟ حصد جونسون على فوز مدوّ، ولم تحصل الكارثة، ولم تنته بريطانيا، ولم يدمّر اقتصادها.

على العكس، جلب فوز جونسون بالانتخابات التشريعية حالة من الوضوح والاستقرار، وكان له تأثير إيجابي على الاقتصاد، وتشهد على ذلك العديد من المؤشرات.

أهم تلك المؤشرات، هو مؤشر مديري المشتريات، الذي سجل ارتفاعا بعد خمسة أشهر من التراجع. وارتفعت أيضا ثقة المستثمرين في قطاع التصنيع إلى 23 في المئة، وهو أعلى مستوى بلغته منذ عام 2014.

تصويت البريطانيين على بريكست لم يكن الاقتصاد يوما محوره، بل هي الرغبة في الاحتفاظ بالخصوصية، ولو كلّف ذلك بعض الخسائر على الصعيد الاقتصادي

هذا الارتفاع الكبير في مستوى ثقة المستثمرين، في الفترة الممتدة بين تحقيقين، لم يسبق له مثيل منذ بدء نشر هذه الدراسات عام 1958.

مؤشر آخر لأثر الانتخابات على الاقتصاد هو ارتفاع أسعار العقارات، التي كانت في حالة ركود، بشكل كبير خلال يناير.

وتعهد جونسون أيضاً بإنهاء التقشف، وأعلن رفعاً للحد الأدنى للأجور بنسبة 6.2 في المئة في أبريل القادم، وهو الأعلى منذ 25 سنة. وبالطبع من شأن هذا أن يعزز الاستهلاك، وبالتالي يدفع بالنمو قدماً.

ولا يستبعد، حتى أكثر المتعاطفين مع بريكست، من دخول بريطانيا في فترة عدم يقين، قد تستمر لبضعة أشهر، تكون لها آثار سلبية على الاقتصاد.

وقد يستمر النمو، الذي قدّره المصرف المركزي البريطاني عند نسبة 1.2 في المئة في 2020، في التباطؤ. بينما توقع صندوق النقد الدولي نمواً بنسبة 1.4 في المئة للاقتصاد البريطاني هذا العام، مقابل 1.3 في المئة لمنطقة اليورو.

وفي الوقت الذي جرت فيه مراسم التوديع، حطت طائرة تقلّ وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، أرض لندن، لتمهيد الطريق لتقارب تجاري مع الحليف التاريخي للولايات المتحدة.

وقال بومبيو على متن الطائرة التي أقلّته إلى لندن في عبارة حملت الكثير من الدلالات “توجد مواضيع كثيرة للنقاش مع المملكة المتحدة، في وقت تدخل فيه مرحلة جديدة من سيادتها”.

ورغم مواضيع خلافية بين الطرفين، ومنها مشاركة هواوي الصينية في شبكة الجيل الخامس للاتصالات في بريطانيا، وعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب رئيس الحكومة البريطانية باتفاق تجاري “هائل” و”رائع”.

وفي طريقه، ذكّر بومبيو بالموقف الأميركي من هواوي، معتبراً أن دخول المعدات الصينية إلى بريطانيا يشكل خطراً حقيقياً، فهو يرى في شركة هواوي امتدادا للحزب الشيوعي الصيني. لكن الآن، يقول بومبيو “سنخوض حوارا حول كيفية المضي قدماً”.

وقدما ستمضي بريطانيا، التي قررت مؤخرا هجر القارة العجوز لإعادة اكتشاف القارة الأفريقية.

وكان رئيس الوزراء البريطاني قد دعا 54 من زعماء ورؤساء دول أفريقية، ورؤساء منظمات دولية وكبرى الشركات البريطانية والأفريقية، إلى قمة عقدت يوم 20 يناير، أكد فيها حرص بريطانيا على الشراكة مع دول القارة الأفريقية، مشيرا إلى أن بلاده ستضخ المليارات من الدولارات لاستثمارها في العديد من القطاعات بالدول الأفريقية ومنها القطارات، كما سيتم التبادل التجاري للمنتجات والسلع المختلفة مع دول القارة الأفريقية.

وتنامى الاهتمام البريطاني بأفريقيا بعد تقديرات دولية بأن القارة تستحوذ على 12 في المئة من الاحتياطات العالمية من النفط، و40 في المئة من الذهب، و19 في المئة من اليورانيوم.

وركزت جلسات القمة على عدد من القضايا، من بينها التمويل المستدام والبنية التحتية وخطط الاستثمارات المشتركة المستقبلية والتجارة، وخاصة الفرص التجارية والاستثمارية بالقارة الأفريقية وفرص النمو وخطط الطاقة النظيفة.

وتسعى بريطانيا إلى رفع العلاقات الاقتصادية والتجارية مع القارة الأفريقية إلى مستوى الشراكة الكاملة، والتي ستتيح الفرصة لبريطانيا للتحول إلى بوابة أوروبا للاستثمار والتجارة مع الدول الأفريقية.

وكان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بوصفه رئيس الاتحاد الأفريقي، افتتحا القمة.

ما تريده بريطانيا هو بناء مستقبل جديد يكون جزءا من منظومة التجارة الدولية الحرة. و”لأجل هذا” يقول جونسون “اجتمعنا اليوم، وما سيليه لاحقا نهاية الشهر بخروجنا من الاتحاد الأوروبي (…) أفريقيا هي المستقبل ولبريطانيا دور كبير لتلعبه هناك”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: