الموقف المغربي من الاتفاق العسكري الليبي ـ التركي

لا يمكن للمراقب أن يفوته التأخر المغربي في التعليق على الاتفاق العسكري الليبي التركي، فقد انتظر وزير الشؤون الخارجية المغربي ناصر بوريطة فرصة افتتاح جمهورية غامبيا قنصلية لها بمدنية الداخلة المغربية (في الأقاليم الجنوبية للمغرب) يوم الثلاثاء الماضي ليعرب عن انشغال المغرب العميق جراء التصعيد العسكري بليبيا، وعن رفضه لأي تدخل أجنبي، بما في ذلك التدخل العسكري بالملف الليبي، مهما كانت أسسه ودوافعه وفاعلوه.
والواقع أن هذا التأخر في الإعلان عن هذا الموقف، إنما شمل فقط قضية التدخل الأجنبي في ليبيا، وإلا فإن الحكومة المغربية على لسان ناطقها الرسمي، الحسن عبيابة، لم تتردد في الإعلان عن الموقف بخصوص الأزمة الليبية وسبل حلها، وذلك بمناسبة الاجتماع الأسبوعي للمجلس الحكومي، فقد استثمر المغرب التوتر القائم على خلفية الاتفاق العسكري الليبي التركي، ليعبر عن استعداده لبذل مجهود لحل الأزمة في ليبيا. ولم ينس أن يذكر باتفاق الصخيرات واصفا إياه بـ«المرجعي»، ومذكرا بالجهود التي بذلت من أجل تنزيله بين أطراف الصراع في ليبيا. واضح من خلال تطور الموقف المغربي أن التأخر في التعليق على الاتفاق العسكري الليبي التركي، كان ضمن بيداغوجية دبلوماسية متدرجة، تسعى أولا إلى التقاط اللحظة والتنبيه إلى صوابية الموقف المغربي، فالمغرب الذي بذل جهودا مطردة من أجل تهييء أجواء توصل أطراف الصراع إلى اتفاق الصخيرات، وأيضا من اجل لإقناع المجتمع الدولي بجدية مخرجاته، وقدرته على إخراج ليبيا من أزمتها الطاحنة، وجد الفرصة اليوم سانحة، لتثبيت وجهة نظره، للعودة للحل السياسي من خلال مرجعية اتفاق الصخيرات.
البدء بتقرير هذا الموقف، كان بمثابة الجواب على الخيارات التي تشتغل عليها عدد من القوى الإقليمية في المنطقة للإقناع بأن تطورات الموقف على الأرض وموازين القوى السائدة تجعل اتفاق الصخيرات جزءا من الماضي، فقد سبق للمغرب أن علق في السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2017 على تصريحات الجنرال المتقاعد حفتر بنهاية اتفاق الصخيرات، واعتبر أن من يريد إزالة اتفاق الصخيرات، فإنما يسعى لإحداث حالة الفراغ بإنهاء الشيء الوحيد الذي يجمع الليبيين، ويوحد المجموعة الدولية. كان مقتضى هذه البيداغوجية الدبلوماسية أن يثبت المغرب صوابية موقفه، لأن أي خيار يحل محل تنفيذ اتفاق الصخيرات باستعمال منطق القوة العسكرية واصطفاف القوى الإقليمية وتغيير موازين القوى لا يمكن أن يحل المشكلة، بل سيزيدها تعقيدا، وربما ينتهي الأمر إلى إحداث حالة من الفراغ الدولتي، التي ستكون فقط في صالح الجماعات الإرهابية التي تنتعش في أجواء انحلال الدولة وغياب مؤسساتها.

أي خيار يحل محل تنفيذ اتفاق الصخيرات باستعمال منطق القوة العسكرية واصطفاف القوى الإقليمية وتغيير موازين القوى لا يمكن أن يحل المشكلة، بل سيزيدها تعقيدا، وربما ينتهي الأمر إلى إحداث حالة من الفراغ الدولتي

تقديري، أن الموقف الأول الذي أعلنته الحكومة المغربية، وإن لم يعلق على مقتضيات الاتفاق العسكري التركي الليبي، فإنه في المقابل، وجد الفرصة ليستبق ردود الأفعال الدولية، وحاجة المجتمع الدولي إلى البحث عن خيارات أخرى للتوصل إلى حل سياسي بديل عن لغة القوة العسكرية، فكان المغرب ربما من الدول السباقة للإعلان عن استعداه لبذل مجهود إضافي لإقناع الأطراف المتصارعة للعودة إلى اتفاق الصخيرات.
تحليل هذا الموقف، أن تقدير صناع القرار الدبلوماسي في المغرب، ربما يدركون أن الحل العسكري لن يحل المشكلة، وأن أقصى ما يمكن أن يتيحه أن يحدث توازن قوى في المنطقة، تدفع الأطراف الميدانية في نهاية المطاف للعودة إلى طاولة التفاوض، بعد أن تضطر القوى الإقليمية المتدخلة عبر إعمال قاعدة الربح والخسارة إلى تجنب أي معركة استنزافية.
والمثير في الموقف، أن هذا العرض لم يكن وحيدا في المنطقة المغاربية، فما أن عبر المغرب عنه حتى سارعت تونس ثم الجزائر إلى طرح العرض ذاته، وهو ما يعني من جهة، توحد القناعة المغاربية بأن الحل العسكري في ليبيا لن يحل المشكل ولن يخدم مصلحة الاستقرار بالمنطقة، ويعني من جهة أخرى، عودة التنافس الدبلوماسي لرعاية حل سياسي في ليبيا لاسيما بين المغرب والجزائر التي حدث تحول مفصلي في مقاربتها، كما يعني من جهة ثالثة، وعي الدول المغاربية بأن الوجود التركي في المنطقة، سيدفع القوى الإقليمية التي تدعم حفتر إلى إعادة تقييم الموقف، وتعريف مصالحها من جديد، بعيدا عن لغة القوة العسكرية، ولذلك تحاول الدول المغاربية أن تستبق هذه الحالة بتقديم عروضها الدبلوماسية الاستباقية. لكن المثير في الموقف المغربي، هو الموقف اللاحق الذي عبر بكل وضوح عن رفضه التدخل الأجنبي في المنطقة، فقد يبدو في أول وهلة أن المقصود هو الوجود التركي في ليبيا، لاعتبار أنه الطارئ والمستجد، لكن لغة الخارجية المغربية لم تبق الالتباس بالمفردات التي اختارتها، فهي تتحدث عن رفض التدخل الأجنبي بمجموعه وبمختلف الفاعلين فيه، ولا تعتبر التدخل العسكري التركي الطارئ سوى جزء من هذا المجموع المرفوض مغربيا.
معنى ذلك، أن المغرب يضع التدخل العسكري التركي في ليبيا في نفس الكفة مع مختلف أنواع التدخلات العسكرية الإقليمية الموجودة في المنطقة والداعمة للجنرال حفتر سواء كانت من جهة مصر أو الإمارات أو فرنسا أو أي فاعل ارتضى أن يغير مقتضيات اتفاق الصخيرات بلغة القوى والاصطفاف العسكري لتغيير موازين القوى بين الأطراف الميدانية.
البعض يعتقد أن المغرب اختار أن يمسك العصا من الوسط، وتجنب الاصطفاف مع أي قوى إقليمية في المنطقة، ولكن الواقع يبين تماسك الموقف المغربي وانسجامه، فالمغرب يوجد في وضع اعتباري حساس، لا يسمح له إلا بإنتاج الموقف الذي أنتجه، لأنه الراعي لاتفاق الصخيرات، الذي أخرج حكومة الوفاق الشرعية المعترف بها دوليا، وهو الذي ما فتئ يحذر من الخروج عن هذا الاتفاق، وتداعياته على الاستقرار والأمن في المنطقة، وكلفه ذلك خسارة دبلوماسية مهمة من علاقاته مع بعض دول الخليج المتوغلة في الملف الليبي، فلا يمكنه اليوم، لمجرد أن تركيا قررت لاعتبارات سياسية واستراتيجية عقد هذا الاتفاق العسكري مع الحكومة الشرعية، أن تجعل من رفضها للتدخل الأجنبي موجها فقط إلى تركيا، التي من المحتمل جدا أن تكون – عبر وزير خارجيتها عند زيارته للرباط- قد أخبرت المغرب بتطورات الوضع في ليبيا وتقدير تركيا لدورها في المنطقة وربما أرسلت إشارات طمأنة عن طبيعة دورها في المنطقة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: