الوساطة الأوروبية بين واشنطن وطهران

منذ وصل الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض والأوروبيون يحاولون إخماد الحرائق الأميركية التي يشعلها حول العالم. ليس حبا به ولكن تفاديا لألسنة اللهب التي يمكن أن تطالهم في عقر دارهم أو في مصالحهم خارج حدود القارة. هم يحاولون دون أن ينجحوا، ومع كل حريق جديد يشعله ترامب يزداد عجز الأوروبيين وتتسع الهوة بينهم وبين الولايات المتحدة.

آخر الحرائق كان قتل القائد الإيراني قاسم سليماني. يعرف الأوروبيون أن سليماني كان إرهابيا من الطراز الرفيع، ولكنهم يتخوفون من تداعيات قتله على أمن الشرق الأوسط وأمنهم. وسواء كبرت هذه التداعيات إلى حدود الحرب العالمية أو صغرت إلى مستوى العدم عسكريا، فإن الفعل الأميركي كان مربكا ومفاجئا للأوروبيين وكل حلفاء واشنطن بالمنطقة.

ربما يبالغ الأوروبيون في التخوف من ردة فعل الإيرانيين. ولكن ما تبوح به المعطيات حتى الآن يؤكد أن مقتل سليماني قد يعيد رسم خرائط الشرق الأوسط سياسيا وعسكريا. فالعملية جاءت على ما تبقى من دبلوماسية التواطؤ بين طهران وواشنطن من جهة، وبين الأوروبيين والإيرانيين من جهة أخرى. حان وقت تسمية الأشياء بمسمياتها وتبني المواقف الصعبة.

المواقف الأوروبية أصبحت أقرب إلى الأميركيين. اعترفت بريطانيا وفرنسا وألمانيا بأن سليماني كان يمثل تهديدا يفضل وأده، ولكنها أكدت في الوقت ذاته على أنها لا تريد نشوب حرب في المنطقة والعالم. تصدق هذه الدول ظاهريا على الأقل، رواية ترامب بقتله الجنرال الإيراني تجنبا للحرب وليس سعيا إليها، وتدعو طهران إلى التعقل في ردها العسكري.

تدرك إيران أن الأوروبيين لن يقفوا إلى جانبها ضد الولايات المتحدة. اختبرتهم في الاتفاق النووي وعرفت أن الرهان عليهم خاسر طالما بقي ترامب في السلطة. أول شيء فعلته أنها تراجعت عن التزاماتها النووية إلى حدود تبدو فيها في حلّ من الاتفاق النووي عام 2015، ثم اختارت مواجهة طويلة الأجل مع واشنطن عنوانها إخراج القوات الأجنبية من الشرق الأوسط.

ثمة الكثير مما يقلق الأوروبيين في المواجهة بين إيران والولايات المتحدة. هي ليست حربا تقليدية، وإنما حرب الأنفاس الطويلة التي تحمل المفاجآت. لا سلم بعد اليوم بين الطرفين وللمواجهة جبهات عديدة وأشكال كثيرة.

أكثر ما يخشاه الأوروبيون في الحرب المبهمة القادمة بين الإيرانيين والأميركيين، هو انجرارهم إلى مواجهة عسكرية لا يريدونها. كذلك يخشون أن تزيد هذه الحرب من تبعيتهم للولايات المتحدة، فيتحولوا إلى مجرد دمى خشبية تمارس وهم السيادة في العلاقات الخارجية. توجد لديهم بدائل عن ذلك ولكن جميعها يعني تضعضع التحالف بين بروكسل وواشنطن.

ترغب دول أوروبية مثل فرنسا وألمانيا باستقلالية كافية في قراراتها عن الولايات المتحدة، أو على الأقل العودة إلى تلك التكاملية التي كان يعيشها الأوروبيون والأميركيون قبل عهد ترامب. لا يبدو أن الخيارين متاحان ما دام ترامب يقطن البيت الأبيض. وبالتالي لا سبيل أمام الاتحاد الأوروبي إلا لعب دور الوسيط الذي يخشى قطع رأسه.

في التوتر بين واشنطن وطهران ما يتفاداه الأوروبيون أيضا. هناك بين المسلمين في دول أوروبا من يعتقد أن الولايات المتحدة بقتلها سليماني ومحاصرتها لإيران اقتصاديا، وتصنيف أذرعها الخارجية على قوائم الإرهاب، إنما تشن حربا شاملة على الشيعة في العالم. قد يبدو الأمر غير ملحوظ اليوم ولكنه يستحق الانتباه وتجنب التورط فيه على المدى الطويل.

يبدو هذا الاعتقاد واضحا من خلال الاستماع لبعض البرامج الإذاعية البريطانية التي اهتمت برأي الناس حول اغتيال سليماني. لا تريد الحكومات الأوروبية أن تتورط في مثل هذه الحرب بشكل أو بآخر. فذلك ينعكس على استقرارها الداخلي ويضعف من مصداقية وساطة تعتزم باريس ولندن وبرلين خوضها وفق بيان مشترك صدر عنها مؤخرا.

إحلال السلام في الشرق الأوسط بات مهمة صعبة. هناك من ينتظر قشة تنقذه من الحرب، وهناك من بدأ العد التنازلي لساعة الصفر في جهاد مزعوم وقوده الأبرياء. إن كان ترامب قد أمر بقتل سليماني لمنع الحرب وليس إشعالها كما يقول، فسيدعم الوساطة الأوروبية بين بلاده والإيرانيين. فربما تكون هي الوساطة الأخيرة بين الطرفين، وكلاهما يحتاجها بذات القدر والسرعة.

يرغب ترامب في التفاوض مع إيران لأسباب انتخابية، وتريد إيران التفاوض هربا من أوضاع اقتصادية خانقة. فإذا ما تم احتواء تداعيات مقتل سليماني بطريقة أو بأخرى، تصبح الظروف شبيهة بتلك التي جمعت واشنطن وطهران نهاية ولاية باراك أوباما الأولى.

نجاح الأوروبيين يحتاج أولا إطفاء الحريق الذي أشعله ترامب بقتل سليماني. وهذا يعتمد على عاملين، الأول نوع الرد الذي ستختاره إيران، والثاني احتواء واشنطن للرد وعدم التصعيد بعملية تدخل العالم في دوامة الفعل ورد الفعل. فتأتي مرة من ترامب وأخرى من خامنئي، وهكذا حتى يأتي يوم تخرج فيها الحسابات من عقالها وتقع الكارثة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: