السينما وسيلة أبناء المهاجرين العرب لمواجهة التطرّف

يتخذ أبناء العرب في أوروبا من السينما سلما لتحقيق أحلامهم في القضاء على صورة المسلم النمطية في عقول شعوب بلدانهم الجديدة، والتأكيد على أن التطرف لا يرتبط بهوية دينية أو قومية.

يواصل أبناء المهاجرين العرب في أوروبا توظيف السينما كوسيلة لتغيير الصور النمطية التي تطاردهم في المجتمعات الغربية ووصمهم بالتطرف والعنف، ويعتبرون الرسائل التي يمكن تضمينها عبر الأفلام تتجاوز في تأثيرها كثيرا المؤتمرات والتحركات الرسمية.

ولا تخلو المهرجانات العالمية حاليا من أعمال شباب يحملون دما عربيا أوروبيا مشتركا أو أبناء مهاجرين من الجيلين الثاني والثالث، ويقدّمون العالم الغربي في صورة غير معتادة عبر إثارة قضايا الهوية والانتماء ومشكلات اللجوء والاندماج ورحلات الهجرة غير الشرعية، بجانب قضيتهم الأساسية المتمثلة في الإرهاب والعنف.

ضحايا أبرياء

يبدو المخرج علاوي سليم (32 عاما) المولود في الدنمارك من أصول عراقية، من المخرجين الذين يسلكون ذلك النهج سواء عبر آخر أعماله الطويلة أو القصيرة على حد السواء والتي كان في مقدّمتها “أبناء الدنمارك” أو “أخي” و”أبناء آبائنا” و”منفى”، وتدور جميعها في فلك مواجهة مشكلة التطرف أو مشكلات الاندماج.

ويقول المخرج الشاب في حواره مع “أخبارنا الجالية ”، على هامش مشاركته في مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ41 التي انتهت مؤخرا، إن السينما هي المكان الجيد لمناقشة القضايا التي تهم العالم حاليا، فأعماله لا تركز على موضوع واحد، بل تتطرّق إلى عدد من المشكلات، وعبر مستويات متشعّبة في القصص التي يقدّمها.

أعمال علاوي سليم تحاول وضع جميع العناصر الرجعية، اليمين الفاشي أو المهاجرين المتطرفين، في مواجهة جرائمهم

وتحاول أعمال المخرج العراقي-الدنماركي وضع جميع العناصر الرجعية، اليمين الفاشي أو المهاجرين العرب المتطرفين، في مواجهة جرائمهم، مستشرفا مستقبلا يسوده التشاؤم حول اشتعال عنف دام بين طرفي الصراع اليمين المتطرف والإسلام الراديكالي، وسقوط ضحايا أبرياء بين الطرفين.

ويقدّم علاوي خليطا في أعماله من الممثلين العرب بين عراقيين ومصريين وفلسطينيين وأردنيين، ليجسد بعدالة تنوّع منطقة الشرق الأوسط وجذور الشخصيات الوافدة منها، أو ربما كي يعلن عن شعار واضح المعاني، مفاده: أن جميع العرب مهما كانت بلدانهم في الهم سواء.

ويؤكد أن فيلمه “أبناء الدنمارك” الذي يحمل اسم حركة متطرفة تدعو لطرد المهاجرين وعودة الدنمارك لأبنائها فقط، يناقش أزمة تنامي اليمين المتطرف والنازيين الجدد في أوروبا متبنيا وجهة نظر ترى أن العنف لا يولّد إلاّ عنفا، حتى أن بطل الفيلم، مالك، الذي طالما تبنى السلام كمنهج للحياة تخلى عن مبادئه وتحوّل إلى النقيض لتصبح دائرة الدم المُفرغة لا تنتهي.

ويضيف أن “أبناء الدنمارك” الذي تدور أحداثه عام 2025 بمثابة استشراف المستقبل القريب للمجتمعات المحتقنة بالتطرف بين كل الفئات، ورغم أنه ولد في بلاد يفترض أنها متحضرة، إلا أن ثمة أحداثا جمة أخرى تدور رحاها في الأعماق شبيهة بالفحم المشتعل تحت التراب، وقد يتكرّر السيناريو الذي رسمه بتفاصيله المأسوّية، إذا استمر الخطاب المتطرّف والتحريضي في إشعال تلك الفتنة الخامدة.

خيط واحد يجمع أسباب نزوع المرء للتطرّف هو الإحساس أن العالم مكان الظلم

أثار الفيلم جدلا في المهرجانات التي عرض بها، بسبب نهايته الدموية والتي تم تفسيرها بأن الاضطهاد والعنصرية هما السبب للإرهاب، لكن سليم يرى في حواره مع “أخبارنا الجالية ” أنها ليست الرسالة المنشودة بل هدفه الأساسي فتح نقاش حول قضية التطرف عموما وليس الترويج لها، والانطلاق إلى الصراع من أجل الحياة، والخوف والكراهية من الآخر الذي أصبح مظهرا شائعا في كل الشخصيات.

ويضرب المخرج الشاب مثالا بتاريخ السينما العالمية الذي يتضمن أفلاما كثيرة حول المعارك الحربية بكل تفاصيلها من عنف ودماء لكنها في مضمونها تناهض الحرب، وتضمين العنف وإظهار الشخصيات والآراء المتطرفة لا يعني بالضرورة مساندتها، فمعالجة الظاهرة تتطلب عرض أصواتها كي يمكننا التصدّي لها بشكل منطقي.

ضد الشعبوية

تشهد الأفلام العربية سواء أكانت قصيرة أم طويلة نشاطا في المهرجانات الأوروبية كتعويض عن ندرة عرضها بالصالات ودور السينما التجارية، إضافة إلى أنها أصبحت بمثابة محطة لقاء بين المبدعين العرب الذين يقيمون في الداخل وأبناء أوطانهم بالخارج.

ويوضح علاوي أن أحداث فيلمه تنطلق من تفجير إرهابي ضخم في العاصمة كوبنهاغن، حيث يتنامى التيار المتطرف في البلاد، وتتصاعد الصراعات العرقية مع اقتراب الانتخابات البرلمانية، ويصعد نجم قيادي يميني معاد للمهاجرين، وترتفع حملة استهداف الأقليات الشرق أوسطية فيما يتورّط شاب من أصول عربية مع جماعة متطرفة تستخدمه لتحقيق أغراضها.

وتظهر الرسالة التي يريد المخرج توصيلها بجلاء في أعماله مثل فيلم “أخي” الذي يروي قصة شابين من أصول عربية في أوروبا يبحثان عن كيان لنفسيهما قبل أن يقعا في فخ عالم الجريمة وتجارة المخدرات، أو “أرض الآباء” عن فشل عربي في مواصلة العيش بالدنمارك واضطراره إلى طلاق قاس أدى لانقطاع علاقته بابنه الوحيد، فيعود إلى الأردن ويختلق العديد من الأعذار لحثّ ابنه على العودة معه للخارج.

التطرف لا يرتبط بدين أو هوية

ويحاول المخرجون الشباب في المهجر أو في بلدانهم تغيير الصورة النمطية التي تظهر المسلم أو العربي في الغالب كإرهابي وقاتل وشهواني يسيء معاملة النساء، وشرس محب للدماء والتي ترسخت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، ليدحضوا لغة التعميم التي تسيطر على الأعمال الغربية، وتوضيح حقيقة التطرف والعنف كتيارات لا ترتبط بدين أو هوية.

ويشير المخرج العراقي إلى أن الأسباب التي تحمل المرء إلى التطرّف مختلفة، لكن يجمع بينها خيط واحد هو الإحساس أن العالم مكان الظلم، وجاءت ردود أفعال الدنماركيين على أفلامه طيبة، فكل من المواطنين الأصليين والمهاجرين يخشون على البلاد من تصاعد دائرة العنف في المستقبل، ويبحثون عن سبل للعيش المشترك سويا.

ويكتسب الوجود السينمائي العربي زخما أكبر من وصول بعض أبناء المهاجرين إلى دور البطولة في أعمال عالمية مثل مينا مسعود الكندي من أصل مصري الذي لعب بطولة فيلم “علاءالدين”، أو رامي مالك الأميركي الذي يحمل الأصول ذاتها وفاز بجائزة أوسكار عن فيلم “الملحمة البوهيمية”، الذي فتح الباب على تقديم صورة لقاطني المنطقة كشعوب مبدعة محبة للفن.

ويجسّد المخرج العراقي في أعماله أزمة الهوية التي يعيشها العرب المهاجرون، من العيش بمجتمعات توفّر الأمان لكلّ مَن لجأ إليها هربا من الظلم أو الحرب في بلده، لكن بعضهم لا يستطيع الاندماج ويشعر بالانفصال عن المجتمع، على عكس الأبناء الذين يعتبرون دول المهجر وطنهم بشكل ما، فهي البلاد التي يعيشون فيها ولديهم الاستعداد للحرب من أجل التغيير داخلها.

وتدعم بعض الجهات الرسمية الأوروبية تلك النوعية لمواجهة صعود الحركات المتطرفة بوجه عام، كالحكومة الدنماركية التي ساهمت في تمويل فيلم “أبناء الدنمارك”.

صراع الهوية

ويلفت علاوي في حواره مع “أخبارنا الجالية ” إلى أن السيناريو والقصة تمت مناقشتهما مع المموّل الحكومي، لكنه حصل على الحرية الكاملة في اتخاذ القرار الذي يريد في تقديم العمل، دون وصاية أو رقابة على الفنّ، طالما أنه لا يخالف القوانين.

تخشى أوروبا من صعود اليمين المتطرف الذي يحرّض على اتخاذ إجراءات مناهضة للإسلام والمسلمين، وتكوّنت جماعات متطرفة مثل حركة “أوروبيون وطنيون ضد أسلمة الغرب” التي تسعى لتشكيل جبهة موحّدة لليمين المتطرف.

ويؤكد المخرج الشاب أن كل ما يقوله رجال السياسة في أعماله حقيقي، بل يقول السياسيون في الدنمارك ما هو أفظع منه بخطاب يستخدم لغة التحريض والعنف ضد المهاجرين.

قبل سنوات، كان الحزب اليميني المتطرف “هارد لاين” مجهولا بالدنمارك قبل أن تتزايد شعبيته بسرعة مع ضجة أثارها زعيم الحزب راسموس بالودان بتنظيم مظاهرة مناهضة للإسلام في أبريل الماضي بحي نوربرو المتنوّع عرقيا في العاصمة تحت شعار “أوروبا لنا”، وأدت إلى اشتباكات عنيفة بين المحتجين والشرطة ومخاوف من تزايد ظاهرة “الشعبوية”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: