الجولة الثانية للربيع العربي ستزعزع الأنظمة الفاشلة

المحللون والخبراء الاجتماعيون يرفعون سقف توقعاتهم بأن الموجة الجديدة من الانتفاضات الشعبية قادرة على التغيير الجذري وخلخلة الأنظمة التقليدية خاصة التي تنبني على أسس طائفية ومذهبية، وأنها ستتولى تصحيح أخطاء الموجة الأولى من الربيع العربي التي هيمن عليها السياسي وغاب فيها العمق الاجتماعي. لكن غياب نخب مستفيدة من التغيير وقادرة على إدارته لفائدتها قد يقود هذه الانتفاضات إلى المربع الأول، مربع الاحتجاج الغاضب الذي يعود إلى القبول بالأمر الواقع.

جاءت الموجة الثانية من “الربيع العربي” أكثر جذرية، وهادفة إلى تصحيح الموجة الأولى التي هيمن عليها السياسي وأغفل جوهر الاحتجاجات، أي البعد الاجتماعي الاقتصادي. ورغم اختلاف التفاصيل والشروط الموضوعية لكل بلد، فإن جوهر الانتفاضات التي استمرت لأسابيع، أو تلك التي توقفت بعد أن أطلت برأسها ثم خمدت لعدم توفر الشروط الكافية، فإن ما يجمع بينها هو الذهاب إلى تغيير أعمق يطال الأنظمة التي تلعب دور الوكيل والحامي لمنظومات الفساد.

ويحيط الالتباس بتسمية “الربيع العربي”، هل هو استجابة موضوعية لمطالب الشعوب المنتفضة أم تم الاشتغال عليه في دوائر الاستخبارات الغربية؟ ويعود جزء من هذا الالتباس إلى تسميات سابقة صاغتها وسائل إعلام غربية لانتفاضات شعبية سابقة (براغ وأوكرانيا..) كانت تهدف إلى تفكيك النفوذ الروسي في مرحلة الاتحاد السوفييتي أو ما بعدها.

ويبدو ارتباط ثورات الربيع العربي في جولتها الأولى أو الثانية بنظرية المؤامرة ممكنا، لكنه تفسير محدود يهدف إلى التغطية على فشل تجارب الدولة الوطنية في الشرق الأوسط بوجوهها المختلفة سواء الأنظمة الليبرالية أو العسكرية التي استثمرت إمكانيات بلدانها للبقاء في السلطة.

وكانت الموجة الأولى من الربيع العربي بمثابة صرخة في واد عميق، حيث ردد المنتفضون في بلدان عربية كثيرة شعارات إسقاط النظام دون امتلاك بدائل أو أولويات. وحين سقطت الأنظمة كقطع الدومينو لم تكن الجماهير المنتفضة قادرة على الإمساك بالسلطة وتركتها إما للإسلاميين الذين لا يمتلكون بدورهم سوى شعارات فضفاضة عن “الإسلام هو الحل”، وإما للدولة العميقة ذاتها التي نجحت في استعادة المبادرة ووظفت أدواتها للإمساك بالسلطة إما بالقوة أو بالمناورة من بوابة مدنية أو عسكرية.

وانتهت الموجة الأولى إلى تغييرات شكلانية على الأدوات السياسية، لكن الوضع الاجتماعي ازداد سوءا وزاد ارتهان الدول العربية الفقيرة إلى البنوك الدولية وفشلت محاولاتها لإجراء إصلاحات هيكلية لإنقاذ اقتصاديات متهاوية، خاصة أن تلك الإصلاحات لا تمتلك بدائل على الأرض سوى التقشف وتقليص الدعم على المواد المعيشية الأساسية، وزيادة الضرائب، وهو ما فجّر الموجة الثانية.

انتقال سياسي

الانتقال السوداني لم يختبر بعدُ صلابته بسبب التحالف الظرفي الاضطراري بين القوى المدنية والعسكر

بدأت شرارة الموجة الثانية في مصر ثم تم تطويقها أمنيا وإعلاميا تحت عامل الخوف من العودة إلى مربع العنف وتهديد كيان الدولة، لكنها مرشحة لانفجار جديد في أي لحظة بسبب تراكم الأزمات وعجز السلطات عن وضع أرضية لبدائل استراتيجية والاكتفاء بتوظيف الدعم المالي الخليجي لإدارة الوضع الاجتماعي بشكل مؤقت.

وفي السودان، حققت الانتفاضة انتقالا سياسيا جذريا على أنقاض انقلاب 1989، لكن هذا الانتقال يحتاج إلى مرور ثلاث سنوات انتقالية لاختباره على الأرض عبر الانتخابات، ومدى قدرة القوى المستفيدة من التغيير في الحفاظ على نفوذها والقطع مع عودة القوى القديمة من بوابة الانتخابات مثلما جرى في تونس سنة 2014 بسبب فقدان القوى الصاعدة للبرامج والخبرة في إدارة مؤسسات الحكم، فضلا عن صراع المحاصصة والتعاطي مع الدولة بعقلية الغنيمة.

ولم يختبر الانتقال السوداني بعدُ صلابته بسبب التحالف الظرفي الاضطراري بين القوى المدنية والعسكر، وهو تحالف صامد إلى الآن بسبب تركيز الأضواء الخارجية على الانتقال في السودان، ووجود الاتحاد الأفريقي كضامن قوي، فضلا عن الدعم المالي الخليجي السخي الذي ساعد على بناء الثقة بين الشارع السوداني والطبقة السياسية المستفيدة من التغيير.

لكن التفاؤل المبني على العامل الخارجي لا يكفي لأن يكون ضمانة للتغيير خاصة أن القوى المستفيدة منه لها أجندات وارتباطات متناقضة، وقد تختلف أو تتناقض مصالحها في كيفية إدارة المؤسسات وتقسيم مناطق النفوذ ليسقط كل شيء، خاصة أن جزءا من هذه القوى يمتلك الأسلحة والمقاتلين وجيء به إلى الاتفاق تحت الوعود والإغراءات.

وتفضي هذه التعقيدات إلى نتيجة مهمة، وهي أن الانتقال السياسي في السودان قد يأخذ وقتا طويلا، وقد يسقط في بناء نظام سياسي هجين كالذي تم تطبيقه في العراق وتونس، أي النظام البرلماني المعدل بشكل يجعل مهمة إدارة الحكم أمرا مستحيلا ويحوّله من بعدها الشامل إلى مجرد لعبة صراع بين الفرقاء.

وكل هذا سيؤجل الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي تعيد الأمل للسودانيين وتستجيب للمطالب الحينية مثل توفير الخبز والوقود وتحسين الخدمات في النقل والصحة، والتي تتوفر الآن بسبب الدعم السعودي الإماراتي. لكن هذا الدعم، الذي يهدف إلى إعطاء دفعة قوية للتغيير في السودان وقطع الطريق على عودة الإخوان، لا يمكن أن يكون دائما وعلى السلطات الجديدة أن تخرج من شرنقة السياسي إلى التركيز على الأبعاد الأخرى والقيام بالإصلاحات العاجلة.

وإذا كان التغيير السياسي مطلبا شعبيا في بعد رمزي هادف إلى الانتقام من نظام عمر حسن البشير الذي راكم الأزمات في البلاد، إلا أن الشارع قد يعود في أي لحظة إلى الاحتجاج للمطالبة بحقه من نتائج التغيير بعيدا عن حسابات السياسيين في تقاسم السلطة أو تفكيك الدولة العميقة.

قيادات مرتهنة للخارج

التيارات الراديكالية التقليدية عاجزة عن بناء نموذج للعدالة الاجتماعية

هناك مخاوف جدية في السودان أن تذهب القيادات الوافدة على السلطة إلى تنفيذ أجندات عرقية وقبلية وأيديولوجية، ما يخلق حالة من تناقض المصالح تؤدي إلى مواجهات عسكرية تعيد البلاد إلى مربع العنف.

وتتشابه القيادات الوافدة إلى السلطة في السودان مع تجربة القيادات التي تمسك بالعراق الآن، وهي قيادات ولاؤها خارج الوطن، ولاء للطائفة ولمرجعيتها في الخارج، وهو ما يفسر إمساك إيران بمختلف مصالح العراق بحماس من وكلائها الذين يحكمون بغداد.

ويضاف إلى ذلك أن القادة الذين يحكمون العراق كانوا قادة ميليشيات عسكرية ما قبل غزو 2003، وتدربوا في إيران وسوريا، وارتبطوا بشبكات تخابر لفائدة جهات أجنبية غربية، وهو الأمر الذي ساعد على رهن العراق لاتفاقيات عسكرية وأمنية واقتصادية غير متكافئة.

وتونس نفسها، البلد الوحيد، الذي شهد نجاح الشرارة الأولى، قد تشهد موجة ثانية أكثر عنفا لتصويب الموجة الأولى التي تم اختطافها وتجييرها لتتحول إلى لعبة سياسية مفرغة من أي عمق شعبي، في ظل عجز النخب الجديدة عن اجتراح بدائل بالرغم من إجراء ثلاث دورات انتخابية في تسع سنوات وصعود أسماء وسقوط أخرى من داخل النخب الجديدة.

ومع انطلاق الاحتجاجات في سوريا المطالبة بكسر نظام الحزب الواحد والقائد الملهم، دفع الغرب بخليط من المعارضين الذين تم منحهم اللجوء منذ سنوات، وبينهم اليساريون والإخوان وشخصيات مائعة بلا هوية امتهنت كل المهن، وحين حانت اللحظة دخلوا إلى المشهد كبدائل احتياط، وهو أحد العناصر التي غيّرت المشهد من انتفاضة تلقائية إلى عسكرة في مواجهة “مؤامرة خارجية” قبل أن يتم الاستنجاد بالإرهاب لتحويلها إلى حرب مفتوحة على المجهول.

ومن الواضح أن الغرب لجأ إلى التيارات العابرة للدولة القطرية كاحتياط لإعادة تدوير نفوذه بعد فشل أنظمة الاستبداد التقليدية، ففي مصر وتونس لم تكن الولايات المتحدة تخفي انفتاحها على الإسلاميين وفتح الطريق أمامهم لاستلام السلطة قبل أن تغير حساباتها بعد أن تحولت الفوضى التي خلقها حكم الإسلاميين، على قصره، إلى فضاء خصب للجماعات المتشددة مثل داعش والقاعدة.

ولم تكن النخب التي تصدرت الواجهة ما بعد موجة الربيع العربي قادرة على إدارة بلدانها، لكونها ظلت لعقود على هامش الدولة في معاركها مع الأنظمة القديمة، كما أنها لم تكن تختلف معها في الرؤية الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما أفضى إلى تسليم الدولة العميقة مهمة إدارة الملفات ذات الأولوية الاجتماعية فيما اكتفى السياسيون الوافدون على الحكم، وفي أغلب الأحيان هم وافدون من خارج البلد بما يشبه السيرك السياسي والإعلامي بإدارة جدل لا ينتهي مع خصومهم الأيديولوجيين.

أيّ بدائل

هل تنجح معركة العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد

الانتفاضة الجديدة ضربت الإسلام السياسي الشيعي في مقتل وأطاحت بشعاراته ورموزه ومسّت بشكل مباشر بمرجعياته في مراكز نفوذها التقليدية. في لبنان تم حرق صور أمين عام حزب الله حسن نصرالله، ووجد خطاب المقاومة نفسه في مواجهة الشارع الغاضب، فلا قيمة لمقاومة ترهن البلاد لأجندات خارجية وتغطي على الفساد وتدافع بحدّ السيف عن نظام المحاصصة الطائفية.

وفي العراق فشل المرجع الأعلى علي السيستاني في لعبة المناورة بوضع ساق مع الاحتجاجات وأخرى مع منظومة المحاصصة وباتت مواقفه مثار سخرية. والأمر نفسه في إيران حيث حرق محتجون صور علي خامنئي ورفعت شعارات بشأن الفساد في المؤسسات العليا التي يديرها المرشد الأعلى بما فيها مؤسسة الإرشاد والحرس الثوري، وهي المؤسسات التي تقول إنها تطبق نظرية ولاية الفقيه كرؤية إسلامية شيعية للعدل.

وبان بالكاشف أن جماعات الإسلام السياسي بوجهيها الشيعي والسني التي تصدت لمهمة الحكم لم تحمل بدائل لبناء نماذج اجتماعية تخدم الناس، ولا هي قادرة على طمأنة الغرب ليضع فيها ثقته في خلافة الأنظمة الاستبدادية التقليدية التي حكمت لخمسة عقود دون أي نجاحات تذكر في المجالات الحيوية رغم مرونة النموذج الليبرالي الذي تبنته.

وإذا كانت أحزاب الإسلام السياسي فشلت في أن تكون بدائل جدية، ومن قبلها النماذج الليبرالية واليسارية والقومية، فإن الموجة الجديدة من الانتفاضات ستجد نفسها في وضع صعب كونها عاجزة عن إفراز نخب تعبّر عن اللحظة التاريخية، وتكون قادرة على خوض معركة العدالة الاجتماعية ولجم الفساد الذي بات سمة رئيسية في تجارب الإسلام السياسي الشيعي، وفي مرحلة ما بعد 2011 في تجارب الإسلام السياسي السني.

ورغم أن روح اليسار هي الأقرب لقيادة الموجات الشعبية الراديكالية، إلا أن اليسار العربي، رفض أن يتطور كما تطور اليسار الأوروبي أو يسار أميركا اللاتينية وتمترس في مربع الأيديولوجيا ومعاداة الدين، ما جعله في الكثير من الحالات خادما وظيفيا لتثبيت الرأسمالية المحلية ووكلاء الشركات الدولية الكبرى، وهو ما يجعل الرهان عليه صعبا في إعادة بناء تجارب اقتصادية تعطي الأولوية لتحسين شروط العيش.

ويذهب الغاضبون من تجارب الأحزاب الأيديولوجية إلى أن الحل في الرهان على التكنوقراط كونهم الأقرب لخدمة الدولة لاعتبارات تتعلق بالتخصص العلمي في المجالات الحيوية، فضلا عن غياب نوازع الهيمنة على الدولة واختراقها وتجييرها لمجموعة عابرة للدولة ومرتبطة بالخارج.

لكن مشكلة هذه الفئة من المتخصصين أنهم لا يمتلكون رؤية جامعة لأزمات البلاد، وأنهم ينظرون إلى الإصلاحات بالعقل البارد، ما قد يجعلهم أقرب إلى تنفيذ النماذج التي تريدها الصناديق المالية الدولية، خاصة ما تعلق بالتقشف وتقليص الدعم والزج بمؤسسات وشركات محلية مرتهنة للفساد والبيروقراطية للمنافسة في سوق عالمية ستبتلعها، ومن ثمة ضرب الاقتصاديات المحلية التي تحتاج قبل الإصلاحات المؤلمة و”العولمة” إلى الحمائية ورعاية الدولة.

صحيح أن الموجة الجديدة من الانتفاضات استفادت بشكل كبير من مزايا الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي في كشف منظومات الفساد والارتهان للخارج، لكن كيف يمكنها تحويل هذا الزخم الجارف إلى نتائج على الأرض في معركة العدالة الاجتماعية، ومكافحة الفساد؟

ويدفع غموض الأفق، وغياب النخب الطليعية والأحزاب القادرة على تحويل الغضب الشعبي الجارف إلى مكاسب، الأنظمة في لبنان والعراق وإيران إلى اللعب على الوقت ومحاولة دق الإسفين بين المحتجين تحت مسوغات طائفية مثل صرخة “شيعة شيعة في لبنان” والتخويف من تفجيرات داعش، واستعادة مناخ المؤامرة الإسرائيلية الأميركية في العراق،
في وقت لم تعد الجماهير تأبه للشعارات القديمة “المقاومة والممانعة” وباتت تتحدى الزعامات الطائفية بوجه مكشوف.

ورغم التفاؤل بأن تحقق الموجة الجديدة مكاسب اجتماعية خاصة في ظل صلابة الأجيال الشبابية الجديدة في التحدي، لكن الأنظمة الأيديولوجية الحاكمة، قد تتراجع خطوات بشكل مؤقت ثم تعيد الالتفاف على المطالب الشعبية بإجراءات وقرارات أخرى مثل زيادة الضرائب أو الرفع في الأسعار، وهو ما لا تقدر الجماهير على أن تواجهه كل شهر أو شهرين بانتفاضة، فحماس الناس لا يتكرر  دائما بنفس القوة، فيما لو كانت هناك قوة نقابية أو حزبية تتبنى تلك المطالب، فإنها تقدر أن تفرض على السلطات تنازلات مؤلمة تكون مقدمة لخلخلة النظام السياسي الطائفي خاصة باستهداف منظومة الفساد التي تسنده وتقويه.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: