الانتخابات المقبلة : الأهم في تاريخ بريطانيا

لأول مرة منذ نحو قرن من الزمن، تجري بريطانيا انتخابات عامّة في شهر دجنبر، وذلك بعد حصول رئيس الوزراء بوريس جونسون على موافقة النوّاب في مجلس العموم على إجراء انتخابات مبكرة في مسعى للخروج من مأزق بريكست. وتأتي هذه الانتخابات التاريخية في واحد من أكثر المناخات السياسية المشحونة التي يمكن لأي شخص تذكّرها. ووفق الخبراء، كل شيء تقريبا حول هذا التصويت غير عادي ولا يمكن التنبؤ به.

بعد مرور حوالي ثلاث سنوات على تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، يبقى موعد المغادرة النهائي وشروطه غير واضحين. لكن الواضح أن هذه السنوات القليلة كانت كافية لتقسم البلاد سياسيا ويمكن أن تجعل المملكة المتحدة “مجرّد اسم”، على حد تعبير غوردون براون، رئيس الوزراء البريطاني السابق، الذي اعتبر أن الانتخابات التي ستشهدها البلاد في دجنبر المقبل تهدد بتقسيمها بشكل أكبر، مع تصاعد الكراهية إلى جانب الشعبويات المتنافسة.

وتجري بريطانيا انتخابات عامة في 12 دجنبر 2019 لاختيار 650 نائبا جديدا في البرلمان من أجل تشكيل حكومة جديدة. وستكون أولى مهام النواب الجدد البتّ في ما إذا كانت البلاد ستخرج من عضوية الاتحاد الأوروبي وكيفية تحقيق ذلك وتوقيته.

لكن، لن تؤثر نتائج الانتخابات على البريكست فقط، بل ستؤثر أيضا على احتمال إجراء استفتاء ثان على عضوية الاتحاد الأوروبي، وكذلك على إجراء استفتاء استقلال ثان في اسكتلندا، وكذلك على السياسة الخارجية والأمنية لبريطانيا، وفي النهاية، على مكانتها في النظام الدولي ككل.

من هنا، يصف الباحث في المعهد الملكي البريطاني للسياسات الخارجية (تشاتام هاوس)، ماثيو غودوين، هذه الانتخابات بأنها الأهم في تاريخ بريطانيا المعاصر. وقال عنها مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، إنها يوم الحساب لواحدة من أقدم الديمقراطيات في العالم؛ فيما كتب غوردون براون، في صحيفة الغادريان، محذّرا من أن الانتخابات تخاطر بتقسيم البلاد بشكل أكبر، وعلى السياسيين معالجة الفجوة قبل فوات الأوان.

نتائج الانتخابات لن تؤثر على بريكست فقط، بل ستؤثر أيضا على السياسة الخارجية والأمنية لبريطانيا، وفي النهاية، على مكانتها في النظام الدولي ككل

يعتبر بروان أن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، والمحافظين، أحد أسباب هذه الأزمة، مشيرا إلى أن جونسون، يصعّب مهمة البريكست. فـ”من خلال الانفصال عن الاتحاد الأوروبي من دون صفقة، والذي تم بالكاد تجنبه في أكتوبر الماضي، يخطّط حزب المحافظين لخلق بريطانيا متعصّبة وانعزالية، وكذلك لخلق مجتمع غير منظّم وحتى غير متكافئ”.

ورغم أن حديث بروان، العمّالي، لا يمكن فصله عن المناخ الانتخابي التنافسي، إلا أنه يعكس حقيقة المشهد البريطاني اليوم من حيث الحديث عن الانقسام و”سمّ الشعبوية” الذي يلوث الخطاب العام. ووفقا لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة هوب آند هيت، يعتقد 77 بالمئة من البريطانيين الآن أن البريكست يغذي شعور التعصب ويزيد من انقسام البلاد أكثر من أي وقت مضى؛ فيما يعلق براون على ذلك بقوله “أوقعنا البريكست في خلاف مع بعضنا البعض أكبر حتى من خلافنا وقت ضريبة الاستطلاع وحرب العراق”.

ويشير استطلاع الرأي إلى أن حوالي 67 بالمئة من الناخبين من أصول أفريقية وآسيوية وبقية الأقليات العرقية اعتبروا أن العنصرية آخذة في الازدياد. وقال حوالي 56 بالمئة إنهم تعرضوا لبعض أشكال المضايقات في العام الماضي. وأفاد 70 بالمئة ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاما أنهم يتعرضون للترهيب العنصري على وسائل التواصل الاجتماعي.

لكن الانقسامات “المريرة والمتفاقمة”، وفق تعبير براون، تمتد إلى ما وراء هذه البيئة المعادية وتتخطى المعركة الحالية بين المؤيدين والمعارضين للبريكست. فـ”البلاد مقسمّة الآن بشكل أكثر حدة بين الشمال والجنوب، وبين الأغنياء والفقراء، وبين الدول الأربع التي ظلت متماسكة وساعدت على تشكيل المملكة المتحدة حتى وقت قريب”.

ويضيف براون أنه “في ظل تهديد الحزب القومي الاسكتلندي بزيادة تقسيم حزب المحافظين الذين يكافحون للحفاظ على قوميتهم الإنكليزية بزعمهم أن اسكتلندا ستحكم بريطانيا تحت مظلة حزب العمال، فإن الفضائل والمثل البريطانية العظيمة مثل التسامح والمسؤولية المدنية والتبادلية بين الأمم والدولية البراغماتية، ستصبح تاريخا وماضيا على يد سلالة جديدة من القوميين غير المهتمين بإنهاء الانقسامات ولكن باستغلالها بدلا من ذلك”.

كما تطرق في مقاله إلى الجدل الدائر حول عدم نشر تقرير من لجنة المخابرات والأمن في البرلمان البريطاني بشأن التدخل الروسي في استفتاء الانفصال، والتحذير من تدخل روسي جديد في انتخابات 2019.

وقال براون “لا نعرف حتى الآن النطاق الكامل للتسلل الأجنبي إلى وسائل إعلامنا وسياستنا الاجتماعية، لأسباب ليس أقلها أن تقرير لجنة الاستخبارات البرلمانية حول التدخل الروسي في استفتاء عام 2016 تم حجبه عن عمد. ولكن يتضح أن سياستنا أصابها الإعياء، فضلا عن اشتعال العداوات بسبب الأموال والحيل القذرة”.

غوردون براون: الانتخابات تخاطر بتقسيم البلاد بشكل أكبر مع تصاعد الكراهية إلى جانب الشعبويات المتنافسة

بريكست الأهم

رغم التحديات التي تحدث عنها بروان، يبقى البريكست أهم النقاط التي تشغل بال البريطانيين عشية الانتخابات التي يصعب إلى حد الآن التنبؤ بنتائجها، وفق دراسة تشاتام هاوس، حيث يشير ماثيو غودوين إلى أن تقدم المحافظين بفارق 11 نقطة لا يضمن فوزا مؤكدا.

ويبني جونسون حملته على برنامج شعبوي يتهم الاتحاد الأوروبي والمعارضة بعرقلة إرادة الشعب وخيانة نتيجة استفتاء بقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي الذي مثّل نقطة انطلاق العملية بأكملها؛ فيما يجد حزب العمّال صعوبة في تشكيل رسالة متماسكة، حيث تريد بعض أطرافه التفاوض على صفقة مع الاتحاد الأوروبي، بينما تريد أخرى عقد استفتاء آخر لدراسة رأي البريطانيين الجديد المتعلق بخروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي.

وتشير استطلاعات الرأي إلى تواصل رغبة جزء كبير من الناخبين في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بعد 3 سنوات من الاستفتاء. وقد  يؤدي هذا إلى انتصار مؤيدي الخروج مما يمكن أن يزيد من فرص تحقيق ذلك دون صفقة في سنة 2020.

ويمكن أن تعقّد الانتخابات المبكرة الأمور أكثر.ويشير ماثيو غودوين إلى أنه منذ أن صوّت أغلب النواب على إجراء الانتخابات، حقق حزب المحافظين نسبة تصويت قدرها 38 بالمئة، وحزب العمال المعارض 27 بالمئة، والديمقراطيون الأحرار 16 بالمئة، وحزب البريكست 10 بالمئة، والخضر 4 بالمئة، والحزب القومي الاسكتلندي 3 بالمئة.

ويمكن أن يشير جونسون أيضا إلى مقاييس أخرى مواتية لحزبه. حيث عندما يُسأل الناخبون عمّن سيصبح “أفضل رئيس للوزراء”، تقول نسبة قدرها 43 بالمئة من الناخبين جونسون، بينما تختار أقلية صغيرة (20 بالمئة) زعيم حزب العمال، جيريمي كوربين.

وتشير استطلاعات الرأي أيضا إلى أن جونسون، على وجه العموم، يكتسب ثقة لدى الناخبين أكبر من كوربين بخصوص التعامل مع قضية بريكست والاقتصاد، بينما يميل جيريمي كوربين إلى التركيز على القضايا المرتبطة بالصحة. كل هذا يضفي مصداقية على الادعاء بأنه يمكن لحزب المحافظين أن يفوز بأغلبية المقاعد، ومن ثم إقرار مشروع قانون اتفاقية الانسحاب في أوائل عام 2020. لكن هذه الاستطلاعات تخفي أيضا الكثير من التحولات الأخرى التي من الممكن أن تحدث لتجعل نتائج الانتخابات العامة لعام 2019 غير متوقعة. أحد هذه التحولات يتعلق بالقيادة. ويشرح غودوين ذلك بقوله “بينما يتمتع بوريس جونسون بسمعة قيادية أقوى من جيريمي كوربين، إلا أنه يجب أن نتذكر أن ما يميز الجيل الحالي من قادة الأحزاب في بريطانيا هو أنهم لا يتمتعون بشعبية”.

وتكشف بيانات جمعتها شركة إبسوس موري أنه في حين أن جونسون يسجل أدنى التصنيفات لأي رئيس وزراء جديد، فإن جيريمي كوربين من حزب العمال يسجل أدنى تصنيفات لأي زعيم معارض.

تحديات للأحزاب التقليدية

الفضائل والمثل البريطانية العظيمة مثل التسامح والمسؤولية المدنية والتبادلية بين الأمم والدولية البراغماتية ستصبح تاريخا وماضيا على يد سلالة جديدة من القوميين غير المهتمين بإنهاء الانقسامات ولكن باستغلالها بدلا من ذلك

يؤيد ماثيو غودوين رؤية غوردن بروان حول الانقسام، مشيرا إلى أنه من أبرز مفارقات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تحول أحد أكثر الأنظمة الحزبية استقرارا في العالم إلى سباق من أربعة أحزاب، في ظل تشكيل حزب الديمقراطيين الأحرار المعارض لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وحزب البريكست، بقيادة نايجل فاراج، المتشكك في الاتحاد الأوروبي تحدّيا خطيرا للحزبين الرئيسيين.

ويستشهد بأرقام استطلاع آخر للرأي جاء فيه أن حزبي العمال والمحافظين لا يجذبان سوى 61 بالمئة من إجمالي الأصوات. وقد تحول عدد كبير من الناخبين الذين صوتوا لصالح حزب العمال في انتخابات 2017، أي واحد من كل أربعة، إلى التصويت لصالح حزب الديمقراطيين الأحرار، الذين يعدون بإلغاء المادة 50 و”إلغاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي”.

وبالتالي، سيؤدي هذا الانقسام في التصويت إلى احتمال ظهور نتائج غير متوقعة على مستوى الدوائر الانتخابية. وفي الطرف الآخر من سباق الأحزاب، يتصارع حزب المحافظين في ظل مواجهته تهديدا مماثلا ولكنه أقل خطورة. حيث يجذب نايجل فاراج وحزب البريكست حوالي واحد من كل عشرة أشخاص صوتوا لصالح حزب المحافظين في عام 2017، مما سيجعل مهمة بوريس جونسون المتمثلة في الاستيلاء على مقاعد حزب العمال المؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أصعب.

ويمكن التنبؤ قليلا بما سيحدث في المرحلة القادمة من خلال تصنيفات القيادة، حيث في حين أن 80 بالمئة من الناخبين في حزب البريكست يفضلون جونسون عن كوربين، فإن 25 بالمئة فقط من ناخبي حزب الديمقراطيين الأحرار يفضلون كوربين عن جونسون. وقد تكون محاولة جونسون لدمج تصويت “المغادرة” أسهل من محاولة كوربين لدمج تصويت”البقاء”، وفق دراسة تشاتام هاوس.

ويقود هذا الوضع غودوين إلى الحديث عن عامل آخر يجعل الانتخابات غير متوقعة، وهو التقلب. حيث تعد هذه الانتخابات الخامسة على مستوى البلاد خلال أربع سنوات فقط. وبعد الانتخابات العامة لعام 2015، واستفتاء الاتحاد الأوروبي لعام 2016، والانتخابات العامة لعام 2017، وانتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2019، أصبح النظام السياسي والناخبون البريطانيون في حالة تقلب مستمر. وعلى طول الطريق، قام عدد كبير من الناخبين بإعادة تقييم ولائهم.

وكما أوضحت دراسة الانتخابات البريطانية، فإن المعدل الحالي لـ”تبديل الأصوات” في السياسة البريطانية لم يسبق له مثيل في تاريخ البلاد المعاصر. وخلال حملات الانتخابات الثلاثة التي أجريت في 2010 و2015 و2017، قام 49 بالمئة من الناخبين بتغيير أصواتهم.

هذا التحول اللافت في السياسة البريطانية وتغيير الولاءات الحزبية التقليدية لا يرتبط بالضرورة بصفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فالتعلق بالأحزاب الرئيسية يضعف منذ الستينات. لكن بريكست سرّع هذه العملية وأعطاها الأسباب التي تجعلها أكثر وضوحا. وكل هذا يجعل من انتخابات ديسمبر 2019، الأهم في تاريخ المملكة المتحدة المعاصر.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: