التشكيلي المغربي مراد بنكيران: طائر يبحث عن حب الجمال بعين نافذة

يتواصل برحاب جامعة “نيو إنغلند” بطنجة المغربية معرض استرجاعي لأعمال الفنان المغربي مراد بنكيران من تنظيم الجامعة ومنتدى طنجة الدولي، وبالتعاون مع دار العرض “دار دار”. ويضم المعرض أكثر من خمسين لوحة تنتمي إلى أربع مراحل من مسيرة الرسام التي انطلقت قبل أربعة عقود.

يعرض الفنان التشكيلي المغربي مراد بنكيران  لوحاته الفنية بفضاء الجامعة الأميركية “نيو إنغلند” بطنجة، خلال الفترة الممتدة ما بين 7 سبتمبر الجاري وحتى 7 أكتوبر القادم.

واختار بنكيران مدينة طنجة، التي ولد وترعرع فيها، لعرض تجربته الفنية التشكيلية التي تتمحور حول “تجاوز المرئي والواضح والمجرد للوصول إلى تصورات لا مرئية”. ويظهر المعرض جانبا جديدا من التجربة الحياتية لبنكيران، ينضاف لمساره العلمي والأكاديمي، حيث إنه حاصل على شهادة الماجيستير في اللسانيات وعلى شهادة جامعية في علوم الكمبيوتر، كما أنه مدير المدرسة العليا للتكنولوجيات الحديثة ومدير فرع جامعة “نيو إنغلند” بطنجة.

ذاكرة بصرية حية

لعل سنوات الطفولة لا تحدّد ملامح الرجولة فقط، فيما يستقبل من عمر الإنسان، بل تظل تقود الخطوات نحو ما شاهده الطفل وهو صغير، وسمعه وعلق بالذهن ووعاه أم لم يعه. أليست الذاكرة حديقة لحالات عاطفية قديمة تؤثر على تمثيلاتنا دون إدراك ذلك؟

والطفل مراد بنكيران قادته خطواته، خلال هذه المرحلة العمرية، بين أزقة مدينة فاس القديمة، فاختزنت ذاكرة الطفل الروائح المختلفة. روائح صناعة الجلد وألوانه، من “الشُكَّارَة”/ الزَّعْبُولَة”، إلى “البَلْغَة” بألوانها المتعدّدة: الأصفر، والبني، والأحمر القاني.. وتسرّبت عبر حاسة البصر الألوان والأشكال.

وعن هذا الوعي الطفولي البكر بالألوان يقول التشكيلي المغربي مراد بنكيران في حواره  “ما اقترب أحد من أفراد عائلتي من فن الرسم، أو حمل ريشة أو أقلاما ورسم. لكن جدي، من جهة الوالد، اشتغل ‘بالدْبَاغْ’. وكان يتاجر في ‘البْطَايْنْ’ (جلود الحيوانات)، وجسدها مرشح للصباغة، كل ألوان الصباغة، ويتاجر في الأمْهار، والأفراس أحيانا. كما كان ثلاثة من أبناء عمومتي يخيطون ‘السْتُورْمِيَّاتْ’ (مخدات خاصة) و’البوفات’ (الكراسي الجلدية المغربية) أيضا، ويهيمنون على هذا الصنف من الصناعة التقليدية وسوقه. ويختار لها، لتسحر الزبائن، أبهى الألوان وأزهاها. هي مرحلة الحبو في مسيرتي الفنية حيث خطبت الألوان ود بصري، وفؤادي”.

الميزة الكبرى لأعمال بنكيران، أنه وهو ينثر ألوانه وأشكاله لا يمنح العمل صفة الاكتمال ليمنحك الدلالة الواحدة

ويروي الفنان بنكيران أن ما أثر فيه منذ الصغر هو الأزقة، واللوحات التي كتبت عليها أسماء الشوارع والأزقة، والصور المرسومة بالفسيفساء، والكلمات المشكلة عبرها. كما الفسيفساء التي تزيّن فضاءات الأضرحة، والنقوش، والأشكال، والخطوط.

ويضيف “كلها ألوان تشدّ الخاطر، وتسكن العين، وتتسرّب عبرها إلى الفؤاد. ولا شك أنها تولّد مشاعر مختلفة، وتسكن قلب هذه المشاعر، وتنزل هذه إلى قاع الذاكرة تنتظر لحظة النداء عليها ذات يوم، وحين كنت أعود إلى فاس، وأنزل إلى المدينة القديمة تنتعش تلك المشاعر، تنبعث، فتحتل الذاكرة، لتنهمر متدفقة”.

ومن هناك يفتح مراد بنكيران العين، في رسومه، على ملحقات: الأشكال، والأحجام، والزوايا، وزاوية النظر، والألوان، والضوء والظل، ذلك كله يختلط ببعضه البعض ويشكل أمورا أخرى لا تعيها البصيرة، ولكنها تستقر بالفؤاد.

وينتقل بنكيران في حديثه إلى مرحلة الشباب، قائلا “في فاس، التي عدت إليها طالبا بشعبة اللغة الإنكليزية وآدابها، يوسوس لي ابن عمتي أن أقيم معرضا حيث شغلت لوحاتي حيزا مهما من الغرفة”.

وبالفعل، أقيم هذا المعرض الفردي الأول بالمركز الثقافي الإسباني بفاس في العام 1984، وشمل لوحات رسمت بالمداد الصيني، وأخرى بالصباغة، وصنف ثالث رسم بالصمغ وتناول فيها مراد المشاهد الطبيعية؛ إنه شيء شبيه بالرسم الإعدادي (الكْرُوكِي).

مراد بنكيران: لوحاتي تعكس ما احتفظت به الذاكرة، وما ألفته حاسة البصر

وعن هذه المرحلة  ، لعل اللجوء إلى الرسم بالصمغ بعض بقايا مرحلة الدراسة بالكتّاب؟ فيقول “قد يكون في ذلك محاولة الجواب على السؤال التقليدي الذي يراود المبتدئ على نفسه؛ إضفاء طابع الأصالة على العمل. رسم مغربي بمنتوج مغربي هو الصمغ. وقد يكون فيه العمل بما يوجد تحت اليد، وتوفره بالسوق بكثرة وبثمن بخس، عكس الصباغة وثمنها المرتفع الذي قد يعصف بميزانية الطالب والذخيرة. ثم إن الصمغ يصمد، لا ينمحي. بينما يتغير اللون مع مرور الزمن فيصبح قريبا من الذهبي”.

حاولت رسوم مراد بنكيران أن تعكس ما احتفظت به الذاكرة، وما يعبّر عن قوة الحنين إلى الطفولة، وما ألفته حاسة البصر؛ لذلك حملت اللوحات الأولى صور: امرأة ترتدي الحَيك، والأبواب، والأقواس، والأزقة، والمتاهات.. هي متاهات البداية.

وكانت المفاجأة! بيعت كل اللوحات. كأن القدر احتضن مراد، وضع بين كفيه ثمار أتعابه وغلة اجتهاده. ورحل الفنان الشاب خلال العطلة الصيفية إلى البرتغال، وإسبانيا، وفرنسا ولم يتوقّف عن بيع لوحاته.

وهناك رأى بعض الفنانين الأوروبيين يعرضون لوحاتهم على أرض الأسواق الشعبية الأسبوعية، ويقتني الناس منها ما أعجبهم. اصطف إلى جانبهم وعرض منتوجه. وكان الإقبال، للثيمة الشرقية، وللملامح الشرقية سحرها، ألم تقد خطوات كبار رسامي أوروبا نحو “الشرق الساحر” ومنه المغرب: كدولاكروا، وماتيس؟ فلعل القدر يعوّض له استثمار الزمن والمال.

رحل مراد بنكيران إلى فرنسا للدراسة، قضى أربع سنوات (1985-1989) بمدينة ليون، حيث درس اللسانيات، ولغة وثقافة الدول الناطقة بالإنكليزية، بجامعة الأنوار، ليون الثانية. وهناك انخرط في معترك الرسم وثابر على العمل، لأن مواد الرسم متوفرة بكثرة، وسعرها معقول، وما كان معقولا يومها في المغرب.

لوحات تستقر بالفؤاد

وعن التجربة الفرنسية، يقول “ثم إن العائلات التي تعرّفت عليها هناك، ورأى بعض أفرادها أعمالي، وشغفي بالرسم شرعوا يشترون مواد الرسم ويقدّمونها إليّ بمثابة هدية. كما قدّموا إليّ كتبا تتناول حيوات الفنانين وأعمالهم ومنهم فان غوخ.. فضاعفت عدد ساعات الرسم. واعتبرت ذلك تجندا من الحظ لخدمتي، فثابرت على العمل قبل أن ينسحب، من يصدق إخلاص الحظ؟”.

ويلاحظ أن رسوم الفنان المغربي في مرحلة البرتغال، وإسبانيا، وفرنسا عرفت تغيرا، حيث اتجهت نحو رسم الطبيعة، كما تغيّرت الألوان أيضا، وتسرّب إليها اللون الأخضر الذي حاز نصيب الأسد. والأخضر يليق بأوروبا، يقول بنكيران “ألم يفتتن الشعراء العرب بطبيعة الأندلس، وأفردوا لوصف الطبيعة قصائد خاصة؟”.

وكما الشاعر جاك بريفير افتتن مراد بنكيران بالطائر الذي جمع في شخصه كل المعاني: حلم الأطفال بالحرية وإطلاق الجناحين للريح، لذلك حضر الطائر في رسومه بكثافة، لتضعنا ريشته أمام النظرة المليئة بالفخر والاعتزاز بالطائر. طائر مركب من عدة أنواع من الطيور منها الطاووس، وقد يكون طائرا أسطوريا، وللكائن الأسطوري معنى التركيب من أنواع شتى.

ولعل الميزة الكبرى لأعمال مراد بنكيران أنه، وهو يقدّم مشاعره ورؤاه، أو ينثر ألوانه وأشكاله لا يمنح العمل صفة الاكتمال ليمنحك الدلالة الواحدة، أو يصوغ العمل من طبيعة واحدة بل هو مركب، ليبتعد عن أصل يسكن الذاكرة، ويحتمل تسمية واحدة، ويستقر عند دلالة واحدة، بل يبدو كأن مكوناته لا تزال تتفاعل مع بعضها البعض لتنتج دلالة هي التي يدركها كل مشاهد في لحظة معينة. كأنما يترك أبواب شكل اللوحة والدلالة “مشرّعة”، كأن للرسم مستويات، وعلى امتداد الفحص تظل الصورة تتحوّل، ويتّسع معها مدى الإدراك.

وتحضر العين في عدة رسوم للفنان المغربي، وكأنه يريد أن يقول هي جماع الحواس، والعقل. هي الإدراك، عين الإدراك. وتبدو في حركة دائبة لتلتقط كل شيء. أهي عين الفنان الذي يطارد التفاصيل الخبيئة، المقنّعة والمتمنّعة؟

نماذج متنوّعة

عين الفنان الذي يطارد التفاصيل الخبيئة

في رسم لمراد بنكيران بعنوان “انبلاج”، يبدو جسد غير واضح الملامح، يجب أن نملأ بياضات اللوحة لتكتمل الصور ذهنيا. وقد يستثمر كل مشاهد جهدا في جانب من الجسد لإنتاج دلالة. وقد يحيل الرسم أيضا على “دون كيخوته دي لا مانتشا” عنوان الوجود الإسباني وتحوّله. كما يلاحظ عودة اللون الفاسي، أو العكر الفاسي، وهو اللون الأحمر غير القاني. وكانت النساء، قبل ازدهار صناعة الماكياج يضمخن وجناتهنّ بالعكر الفاسي فيزيدهنّ سحرا على سحر، أو يمنحهنّ بعضه إن لم يكن لهنّ حظ منه.

ويهيمن اللون الأحمر غير القاني على الرسوم الأخيرة لبنكيران، وهو لون الدم: محرك الحياة، والضامن لاستمرارها، ورمز الوجود.

وفي لوحة من دون عنوان، نرى شكلا لبيت متخيّل، يمنح الانطباع مع طول النظر بأنه زورق سابح على وجه البحر. وفي لوحة أخرى تستوقفنا أفعى. هي رمز الإغراء، والإغراء يدفع نحو البحث عن المتعة. والمتعة تدر الفرح. أيكون مراد بنكيران بدّل الأفعى شكلا غير مستقر منح رسومه في هدوئها ولا استقرارها وجمودها، وتحوّلها، السحر  والمتعة وجعلها تدر الفرح؟

ويوحي معرض الفنان التشكيلي مراد بنكيران بأن الفنان المغربي يتحرّر من تبعات اليومي، ويلقي بنفسه في يم الخيال، ليفتح آفاقه، ويوسّع ضفافها، ويحرض ذاكرة المشاهد على السفر إلى أبعد الحدود. وذلك ليخاطب فيها فكرة التحوّل في وعي الإنسان ولا وعيه. كثيرة هي الرسوم التي حين نطيل إليها النظر، ونتفحصها بدقة، تظل الأشكال تتغيّر وفق المدة التي نظل نمعن النظر فيها في اللوحة: من النظرة الأولى، إلى الانخراط في لحظة تأمل، فالاقتراب منها أو الابتعاد عنها.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: