عبدالله ساعف المفكر المغربي الذي يكشف عن هوية المجتمع والدولة

جمع العلم والتواضع مع رحابة الصدر كَحِمْيَة صوفية فعالة ضد ضغوط الشهرة والانتشار، عاش ليتعلّم ممن حوله أبجديات العلم والسياسة ثم جلس على كرسي العلم لروي ظمأ الباحثين عن المعرفة. زاوج بين الممارسة السياسية كمناضل يساري مع التنظير في علم الاجتماع والحقوق والسياسة، لكنه في كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالرباط يظل أستاذا للتعليم العالي، ميّز دائما بين الأكاديمي والسياسي، وأهم التزام في حياته هو العلاقة بالبحث والتدريس، ودائما هناك تمييز بين المجالين.

تمرّس ساعف على فنون المعرفة، فتم اختياره وزيرا للتعليم في حكومة التناوب في عهد الاشتراكي عبدالرحمن اليوسفي في العام 1998، ولا يزال معنا يذكّرنا بما يجب أن نفعل في ما استشكل علينا، ونذكره كرمز كبير في المشهد الثقافي المغربي، وكمدير مركز للدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، تم تصنيفه كأهم مركز دراسات مغربي، ومن بين أهم عشرة مراكز الأشد تأثيرا في العالم، بحسب جامعة بنسلفانيا الأميركية، رغم أن ما يعاب عليه أن غالب منشوراته بغير اللغة العربية.

ساعف يزاوج بين الممارسة السياسية كمناضل يساري مع التنظير في علم الاجتماع والحقوق والسياسة وحقول الأدب المتسعة في عالم الرواية

شهادات كثيرة في حق الموسوعي ساعف تؤكد أنه من أبرز شخصيات الفعل السياسي والنقابي والعمل التطوعي بالمغرب حيث أبان عن التزام سياسي بالغ الأثر في منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، من خلال شغله عضوية لجنتها المركزية لمدة طويلة، ومشاركته في كل المحطات التي مرت بها المنظمة، قبل الانشقاق عنها وتأسيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي اندمج مع الاتحاد الاشتراكي قبل سنوات.

يقول عنه جامع بيضا، مدير مؤسسة أرشيف المغرب، إنَّ المسؤوليات الكثيرة التي تحمّلها ساعف، وانخراطه الدائم في الخوض في القضايا الأساسية للمجتمع، جعلت منه مثقفا مناضلا، تحمّل مسؤوليته إزاء مجتمعه، كما أنّه آمن بأهمية الثقافة في إنارة درْب النضال، ولذلك عمِل دائما على توسيع أفُق معارفه، ونَهَل بنَهم من الكتب القانونية والفلسفية والسياسية، ما جعَله من أبرز المثقفين الموسوعيين في المغرب.

عالم بأبجديات السياسة

النخبة المتهمة

المثقف الحقيقي المعني بشؤون مجتمعه هو من يفكر بشكل استشرافي في الحال والمآل، ماذا نملك وكيف ندبّر ما نملكه من ثروات طبيعية وبشرية، هكذا هو ساعف، ما يشغله هو الكيفية المثلى لتدبير سكان المدن المغربية خصوصا تلك التي تملك ثروات باطنية من ذهب وفحم ورصاص وغيره، تركيزه منصب على القدرة على التجديد وإعادة الأحياء كشيء بنيوي في تدبير السياسات العمومية.

على امتداد سنوات عمره البالغ اليوم 70 عاما، استطاع ساعف أن ينقش اسما له رنينه الأكاديمي وكلمته الوازنة في العلوم السياسية والاجتماعية. جمع بين الخبرة في المجال الجمعوي والسياسي، فاختمرت عنده أفكار وممارسات طرحها للإفادة كمورد فكري وعملي.

يطالب الكل في المغرب، شعبا وملكا، بضرورة تغيير العقليات التدبيرية والبروفايلات التي لا تملك حسّا مهنيا ووطنيا وتكوينا سياسيا وعلميا، وفي هذه المرحلة يرى ساعف أننا نحتاج إلى تسييس المجتمع وهذا شرط أساسي للتقدم.

وكمتشبع بقيم الحداثة والديمقراطية وحرية إبداء الرأي والحوار الجاد البناء ناضل ساعف من أجل نقاش عمومي للملفات الكبرى والقضايا الأساسية يجب أن يسود داخل المجتمع المغربي، مقارنا بين جيل عاش مرحلة الاستعمار ونشاط الحركة الوطنية وفترة الاستقلال وما طبعها من نقاشات سياسية وجيل حالي لم يحظ بتلك التنشئة.

وفلسفة التسييس عند ساعف مرتبطة بالعقلانية كشرط أساسي لتعبئة المجتمع بشكل مستمر وغير قابل للتجزيء المناسباتي كالانتخابات مثلا، فالحياة السياسية لها منطقها وسيرورتها وتحتاج إلى حركية حزبية دائمة ومستمرة وموجات التعبئة التي حصلت إلى الآن، سواء من فوق أو من تحت، محدودة.

التساؤل الملح هو هل ما نعيشه الآن بالمغرب أزمة نخبة أم مشكلة رؤى وتصورات استراتيجية؟ سؤال تم طرحه كثيرا في الآونة الأخيرة إلى الحد الذي طالب فيه ملك البلاد رئيس حكومته بالبحث عن كفاءات تصلح لتعديل حكومي تتطلبه المرحلة. نخبة سبق لساعف أن طرح بخصوصها أفكارا ورؤى سواء كسياسيين أو فاعلين في المجتمع المدني أو مثقفين. وهو يشكّل حُجّة تُفنّد ما يُشاع عن أنّ النُخبة المثقفة المغربية بعيدة عن الالتزام بقضايا المجتمع، بهذه الكلمات عبّر محمد النشناش، الرئيس السابق للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، عن رأيه في الرجل، واصفا إياه بـالهرَم المغربي الذي يعتزّ ويفتخر به المغرب.

رصد المجتمع المدني

ساعف يوصي بأن أهم الرهانات هي جعل الدولة تتحرر من توجهها نحو تفضيل نزعاتها السلطوية الأمنية، وأن تبني علاقة توازن أفضل مع متطلبات موقف أكثر ديمقراطية

المستويات التي تتمازج فيها الحركات الاجتماعية، مع تطور فلسفة المجتمع المدني، لحظة هامة في حركية المجتمع، ويفصل ساعف في المسألة بالقول إن المرور من وضعية حركة جمعوية إلى وضعية مجتمع مدني، ومن وضعية مجتمع مدني إلى وضعية حركات اجتماعية ليس واضحا ومتميزا، فالفاعل الجمعوي صار يغير من مواقعه بحسب تغيّر الأوضاع .

ولما كان التمويل أمرا ضروريا في العمل الجمعوي، فقد جعلت الجهات المانحة الجمعيات رهينة لتؤطّرها عن بعد بواسطة سياسة طلبات العروض، مما منع من بلورة طبيعية لوعي حقيقي، لذا ينبغي حسبما يرى ساعف، إضافة الاستراتيجيات الجديدة للمانحين والممولين الذين ساهموا في ارتباك وتشويش عمل الجمعيات وحولوها إلى هيئات تقدم الخدمات.
العناية بالحركة الجمعوية المغربية تعتبر من بين أولويات ساعف نظرا لإيمانه بالأدوار التي يلعبها المجتمع المدني، لكن ما يعيب على نشطاء هذا المكون هو تعاطيهم لأنشطة مربحة على العموم، ولم يعد لديهم الوقت للتعامل بشكل كامل ودون تحفظ للنضال الجمعوي كما كانوا يفعلون في السابق.

إذا كانت المحافظة شيئا يطبع المجتمع المغربي ومجالات الإصلاح ترتكز على الحذر والتدرج والتأني، لاعتبارات تاريخية وسوسيولوجية بالغة الأهمية، فإن ساعف يوصي بأن أهم الرهانات هي جعل الدولة تتحرر من توجهها نحو تفضيل نزعاتها السلطوية الأمنية، وأن تبني علاقة توازن أفضل مع متطلبات موقف أكثر ديمقراطية، مع بذل الحركة الجمعوية كل طاقاتها من أجل خلق فضاء مبني على التفاوض والتأمل والتشاور.

وعلى هذا الأساس نال ساعف جائزة الشيخ “عيسى بن علي آل خليفة للعمل التطوعي”، في العام 2017، وأعرب حينها عن فخره بنيل تلك الجائزة، مؤكدا أن تتويجه بهذا التقدير العربي، هو اعتراف ضمني لهيئة عربية بقيمة ومكانة المجتمع المدني المغربي وجهوده في خدمة قضايا التنمية.

أبدع عدد من الفاعلين والباحثين في الشأن السياسي المغربي مفردات سياسية تعبّر عن أي مرحلة سياسية واجتماعية تمر بها البلاد، ومنها ما اصطلح عليه بالانتقال الديمقراطي، لكن ساعف يرد بأن المغرب يعيش بدل هذا الأخير، انتقالا سياسيا يتسم بلحظات تتراجع فيها المملكة، وأخرى تتقدم فيها.

وعليه فإن ما وقع نهاية التسعينات من انقلاب في اليقينيات الأيديولوجية والسياسية بعد انهيار جدار برلين، وما يمثله من قطيعة مع حقبة ابستمولوجية وسياسية وثقافية، لم ينعكس ذلك على الفاعل السياسي المغربي. وهنا يفسّر ساعف الأمر بأن الأحزاب اليسارية فشلت في القيام بما يلزم من إعادة تقييم ومراجعة وكذلك فعلت الأحزاب الليبرالية التي انتشت بانتصار هش لم تتمكن معه من تعمق تملّكها المشروع الليبرالي، وفي ظل هذه الفوضى وضبابية المشهد صعد على حين غفلة من الجميع الإسلام السياسي كمكون جديد، آت من عمق المجتمع كذلك.

فلسفة التسييس عند ساعف مرتبطة بالعقلانية كشرط أساسي لتعبئة المجتمع بشكل مستمر وغير قابل للتجزيء المناسباتي كالانتخابات مثلا، فالحياة السياسية تحتاج إلى حركية حزبية دائمة

الكل لمس الضعف الذي طال الأحزاب السياسية المغربية لكنها لم تتفكك، وفي تحليله للوضعي يرجع ساعف إلى حكومة التناوب التوافقي في العام 1998، وحتى يعطي تبريرا موضوعيا فقد كون هذه الفكرة عندما كان وزيرا للتعليم، فملاحظته انصبت على نقط معينة منها أنه عندما كانت تجتمع الأحزاب السياسة التي شاركت في حكومة التناوب من أجل إعطاء أفكار حول سبل النهوض بأوضاع التعليم، كانت مقترحاتها متشابهة ومكررة.

ضعف الكيانات الحزبية لم يكن للسلطة أي يد فيه حتى وإن كان هناك تدخل روتيني هنا أو هناك، فساعف وبمجهر الباحث المتيقظ اعتبر أن السلطة استمرت في نهجها ببناء ذاتها وصيانة قوتها ومركزها، لكنها تركت الأحزاب تضعف من تلقاء نفسها، لأنها تدرك أن تدخلها قد يُقوّي تلك الأحزاب.

أما وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة في العام 2012، وهو الذي كان يمثل معارضة ذات خصائص مختلفة، فقد اعتبر حدثا جرى في ظل شروط أبرزها الإعياء الذي أصاب الأحزاب التقليدية، الحزب اغتنم حركة 20 فبراير لبناء قدرة جديدة للتفاوض بين الفاعلين السياسيين.

واقع آخر نتج عن ارتباك أو عدم عناية بالواقع الحزبي المغربي تمثل في عدم إعطاء أولوية تقييم تجارب المشاركة في الحكومات السابقة والوقوف على مواطن الضعف والقوة لاستخلاص نتائج التدبير السياسي، بمعنى أن هناك تراكما أخد وقته الكامل ليختمر ويعطينا ما نعيشه الآن، وهنا تخلص ذهنية ساعف الأكاديمي وعالم الاجتماع، إلى أنه لا بد من التفكير في مرحلة حزبية انتقالية وعلى الأحزاب العمل على أفكار وتصوّرات جديدة تبرز من خلالها شخصيتها على أساس التجارب التاريخية التي عاشتها.

كل التنظيمات السياسية، يمينية ويسارية، تتحمل المسؤولية لأنها لم تقم بالمراجعات والاجتهادات اللازمة، والبحث عن الطرق الأكثر نجاعة في التعامل في القضايا المطروحة كما أنها لم تنجح في وضع مسافة بينها وبين السلطة، وهنا يشرح عبدالله ساعف، أن السلطوية بنية مادية ومصالح وتكتل وثقافة، وطريقة معالجتنا لقضايا معينة.

البداية من التعليم

محاولة أدبية لفهم الحاضر وبناء عقيدة مستقبلية

لا مستقبل للمغرب دون منظومة تعليمية متطورة تستجيب للواقع ولتطلعات المواطن في عيش أكثر كرامة واستقرارا وتماسكا واندماجا داخليا وانسجاما مع تحولات المحيط الدولي على كافة المستويات، وأزمة التعليم بنيوية في أساسها وتتطلب إصلاحات تمس قطاعات مرتبطة به، لكن الخطاب الذي يصف وضع التعليم بالكارثي تشخيص فضفاض وغير دقيق ولا يتفق معه ساعف.

فالوضع يتميز بجوانب إيجابية وأخرى متوسطة مع العديد من النقاط السوداء، ومن هذا المنطلق دعا وزير التعليم السابق للخروج من اجترار الدعوات المؤسسة على فشل المدرسة العمومية وتجاوز هذا الطرح بإبداء نوع من التفاؤل مادام هناك هامش للانتقال والحركة، وإلى جانب تكييف البرامج مع التطورات الحاصلة في العالم والتنبؤ بالحاجيات المستقبلية لا بد من إدخال جرعة إبداع في المنظومة التربوية والانفتاح على التجارب الرائدة.

هناك من يرى أن التعليم ليس من وظيفة الأحزاب بل مهمة المجتمع المدني، وحتى لا يخرج عن إطاره النقدي البناء وعدم الابتعاد عن جوهر المشكل، لفت ساعف إلى صعوبة الحديث عن محاكمة السياسات الإصلاحية في قطاع التعليم، لأنها تعتمد التخطيط الاستراتيجي الذي يمتد لسنوات طويلة، ما يجعل نتائجها مرتهنة لعامل الزمن وتعاقب المسؤولين.

على العكس من آخرين انتقدوا حكومة التناوب، وجلدوا اليساريين الذين آمنوا بضرورة المشاركة في تدبير الشأن العام والدخول في دواليب السلطة والتعرف على ميكانيزمات تسيير المؤسسات، فإن ساعف يوضح أن فكرة المشاركة لم تكن تدعي أنها ستصلح كل شيء وإنما “سنخاطر ونتحمل المسؤولية ونحاسب في ما بعد”.

وبحسّه الأكاديمي ونظرته السياسية يلفت ساعف إلى أن المرحلة كانت بمثابة تمرين سياسي لا غالب فيه ولا مغلوب، ولا يحق لأحد الادعاء والمزايدة بربحه على طرف آخر، فلا المشاركين كسبوا الرهان ولا المقاطعين حققوا شيئا. فتجربة حكم اليساريين تجربة معقّدة سياسيا وخارج منطق التقييم السياسي ومقومات ثقافة التقييم.

وحتى عندما انبرى باحثون في العلوم السياسية ومراقبون لإخضاع حكومة الإسلاميين لمنطق المقارنة مع تجربة اليساريين الذين دبّروا الشأن العام في عهد اليوسفي، خرج ساعف بأدواته التحليلية ليقول إن إمكانية مقارنة حكومة بن كيران بحكومة اليوسفي لا توجد أصلا، فحكومة الأخير تتميز فقط بكونها ولدت إثر الربيع العربي، وفي ظل الدستور الجديد.

الأدب الحامل للوعي

لم يطرق ساعف ميدان الرواية من باب الترف الفكري أو تزجية للوقت، بل كان محاولة أدبية لفهم الحاضر وبناء عقيدة مستقبلية تأسيسا على ما حدث بالأمس، وهذا ما تناولته عدد من الأعمال منها رواية الحافلة مثل “سر الشارع الكبير”، الصادرة باللغة الفرنسية، كسردية سياسية تناولت ما اصطلح عليه بـ”سنوات الرصاص”، التي تبحث في جوانب الصراع الذي كان على أشده بين السلطة والمعارضة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.

وبين الأكاديمي السوسيولوجي والأدبي يحلم ساعف بنص جامع يمكنه من قول الأشياء الواقعية والعلمية والموضوعية بشكل يجذب القارئ ويفرض عليه الإنصات، لذا يختم بألا حدود للتخصص.

وبهذا الفهم العميق لأدوار السلطة بالمغرب على مر العصور، كما يخلص ساعف، تُطرح بشكل جوهري مسألة المصالحة بين الدولة والمجتمع، وتمثل ذلك في العصر الحديث من خلال التناوب في العام 1998 والإنصاف والمصالحة بعد تولي الملك محمد السادس الحكم.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: