المغرب بعيون ديلاكروا: بلد التنوع الثقافي والديني

تعتبر لوحة زفاف يهودي بطنجة لأوجين ديلاكروا من أبرز اللوحات التي تعكس تأصل ثقافة التسامح الديني والتنوع الثقافي في المغرب. وهذه اللوحة هي واحدة من مجموعة رسومات أرخ من خلالها الفنان الرسام الفرنسي الثقافة المغربية في القرن التاسع عشر ونقلها إلى الغرب. وتحضر هذه اللوحة ضمن بقية أعمال ديلاكروا في ندوة دولية في الرباط تناولت موضوع “اللوحة المغربية لأوجين ديلاكروا من 1832 إلى 1863”. وترمي هذه الندوة إلى طرح مقاربات من زوايا معرفية متعددة لاكتشاف العمل الفني لأوجين ديلاكروا، وللتعرف على شخصيته في لحظة حاسمة من تاريخ المغرب ضمن الإشكالية المعقدة المتعلقة بدراسة التمثلات، فضلا عن إبراز العطاء الذي ساهم به في الإبداع الفني والأدبي، وكذلك تسليط الضوء على تاريخ المغرب بعيون خارجية.

ربطت الرسام الفرنسي أوجين ديلاكروا (1798- 1863) علاقة خاصة بدول شمال أفريقيا، وبشكل خاص المغرب الذي زاره سنة 1832. وقضى عدة أشهر رسم خلالها مجموعة كبيرة من اللوحات التي عكست تطور نظريته في الألوان وقد تركت الرحلة تأثيرها على مسيرة ديلاكروا الفنية.

وعبر لوحاته احتفى ديلاكروا، مبدع لوحة الحرية تقود الشعب، بالمغرب وألوانه ونقل ثقافته إلى الغرب. واليوم، يعيد المغرب إحياء ذكرى هذا الفنان الذي يقول عنه رئيس المؤسسة الوطنية للمتاحف في المغرب، المهدي قطبي إنه كان خير سفير لبلاده، وتمكن من نقل ثقافة المغرب وألوانه وأنواره إلى الغرب.

ويستضيف المغرب في العام 2020 معرضا مكرسا للرسام الفرنسي، تسبقه ندوات وفعاليات منها ندوة افتتحت الأربعاء 11 غشت  2019 بمقر أكاديمية المملكة المغربية بالرباط، حول موضوع “اللوحة المغربية لأوجين ديلاكروا من 1832 إلى 1863”.

وتعدّ هذه الندوة، التي تنظم خلال أيام 11 و12 و13 سبتمبر الجاري، محطة للنقاش وتبادل الآراء حول العالم الفني للرسام الفرنسي، الذي يحتضن بألوانه وموضوعاته صورا مغربية خلال زيارته له ضمن مهمة دبلوماسية، أتاحت له بذل جهد متجدد في التأليف واستخدام ألوان زاهية لفتح العديد من النوافذ على هذا العالم الشرقي الذي يزوره من جديد.

وتشكل هذه الندوة موعدا مميزا للتبادل والتفكير في إطار منظومة من النظرات المتقاطعة، قصد فهم الفنان وزمنه على نحو أفضل. وتقترح في إطار مقاربة متعددة التخصصات جعل الجمهور يكتشف أعمال وشخصية أوجين ديلاكروا، وذلك في لحظة جوهرية من تاريخ المغرب.

بعد حضاري

في كلمة له بالمناسبة، أبرز أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، عبدالجليل لحجمري، أن تنظيم هذه الندوة الدولية يندرج في صلب اهتمام أكاديمية المملكة المغربية بتعميق البحوث ذات العلاقة بالفنون الجميلة في بعدها الثقافي والحضاري، ضمن المهام الرئيسية التي نص عليها الظهير الشريف المؤسس للأكاديمية.

وأضاف أن هذه الندوة تعد مناسبة متجددة لإعادة اكتشاف الأعمال التي خلدها أوجين ديلاكروا حول المغرب في مرحلة تاريخية عرفت جملة من التفاعلات الثقافية والتمثلات الفكرية، مؤكدا أن الأعمال الفنية للرسام الفرنسي حول المغرب تعد عابرة للزمن وما فتئت تثير الاهتمام لدى الأجيال المقبلة والسابقة على حد السواء.

لوحة زفاف يهودي في المغرب التي رسمها ديلاكروا في عام 1839 قدمت صورة مختلفة عن الشرق المتسامح

كما أكد أن ديلاكروا روّج للمغرب في صورة إيجابية وموضوعية تخالف الأفكار السلبية السائدة خلال القرن التاسع عشر عن الشرق عموما والمغرب بشكل خاص، كما بذل جهدا سياسيا للتقريب بين فرنسا والمغرب خلال فترة حكم السلطان مولاي عبدالرحمن والملك لويس فيليب.

ورحبت المحافظة العامة بمتحف اللوفر، دومينيك دوفنت ريو، بالمشروع المغربي لتكريم ديلاكروا، مشيرة إلى أن هذه الندوة تعد تظاهرة استثنائية تتناول حدثا مهما في التاريخ الثقافي والفني العالمي، وتحديدا في شقه المتعلق بالمغرب وفرنسا.

وجاءت رحلة ديلاكروا التي استمرت لخمسة أشهر ضمن بعثة دبلوماسية أمر الملك لويس فيليب الأول بإرسالها إلى السلطان مولاي عبدالرحمن نهاية سنة 1831، حيث جرت العادة آنذاك أن يرافق كتاب ورسامون البعثات الدبلوماسية من أجل توثيق الأحداث.

وما فتئت أن مثلت رحلة ديلاكروا إلى المغرب سنة 1832  نموذجا لرحلة الفنان، حيث شكلت مصدر إلهام للرسام الفرنسي وخلفت تأثيرا دائما على الإبداع في المغرب وفرنسا والعالم، باعتبارها مغامرة فنية خلقت روابط بين البلدين وفناني العالم.

وخلال الجلسة الافتتاحية للندوة قدّمت دوفنت ريو عرضا شاملا للوحات التي رسمها أوجين ديلاكروا، وصورا لبعض التحف المغربية التي جلبها معه من رحلته إلى المغرب والتي أثارت إعجابه، معززة ذلك بشرح مستفيض للسياق والدلالات الخاصة بتلك الأعمال.

ذكريات مغربية

المهدي قطبي:  دولاكروا نقل ثقافة المغرب وألوانه وأنواره إلى الغرب

تقدم لوحات ديلاكروا صورة عن المغرب في القرن التاسع عشر. ولا تعكس هذه اللوحات الأشياء المادية والبارزة فقط بل تعكس في ثناياها الطبيعة المغربية وما تحمله من تسامح وتنوع ثقافي وديني.

وتحدّث عن ذلك الكاتب والمتخصص في الصوفية محمد فوزي الصقلي العلمي، قائلا إن “حفل الزفاف اليهودي في المغرب هو حدث ينطوي على تنوع ثقافي وديني متجذر في هذا البلد الذي ارتسم في خيال أوجين ديلاكروا ومخيلته”.

ويقصد الصقلي بحديثه لوحة زفاف يهودي في المغرب التي رسمها ديلاكروا في عام 1839 بناء على مجموعة ملاحظات ورسومات بقيت في ذاكرته خلال حضوره حفل زفاف لعائلة يهودية بطنجة. ووفق الصقلي، كانت هذه اللوحة انعكاسا للشرق الآخر الذي يتجلى في عرس يهودي-موريسكي يتجاوز الغرائبية ويبرز تنوع الثقافات والعادات والديانتين اليهودية والإسلامية.

كما أبرز الدور الذي اضطلعت به الشخصيات الصوفية التي التقاها الفنان خلال مقامه بالمغرب، وتحديدا السلطان مولاي إسماعيل الذي سمح للطوائف الدينية بأن تزدهر كمراكز روحية، والأمير عبدالقادر وماء العينين، والذين كانوا يعدون رمزا للشهامة الروحية وقيم النبل والتواضع.

وأضاف الكاتب المتخصص في الصوفية أن ديلاكروا كان، قبل مجيئه للمغرب، شديد الولع بالمشرق، فراودته نفسه أن يشد إليه الرحال متسائلا، فكانت هذه الزيارة صادمة بقدر ما كانت فاتنة له في آن معا. واعتبر أن المغرب بلد متشبع بالصوفية وبفن عيش غني بالقيم والمرونة.

وبعد أن ذكّر بدور ديلاكروا المتمثل يومئذ في مرافقة البعثة الدبلوماسية الفرنسية، أبرز الصقلي نأي الرسام الفرنسي بنفسه عن الاستشراق التصويري السائد حينئذ بإبداع عمل فني يظهر السلطان مولاي عبدالرحمن خارجا من قصره بمكناس، في رؤية زاخرة بالخيال لمشرق مختلف عن ذلك المشرق الذي يتهيبه الغرب ويشعر بالفوقية إزاءه.

وذهبت في ذات السياق فايزة بنزينة أستاذة تاريخ الفن بجامعة العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، مشيرة إلى أن ديلاكروا الذي كان ناقلا للأخبار عن المغرب، أصبح صلة وصل لدى الرأي العام الغربي وشاهدا بواسطة الفن على حضارة أخرى. ومكنت أعماله من إرضاء الرأي العام بالغرب التواق للقاء المشرق الذي يراود مخيلته.

وأضافت أن ديلاكروا لبى هذه التوقعات بلوحاته الرائعة التي مزجت بين “الحايك” و”البرنس” والمسبحة والمظلة. واستخدم ديلاكروا في رسوماته ألوانا زاهية تركت أثرها على المخيلات، متخليا عن الألوان الداكنة التي كان يستخدمها قبل مجيئه إلى المغرب.

وأكدت بنزينة في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء أن ديلاكروا لم يكن يستخدم من قبل هذه الألوان الخلابة، حيث كان يستخدم في فرنسا ألوانا باهتة وأكثر واقعية، لكن عند قدومه إلى المغرب، الزاخر بالأضواء والألوان التي يطغى عليها الأحمر والأخضر والأصفر والأبيض والتي أشعرته بالسعادة، بدأ يغير الألوان التي يستعملها في الرسم.

ومن وجهة نظر فلسفية، قال ربيع روباي الأستاذ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بفاس، إن الرؤى المتناقضة تعد إشكالية من إشكاليات الصدقية والتصور تعيد إلى الأذهان أن النظر يعكس نظرة المتأمل وثقافته وخلفيته الأيديولوجية وميولاته النفسية، وليس الشيء المنظور إليه.

 الكتابة مثل اللوحة

الندوة تعد مناسبة متجددة لإعادة اكتشاف الأعمال التي خلدها أوجين ديلاكروا حول المغرب في مرحلة تاريخية عرفت جملة من التفاعلات الثقافية والتمثلات الفكرية

تلفت ميشيل هنوش أستاذة اللغة الفرنسية بجامعة ميشيغان الأميركية والمتخصصة في الحقبة الفرنسية خلال القرن التاسع عشر، إلى أن “في الذكريات التي أعادها الرسام خلال رحلته إلى المغرب، لعبت الكتابة دورا مهما مثل اللوحة”، مضيفة أن “العديد من المذكرات والقصص والأوراق المنفصلة تشهد على جهد أدبي كبير لترجمة تجربته”.

وعلى عكس الرسم، سمحت الكتابة بحرية تتوافق مع الرسام المبهر، لكن من ناحية أخرى، تقول إن الصورة الواحدة يمكنها أن تعبر أكثر من مجلدات الوصف وأن تنقل المشاعر بقوة أكبر.

وتطرقت أيضا إلى كتابات أوجين ديلاكروا عن المغرب العربي، مشيدة بالكتابة التجريبية والإبداعية التي قد تحتوي في الوقت نفسه على انعكاس للعلاقة بين الكتابة والرسم والنص والصورة.

وبالنسبة لها، فإن رحلة 1832 كان لها تأثير حاسم ليس فقط على لوحة ديلاكروا ولكن أيضا على كتاباته، مبرزة المقارنة الإبداعية بين الفنين اللذين سيطرا على نضجه.

وقدمت هنوش مذكرات مكناس وطنجة، حيث خلط ديلاكروا الرسومات والكلمات، والنصوص والصور التي “أضحت غير قابلة للفصل”.

ويذهب الأستاذ الجامعي لمحمد الساوري في ذات السياق مشيرا إلى أن المذكرات المغربية لديلاكروا، إلى جانب نطاقها التاريخي والوثائقي، هي مجموعات حقيقية من الأفكار والمشاريع الفنية. وقال “في هذه المذكرات، نلاحظ أن المجسمات والرسومات يتم خلطها معا، ويمكننا أن نستنتج أن الرسام كان في لحظات قليلة من رحلاته على عجل (بالنظر إلى كتاباته)”.

ومن جهتها، قالت ماري بيير سالي المحافظة الرئيسية بقسم الفنون التصويرية بمتحف اللوفر بباريس، في مداخلة بعنوان “ديلاكروا، بورتي، شاركوت: مذكرات رحلات إلى المغرب”، إنه عند بيع ورشة أوجين ديلاكروا سنة 1864، تعرضت مذكرات وألبومات الرحلة، السبعة، إلى شمال أفريقيا وإسبانيا للتشتت، تم التعرف اليوم على خمسة منها وتحديد مكانها. وأوضحت أن ثلاثة منها توجد حاليا في قسم الفنون التصويرية باللوفر.

وأضافت أن فيليب بورتي، الذي كان صديقا للرسام، “كان قد اقتنى أروع وأهم المذكرات السبع التي تضم نصوصا ورسومات تعيد رسم ذكريات هذه الرحلة المهمة”. وأشارت إلى أن بورتي كان أيضا قريبا من الدكتور جين مارتان شاركوت المختص في علم الأعصاب والباحث في علم النفس والمولع بالفنون. لقد أعجب بمذكرة ديلاكروا لدى بورتي الذي خول له حق الانتفاع بها.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: