سبتة ومليلية: كيف ستنتهي الحرب السرية؟

ربما باستثناء الإنزال الجوي الاسباني فوق جزيرة ليلى مطلع الألفية، الذي جرى تطويق تداعياته بسرعة، فان الجبهة الإسبانية المغربية تكاد تكون واحدة من أهدأ الجبهات في العالم. فالصديقان اللدودان حريصان على الالتزام وبالحرف، بمعاهدة الصداقة التي وقعاها في التسعينيات، وتبدو علاقاتهما في أحسن حالتها، بل لعلها حتى أفضل من علاقة المغرب بجارته الجزائر، والتي تشهد الكثير من التوترات والتقلبات.
وربما قد يستغرب الكثيرون من حجم التبادل التجاري بين البلدين أو من وتيرة الزيارات بين كبار مسؤوليهما، والتصريحات الودية التي يتبادلها الجانبان، والتي لا تدل بالمرة على أن هناك نزاعا ما بينهما، من قبيل إشادة وزير الداخلية الإسباني الاربعاء الماضي في الرباط بما وصفه «المستوى العالي من الثقة المتبادلة بين إسبانيا والمغرب» والذي مكّن من دعم وتعزيز التعاون الثنائي في مختلف المجالات، على حد تعبيره.

المغرب وإسبانيا يسعيان وبقوة لكسب السبتيين والمليليين لصفهم، لإحراز ما يتصورانه نصرا في ملف تثبيت هوية المدينتين وانتمائهما

ولكن هناك وراء الأكمة حربا صامتة بين البلدين، بشأن الأراضي والجزر المغربية التي احتلتها مدريد ومحورها الديمغرافيا. فالطرفان يسعيان وبقوة لكسب السبتيين والمليليين لصفهم، لإحراز ما يتصورانه نصرا في ملف تثبيت هوية المدينتين وانتمائهما. وفيما تستخدم إسبانيا سياسة العصا والجزرة، فتعزل المدينتين وتمنعهما متى شاءت من التواصل السلس مع المغرب، وتفتحهما في الوقت الذي تراه مناسبا، لذلك فانها تحرص في الوقت نفسه على تكريس سياسة عرقية، تقسم المغرب إلى مغربين فتمنح المناطق الشمالية القريبة من الجيبين امتياز دخولهما ببطاقة هوية، ولا تخضع المناطق الأخرى للإجراء نفسه. ولعل الثمار العملية لتلك السياسة تظهر في الارتفاع الملحوظ للأصوات والمواقف الناشزة داخل المدينتين وحتى بجوارهما، التي لا تلتقي بالضرورة مع ما يردده المغرب الرسمي وحتى الشعبي باستمرار من أنه لم و لن يفرط في اي شبر من اراضيه المحتلة. فأعداد المغاربة أو المنحدرين من اصول مغربية والذين ينتمون للثغرين المحتلين ويبدون إعجابهم وانبهارهم بمستوى النظافة والبنية التحتية الاوروبية والخدمات والامتيازات، التي تمنح للمقيمين فيهما، والذين لا يرون أن إعادتهما لحضن المغرب ستكون مفيدة أو مجدية للمغاربة أنفسهم، ويقرون بأنه من الأجدر لسكانهما والعاملين والعابرين لهما من ابناء جلدهم، أن يظلا تحت التاج الإسباني تزداد يوما بعد آخر.
ولكن هؤلاء الذين يشذون عن القاعدة ويقبلون باحتلال يجثم منذ ما يقرب من ستمئة عام فوق بلدتين وجزر تشكل جزءا ثابتا وممتدا من أرضهم ولا يظهرون حماسة أو اندفاعا واضحين لاستعادتها كالذي يفعله كل المغاربة مثلا في قضية الصحراء، يكرسون بشكل ما ايبيرية البلدتين. اما ما يفعله المغرب بالمقابل فهو، أنه يحاول اعتماد نوع من الخنق الاقتصادي للمستعمرتين، وإقامة المزيد من المشاريع الاستثمارية العملاقة على أطرافهما لجذب الريفيين وتقليل اعتمادهم على المبادلات مع الجيبين المحتلين، ويراهن بقوة على أن عنصر الوقت كفيل بان يعيد اهل سبتة ومليلية للوطن المغربي، بحكم الروابط الروحية واللغوية القوية معه. لقد حاول في قرون باكرة أن يسترد اراضيه بالحرب، ولم يفلح وجرب في زمن متأخر أن يعرض التفاوض حولها، ولكنه فشل في دفع الطرف الاخر للقبول به ومع ذلك فما زالت الشكوك تحوم حول جدية حكومته وعزمها على فتح الملف والمضي فيه للاخر. ومن العجيب حقا أن تغريدة غريبة نشرها نجل رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في مايو الماضي على حسابه في توتير قوبلت بالتجاهل. ولم ير كثيرون ما الذي حدا بالشاب المتهور والأبله كما قيل عنه، لان يربط ربما من حيث لم يشعر بين الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين والاحتلال الاسباني لسبتة ومليلية؟ ولكن كلامه كان مليئا بالدلالات. فقد قال في تغريدته تلك «أعزائي العرب والمسلمين هل ترغبون في تحرير الاراضي العربية الاسلامية المحتلة؟ ها هي بداية جيدة. عارضا خريطة للمغرب تبين وجود جيبي سبتة ومليلية داخل الأراضي المغربية، لكن تحت سيادة إسبانيا، وجزرا أخرى بالقرب من سواحلها، ولكنها تخضع لسيطرة مدريد. وفي ما حمل الإسبان تغريدة الشاب الذي وصفه زعيم حرب فوكس اليميني بـ»الجاهل والتافه» محمل الجد، واحتجوا عليها بشدة، رغم انه لم يكن له صفة أو كان يعبر عن موقف إسرائيلي رسمي، فإن المغاربة لاذوا بالصمت المطبق ولم يلتقطوا الفرصة ليجددوا مطالبهم باستعادة الجيبين السليبين وباقي الجزر المحتلة. لقد كان الأمر أشبه بقصة البيضة والدجاجة ومن منهما تسبق الاخرى؟ فكيف يحارب المغرب ولو نظريا لأجل تحرير فلسطين، فيما جزء من اراضيه لايزال محتلا؟ ولم يكن مثل ذلك المنطق بالطبع بريئا بالمرة، لانه كان ببساطة جزءا من الحرب الدعائية للكيان الاسرائيلي، التي تقوم على الترويج لفكرة تجزئة القضية الفلسطينية وعزلها عن مجالها الطبيعي أي العربي والإسلامي. ولكن أليس ذلك ايضا ما فعلته وبقدر ما إسبانيا؟ ألم تعزل بدهاء كبير قضية احتلالها لجزء من تراب جارتها عن المحيط المغاربي والعربي والاسلامي للمغرب؟ ألم يكن الاحتلال الاسباني غائبا عن اي جدول أعمال رسمي مغاربي أو عربي أو إسلامي؟ لقد استطاع الإسبان اللعب بمهارة على جملة من التناقضات ووضعوا بينهم وبين المغرب حواجز غير تلك القائمة بالفعل قد تجعلهم بمأمن من أي تفكير مستقبلي من جانب الرباط في القيام بعمل أو تحرك جدي لاستعادة ما سلب منها.
ولعل كثيرين تساءلوا أواخر الثمانينيات عن السبب الذي دفع العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني لان يقدم حينها طلبا بدا سيرياليا بعض الشيء، وهو الانضمام إلى المجموعة الاوروبية، رغم علمه المسبق بأن حظوظ المواقفة عليه كانت شبه معدومة، بما أن بلده كان جغرافيا دولة افريقية. ولكن جانبا من ذلك قد يكون ادراكه بأن الاحتلال الاسباني هو بالاخير احتلال اوروبي.
ولعل ما أعطى الإسبان نقطة تفوق إضافية على جارتهم الجنوبية، فضلا عن الدعم الاوروبي غير المحدود لهم، هو أنهم ظلوا يمسكون بخيط مهم من خيوط القضية الصحراوية، التي باتت تشكل هاجسا حقيقيا للمغرب، وتستنفد جزءا كبيرا من قواه وموارده ونشاطاته الدبلوماسية. فهم يعرفون جيدا أن الجار الجنوبي لن يكون قادرا على فتح جبهتين في الوقت نفسه، ولكن ما الذي يمنع المغرب مثلا من أن يطلق في وقت ما مسيرة شعبية نحو المدينتين المحتلتين شبيهة بالمسيرة الخضراء، التي أطلقها الملك الراحل الحسن الثاني في السبعينيات نحو الصحراء؟ ربما ستكون العقبة الاكبر هي في قدرة جبهته الداخلية على القيام بتلك الخطوة، وفي تقبل الريفيين لها وانخراطهم فيها، ثم في استعداد سكان البلدتين لإنجاحها. وهنا قد يكون مربط الفرس، ففيما تشكك مدريد اصلا في صلابة تلك الجبهة وتماسكها وانحيازها التام والكامل للرباط تثق الاخيرة في أن البلدتين ستعودان لها عاجلا أم آجلا، طال الزمن أم قصر، أم كيف ستنتهي الحرب الصامتة والخفية بينهما ولم ستؤول الغلبة فيها؟ فقد يملك اهل سبتة ومليلية والجزر المحتلة هنا جزءا كبيرا ومفصليا من الجواب.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: