تواطؤ المعارضة البريطانية

لا يزال رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون يتعهد بعدم الذهاب إلى بروكسل طالبا تأجيل موعد خروج لندن من الاتحاد الأوروبي. مشكوك في قدرته على تنفيذ تعهده هذا بعد قانون حظر الخروج دون اتفاق الذي أقره البرلمان، ولكن في بلاد تخلو من الدستور وتتجدد تشريعاتها وفقا للحاجة، كل شيء ممكن.

الأزمة البريطانية كما يرويها رافضو طلاق لندن وبروكسل، تقول إن الحكومة خسرت أمام البرلمان، بسبب عنجهية تناستْ أنه مصدر الديمقراطية التي تتباهى بها المملكة المتحدة. القضاء قال إن تعليق جونسون للبرلمان لم يكن مخالفا للقانون، ولكن حكم القضاء لم يحمِ جونسون من غضب المعارضة.

أحسن حزب العمال بقيادة جيريمي كوربين، تحويل قرار تعليق البرلمان من نعمة إلى نقمة بالنسبة لجونسون. وَحّدَ صفوف المعارضة واستقطب النواب المحافظين المؤيدين للبقاء، فحصل على تكتل برلماني سمح له بتمرير قانون يمنع الحكومة من الخروج دون اتفاق من الاتحاد الأوروبي. العمال يقولون إن الخروج دون اتفاق يجرّ كوارث لا تحتمل، لذلك هم يحمون البلاد من حماقة جونسون الذي يلهث وراء السلطة بأي ثمن. فهو يريد تنفيذ الخروج من أجل الترشح للانتخابات العامة المقبلة، وتقديم نفسه بصورة البطل الذي نفذ رغبة البريطانيين التي حملتها نتائج استفتاء عام 2016.

يكمل حزب العمال مع جونسون ما بدأه مع ماي، وربما يدفعه للاستقالة كما أوصل ماي إلى ذلك

هنا تنتهي رواية حزب العمال ولكن للقصة بقية تخلق تساؤلات حول مصداقية سردها. قانون حظر طلاق لندن وبروكسل دون اتفاق احتفل به الأوروبيون الذين ساهموا بصياغته حسب تسريبات صحافية، ثمة من يقول إن النواب الذين قدموا مشروع القانون ناقشوا صياغته مع الأوروبيين قبل طرحه. ربما لم تتواطأ المعارضة مع الأوروبيين بهذه الصيغة التخوينية، ولكنها جنبتهم إعادة التفاوض مع لندن بشأن اتفاق جديد للخروج. لم يعد يخشى الأوروبيون تداعيات الخروج الصلب للمملكة المتحدة، وبالتالي لا ضرورة للتفاوض مع البريطانيين على اتفاق جديد بدل ذلك الذي تكرموا به على تيريزا ماي.

ثمة تواطؤ آخر للمعارضة مع الأوروبيين، في تواصل تخويف البريطانيين من الخروج دون اتفاق، بذات اللغة التي تستخدمها بروكسل لتحذير البريطانيين من الخروج. هذه اللغة تخدم غرضا واحدا هو أن تجعل بروكسل من لندن عبرة لكل دولة في التكتل تفكر بمغادرته.

ليس هذا فقط، فالمعارضة العمالية التي صوت الكثير من أعضائها وأنصارها للخروج عام 2016، لم تسأل حكومة المحافظين السابقة طوال ثلاث سنوات عن خططها لمغادرة الاتحاد دون اتفاق. لم يظهر هذا الخيار في خطابات المعارضة وكأنه لن يحدث، ومن أكثر من الأوروبيين يريد لهذا الخيار أن يختفي.

ألا يسجل على حزب العمال تغير مواقفه إزاء الخروج؟ لماذا لا يدان العمال بانتهاك الديمقراطية التي جاءت بنتائج استفتاء عام 2016؟ لماذا يحاكم العمال المحافظين بتهمة انتهاك الديمقراطية في تعليق البرلمان، ويتناسون أن تجاهل خيار الخروج دون اتفاق يمثل انتهاكا لذات الديمقراطية التي يبكون عليها؟

هناك من يبرر كل ذلك بأن تداعيات الخروج لم تكن واضحة. هل الجهل بالتداعيات يبرر إسقاط احتمال الخروج دون اتفاق، وكأن الديمقراطية هي أن يقول الشعب ما يريد ولكن يحق للقادة أن يفعلوا ما يريدون.

لا أدري لماذا يتعامل حزب العمال مع نتائج استفتاء 2016 وكأنها خطأ شعبي، أو أن البريطانيين لا يحق لهم حسم قضايا كبرى على مستوى العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. هل هي ديمقراطية منقوصة مثل التي يعيشها العرب في دولهم، أم أن هذا هو الوجه الحقيقي للديمقراطية في الغرب ولا يظهر إلا في حالات نادرة. استغل حزب العمال “البريكست” للعودة إلى المشهد السياسي بذات الانتهازية التي استخدمها جونسون للوصول إلى رئاسة الوزراء. ثلاث سنوات والحزب يُفشِل محاولات حكومة المحافظين للاتفاق مع بروكسل ويدعي أنه الوحيد الذي يمتلك الوصفة السحرية للخروج “العادل”.

يكمل حزب العمال مع جونسون ما بدأه مع ماي، وربما يدفعه للاستقالة كما أوصل ماي إلى ذلك. هو انتصار يسجل لهم سياسيا وليس وطنيا، فمحددات الحزب في ملف الخروج رُسِمت للوصول إلى السلطة، وليس لحماية البريطانيين من تداعيات “خطأهم” في قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي.

مشكوك في قدرته

أطبق العمال الخناق على جونسون، لم يعد أمامه سوى الانتخابات المبكرة قبل موعد تأجيل الخروج وفق قانون حظر اللااتفاق الذي أقره مجلس العموم. جونسون يقول إن الشعب البريطاني يجب أن يختار بينه وبين كوربين لتمثيله في القمة الأوروبية المقبلة، وبالتالي يختار بين البقاء أو الخروج.

على ضفة المعارضة يرفض العمال الخوض في الانتخابات قبل موعد تأجيل الخروج. مقاربة تبدو مفهومة إذا قُرأت في سياق دفع رئيس الوزراء إلى الاستقالة أو الثقة المطلقة بأنه سيذهب صاغرا إلى بروكسل لطلب تمديد الخروج، لكن جونسون لا يزال ينفي الخيارين.

التفسير الثاني لرفض العمال للانتخابات العامة قبل موعد الخروج نهاية أكتوبر المقبل، هو خشيتهم من عودة جونسون إلى السلطة بأكثرية تقوض خططهم للعودة إلى الواجهة بعد انتظار دام عشر سنوات.

ثمة متسع من الوقت قبل تطبيق قانون حظر الخروج دون اتفاق، مفاجآت كثيرة قد تشهدها المملكة المتحدة إلى ذلك الحين، ليس من أحزابها المتصارعة فقط، وإنما من الضفة الأوروبية التي قد يخرج من قادتها من يقول إن السيل قد بلغ الزبى وحان الوقت لتحرر التكتل من عصاب “بريكست” دون اتفاق مع لندن.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: