كل الإشارات التي صدرت منذ فترة قصيرة كالمظاهرات التي انطلقت من بعض مدن المغرب والجزائر، واحتشدت قرب حدود البلدين لتطالب بفتحها الفوري، وما جاء في خطاب العاهل المغربي في الذكرى العشرين لتربعه على العرش من تأكيد على نهج اليد الممدودة للجارة الشرقية، ثم ما حصل قبلها منذ حراك فبراير الماضي من تطورات سياسية واعدة في الجزائر، على ما فيها من عسر وتعثر، لم تكن بالتأكيد إلا أشياء جديرة بالتفاؤل.
لكن ألم يكن القاع مختلفا جدا عن السطح؟ أليست كل تلك المظاهر الشكلية هي الستار الخادع لخلافات عميقة وتوترات حادة ما زالت تحكم علاقة البلدين، وتوشك على البروز والتحول بين لحظة وأخرى، لا سمح الله، إلى انفجار مدو قد يأتي على صيغة حرب مفتوحة بينهما؟ لا أحد كان يظن أو يتوقع قبل أكثر من نصف قرن من الآن، أن بلدين عربيين جارين طالما تقاسما الحلو والمرّ أعوام الكفاح المشترك لطرد المستعمر، سينجران في النصف الأول من الستينيات، أي سنوات قليلة فقط بعد تخلصهما من الاحتلال الفرنسي المباشر، إلى حرب ضروس أطلق عليها حرب الرمال. ولكن ذلك ما حصل بالفعل وبقي بمثابة الندبة العميقة لجرح لم يندمل بعد.
ورغم أن الظرف ليس هو الظرف نفسه، إلا أن فرص تكرر حرب رمال ثانية، لا قدر الله، تبقى موجودة ليس فقط لان الأسباب التي قادت للأولى مازالت قائمة، بل لأن هناك عنصرا اضافيا قد يساعد في نشوبها، ولم يكن موجودا حين اشتعال الأولى، وهو المعروف بمعضلة البوليزاريو.
في هذه المعضلة بالذات يبدو أن حمار الشيخ قد وقف بالفعل في العقبة، بعد أن سدت كل المنافذ والمخارج والحلول الوسط، وباتت شبه مغلقة ومقفولة في وجه الجبهة التي لفت العالم ودارته على مدى أكثر من أربعين عاما، وتقدمت في مناسبات وتراجعت في أخرى، لتكتشف بعد كل ذلك أن عليها أن تعود مجددا إلى نقطة البدء، وتدرك بشكل متأخر ايضا أنها كانت تدور في فراغ، وأنها لم تخلق أصلا لصالونات قصر الأمم في جنيف، أو حتى لإدارة المناورات والحملات الدبلوماسية، التي برع فيها خصمها المغربي إلى حد ملحوظ، وأنه لا مناص لها اليوم من أن تنفخ على قدر جهدها في جذوة الحرب من جديد، وتعود إلى سنوات الكر والفر ولعلعة السلاح في تلك الصحراء الواسعة والمفتوحة على كل شيء. ذلك هو الانطباع الأول الذي أعطته تصريحات زعيمها التي نشرت الجمعة قبل الماضية، وقال فيها إبراهيم غالي في اجتماع بقياداته، إنه لا بد من «الاستعداد للحرب المقبلة، من خلال فرض الخدمة العسكرية الاجبارية داخل المخيمات. فلم يعد التطوع كافيا ونحن في حرب تحريرية والعدو لا يريد الاستسلام، وهذا ما يجبرنا على اتخاد اجراءات جذرية». قبل أن يضيف أن «الحرب مع المغرب محطة اجبارية. أين ومتى وكيف هذا هو الباقي. هذه المحطة (أي الحرب) هي قطعا إجبارية، ويجب أن لا يشعر أي شخص بأنه غير معني بها، فهذه المحطة لا مفر منها».

انخراط الجزائريين وربما حتى الموريتانيين في الحرب ولو بشكل غير مباشر سيحول الصحراء إلى ساحة حرب إقليمية ودولية، قد تجعلها نسخة أكثر مأساوية من ليبيا

ولكن هل كان الأمر حقيقة على ذلك النحو بالضبط؟ وهل أن ضيق الزعيم الجبهوي ورفاقه من أصحاب البزات العسكرية الذين هرموا من أجل دولة صحراوية صنعت في خيالاتهم، وتبرمهم من تعطل مسار التفاوض مع المغرب وتعطله المستمر وانسداده، هو الذي جعلهم يضعون الآن تلك الحرب «الإجبارية» نصب أعينهم؟ ثم هل أن إشهار الحرب كان بالنهاية هو الخيار الوحيد أمام تلك الحيرة الوجودية قبل السياسية، التي استبدت بالجبهة، وهل تستطيع أن تقدم على ذلك بمفردها وبمعزل عن سند جزائري، وربما حتى عن ضوء أخضر موريتاني؟ قد يكون بعض الحذر مطلوبا، فحتى الآن لم يعلن الجبهويون صراحة وبشكل رسمي، أنهم أسقطوا نهائيا المفاوضات من حساباتهم، أو أنهم لن يعودوا لها مستقبلا، ولن يكونوا معنيين بها أو مؤمنين بجدواها، لكن ألم يتوقف عمليا على الجانب المقابل للحلول التفاوضية كل شيء مطلع التسعينيات؟ ألم يعد غير ممكن تقريبا أن نسمع منذ ذلك الوقت عن أي مواجهات عسكرية مباشرة بين المغرب والبوليزاريو عدا ما كان يحصل بين الحين والآخر من بعض الحوادث العرضية في الغالب؟ لقد بني الجدار العازل على قسم واسع مما اعتبره المغرب حدوده الجنوبية، وبذلك صار بمأمن نسبي من مفاجآت البوليزاريو وهجماتها. ومع ذلك فقد بقي المشكل قائما وظل كل طرف متربصا بالآخر ومتيقظا لما يفعله غريمه ومستعدا لجولة مقبلة من المعارك، واستمر حرص الطرفين بالمقابل على حشد المزيد من الانصار في المنابر الاقليمية والدولية، ودعمهم الدبلوماسي والسياسي.
لكن حالة اللاحرب واللاسلم ارتبطت بدرجة كبرى بالتحولات التي حصلت في علاقة الشرق بالغرب، ثم في مراحل متقدمة بالمستجدات التي طرأت أيضا على المنطقة العربية والمغاربية بوجه خاص. ولم يكن هناك شك في أن الكفة قد رجحت في الأخير، وبفعل عدة اعتبارات لصالح المغرب، الذي استطاع أن يقنع قسما واسعا من الصحراويين بمن فيهم من كانوا قيادات معروفة داخل البوليزاريو، بالعودة إلى حضن الوطن المغربي، وضخ في ما بات يعرف بالاقليم الصحراوي، الكثير من الأموال والمشاريع التعميرية والاستثمارات، وتمكن بالمقابل أيضا من أن يسوق الحل الواقعي الذي اقترحه للصحراء، وهو الحكم الذاتي، وجعله يحوز يوما بعد آخر على مزيد من المؤيدين، حتى داخل دول كانت لوقت طويل من أشد المناصرين والمدافعين عن حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره.
وبدون التنقيص من قدرة البوليزاريوعلى جر المغاربة إلى حرب، فإنه لا يمكن لاحد أن يتوقع ذلك، بدون موافقة صريحة ودعم كامل من الجزائر وموريتانيا بدرجة أقل. فقوات الجبهة لن تقدر وحدها على الصمود طويلا امام الجيش المغربي. وانخراط الجزائريين وربما حتى الموريتانيين في الحرب ولو بشكل غير مباشر سيحول الصحراء إلى ساحة حرب إقليمية ودولية، قد تجعلها نسخة أكثر مأساوية من ليبيا، كما انه لن يكون بوسع أي واحد منهما أن يضمن انه سيكون الفائز والمنتصر في نهاية المطاف.اذن ما الذي جعل جبهة البوليزاريو تلوح بخيار لا تملك القدرة على تقريره والمضي فيه بمفردها؟ لن يكفي انسداد أفق المفاوضات وتهتك شرعيتها الثورية بمرور الوقت ليفسر ذلك. ولكن علاقتها العميقة وارتباطها الوثيق بجنرالات الجزائر قد تكون مفتاحا ضروريا لفهم الموقف. فقادة الجيش الجزائري الذين يتوجسون من الحراك لا يرغبون في فتح صفحة جديدة مع المغرب. ولعل ردهم على كل الاشارات الايجابية التي صدرت من العاصمتين، أن ملف حرب الرمال لايزال مفتوحا وانهم على استعداد لخلط الاوراق الاقليمية من جديد في صورة ما اذا اهتزت عروشهم. أما كيف يقرأ الطرف المقابل رسائلهم المزدوجة تلك؟ فربما من حسن الحظ أن اندفاعة حرب الرمال الاولى وجنونها لم تعد اليوم موجودة!