الملكيّة المواطنة وسؤال النخبة بالمغرب

يعد خطاب الملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش الـ20، في 29 يوليو 2019، مفتاحا لفهم وشرح وعرض عدد من القضايا الراهنة التي تهم علاقة السلطة الملكية بالمواطن والفاعل السياسي والاقتصادي على حد سواء آنيا ومستقبلا. ويمكن إدراجه ضمن الخطابات المؤسّسة حيث أنه فسح المجال أكثر لفهم طبيعة تلك العلاقة عندما قَعَّدَ لها بمفهومين، الأول يتعلق بالملكية المواطنة بما تحمله من دلالات سياسية وقانونية، والثاني، مفهوم البيعة كعقد بين الحاكم والمحكوم.

لذلك كان التركيز على مفهوم الملكية المواطنة التي تضع ضمن أولوياتها مصلحة المواطن وتعمل على تحقيق التوازن الأساسي والفعال بين ممارسة السلطة من طرف الحاكم وبين متطلبات الحرية التي هي مبتغى الإبداع في مجمل تجلياته والذي تتحقق بواسطته الكثير من المنجزات والمشاريع.

وتتأسس معالم الملكية المواطنة على شرعية الإنجاز، وهنا يقر الملك محمد السادس، بأنه رغم الإنجازات التي تحققت في العشرين سنة الماضية، “إلا أننا لم نتمكن أحيانا من تحقيق كل ما نطمح إليه، ولكننا اليوم أكثر عزما على مواصلة الجهود وتقويم الاختلالات التي أبانت عنها التجربة”.

هذه الواقعية هي ما يحدّد البيعة المتبادلة التي تحدّث عنها الملك في خطاب العرش، باعتبارها لبنة أساسية في النظام السياسي المغربي منذ اثني عشر قرنا إلى الآن، وهي ليست شيئا مبتدعا يحتاج إلى كثير من التحليل، ما دامت البيعة في الأصل الشرعي عقد حقيقي مبرم بين إرادتين على أساس الاختيار والرضا، بين الملك والشعب.

مفهوم الملكية المواطنة والبيعة في خطاب العرش، يمثلان استمرارية لنظام ملكي ضارب في عمق تاريخ المغرب الذي يغرف من مخزون رمزي وحضاري وديني وقانوني وثقافي يستمد منه على قدم المساواة الشرعية والمشروعية، بالتالي فالدولة المغربية تتمثل حداثتها ليس مما هو مستورد بل من خصوصية تتطور مع الزمن السياسي والاجتماعي والنفسي للشعب بمعية مؤسساته.

وعندما تحدّث العاهل المغربي عن الملكية المواطنة كنهج سياسي وأسلوب عمل أجمع عليها المغاربة كثابت هوياتي، فقد ربطها بالخيار الديمقراطي والمصالحات والمشاريع الكبرى التي أنجزت. وهذا ما يعزز شرعية الإنجاز كمفهوم سياسي واجتماعي.

بالتالي فالملكية المواطنة تحتاج بقوة الواقع إلى نخبة فاعلة منتجة. إذا أخذنا بعين الاعتبار أن النخبة إنتاج وصناعة وبحث، يتم غرس بذورها في هياكل الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني وفي المدارس العمومية، كي تتمرس على تحمل المسؤوليات داخل وخارج الإدارات والمؤسسات.

هنا لا نتكلم عن حَمَلَة الألقاب بل على نمط خاص من الرجال والنساء ارتقوا أكاديميا وإنسانيا ولهم قدرة على التحمل وعلى النفاذ إلى المشاكل وحلها، ويتحلون بالاستعداد الذهني. ولهذا تتعزز الملكية المواطنة بالبحث وصناعة نخبة مواطنة تستعمل مهاراتها المعرفية في بسط الحلول وخلق البدائل.

لذلك من المهم للمجتمع المغربي بنظامه ومؤسساته أن يسمح ويبني القدرة على التغيير والتحول من الداخل، فالتحولات جارية ولا تنتظر أحدا والمطلوب التكيف حسب الظروف والسياقات والتي تتطلب صناعة النخب بتيسير كل الأدوات والوسائل لنجاح هذا المسعى. لذلك فإن هذا الأمر ليس قرارا مستعجلا يكون بجرة قلم بل يحتاج إلى خطة عمل ورجال يهمهم مستقبل هذا الوطن.

لدينا سبب وجيه يجعلنا نستحضر المؤرخ وعالم الاجتماع ابن خلدون عندما قال إن علاقة السلطان برعيته يجب أن تقوم على الرفق والاعتدال والحكمة، ذلك أن العلاقة الصالحة والعادلة فيها مصلحة الطرفين. وهو بالفعل ما يتم التأسيس له في المغرب من خلال دمج مفهومي الملكية المواطنة والبيعة، أي الحفاظ على الهوية والخصوصية مع الانفتاح على تجارب الغير دون عقدة أو خوف من الاستلاب.

الملك محمد السادس في خطابه المؤسس لحقبة أخرى من حكمه أراد أن يوصل إلى المواطن المغربي، أنه يتعامل مع قضايا الوطن عقلانيا وهو حريص على التعاطي الايجابي مع احتياجات المواطن في تجديد تام للمفاهيم وإعادة صياغة للمشاريع.

في هذا الباب تحدث العاهل المغربي عن لجنة خاصة مهمتها صياغة المشروع التنموي الجديد بشكل منتج يتلافى المطبات التي كانت في السابق. وهذا يعني أنه سينطلق البحث عن نخبة مؤهلة لإعداد هذا المشروع والأهم الذي يجب الوقوف عنده هو أن يكون أعضاء اللجنة من مختلف المشارب الفكرية والثقافية والأكاديمية، وأن تتحلى بالجرأة والحياد كشرط وحيد لإنتاج شيء سيفيد الدولة والمواطن على حد سواء.

حتى على مستوى الحكومة ضرب الملك موعدا لرئيسها في أكتوبر المقبل لاختيار نخبة من الوزراء تكون منخرطة بشكل فعّال في النقاشات التي تهم الاستفادة من رأس المال البشري الموجود وتأهيل ما يحتاج إلى تجديد، وهذا يعني أن الدولة واعية بأهمية التحول الذاتي والجمعي الذي يمر منه المجتمع وتبحث عن أساليب ونهج جديد لتقييم هذا التغيير ليكون سلسا ومنتجا.

الواقع الحالي يحتاج إلى لاعبين جدد يتقنون فن التواصل من الحريصين على الصالح العام، كما يحتاج القطاع الخاص إلى نخبة مواطنة تعمل للوطن وتستثمر ثرواتها في الرقي به.

إذن الملكية المواطنة كمفهوم وتعبير سياسي وقانوني واجتماعي، غير قابل للمزايدة ومستمر عبر الزمن والمكان والناس، تحتاج إلى نخبة أصيلة يكون مصنعها إلى جانب الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني، داخل المدارس والكليات حيث يتم إعداد الشباب لفهم الحاضر والاستعداد لكل التحولات والتغيرات الاجتماعية والتكنولوجية والاقتصادية والسياسية.

فإلى جانب العدة الفكرية، نحتاج إلى نخبة تعرف بالضبط ما يقع في قاع المجتمع وتتفاعل مع التحولات الحاصلة بشكل استباقي، بالمقابل لا نحتاج إلى بائعي الأوهام في ظل التحديات التي تمر بها البلد اجتماعيا واقتصاديا.

ومع ذلك، فالخطير الذي يهدد أي مبادرة للإصلاح هو تطويق المشاريع ذات الصلة بالإحباط المباشر أو الضغط النقدي الذي يشوه النتائج، ما يضر بفهم واقعنا ويؤثر سلبا في وضع السياسات العامة الكفيلة بالرقي به.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: