الصحافة تطارد الأشباح

تنشر الصحافة العربية بين الحين والآخر أخبارا وإحصائيات موثوقة عن مستويات الفساد التي تضرب غالبية الدول العربية. لا يكاد تجمع أو مظاهرة في عاصمة أو مدينة عربية يقام من دون مناداة بمحاربة الفساد والفاسدين.

تحول الفساد في أغلب الدول العربية إلى غول هائل يتغذّى من ميزانيات تلك الدول ويمد أذرعه الأخطبوطية إلى مختلف مفاصل الدولة مستحوذا على المناصب وممتصا ميزانيات المشاريع التنموية والاستثمارية. الصحافة تتحدث عن ذلك علانية وتظهر دولا عربية وهي تقبع في مقدمة الدول الأكثر فسادا في العالم.

إحصاءات ومعلومات ومقالات يقرأها المسؤولون فلا تحرك فيهم شعرة ويمرون عليها خفافا وكأنها لا تعنيهم أو إنها تقع في بلدان أخرى. الصحافة تقوم بدورها، ويعلم القائمون عليها أبعاد ذلك الدور وتلك المسؤولية ولكن في حدود.

كلما خاضت الصحافة في هذه القصة طالبها رعاة الفساد بالدليل وبالوثائق وإلا عُدّ ذلك ضربا من التشهير الذي يحاسب عليه القانون وعندها ترتدع الصحيفة ويتراجع الصحافي. أما إذا تجرّأت الصحيفة والصحافي وقاما بنشر أيّ وثيقة فساد فسوف يتهمون بتسريب وثائق رسمية يحاسب عليها القانون.

القانون على سبيل المثال لم يحاسب الصحيفة التي نشرت تسريبات سفير المملكة المتحدة في واشنطن، برقياته وتقاريره التي قيّم فيها سلبيا إدارة الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، على الرغم من أن التسريبات كادت تتسبب بأزمة دبلوماسية بين البلدين إلا أنها انتهت باستقالة السفير من منصبه.

في المغرب مثلا وحيث يفتك الفساد طولا وعرضا بكل مفاصل الدولة المغربية تقريبا، تقرأ في صحيفة خبرا عن الفساد يقول: صرح مصدر مسؤول أو مسؤول حكومي رفض الكشف عن اسمه عن قائمة أسماء مسؤولين متهمين بقضايا فساد من دون أن يفصح عن أسمائهم، وأنهم سوف يحالون إلى القضاء قريبا ولكنه لم يحدد متى سوف يتم ذلك.

 الصحافة تقوم بدورها، ويعلم القائمون عليها أبعاد ذلك الدور وتلك المسؤولية ولكن في حدود

هذا مثال بسيط من أمثلة لا تعدّ ولا تحصى، فملاحقة الفساد في هذه الحالة تشبه ملاحقة الأشباح، من شبه المستحيل الكشف عن من هم الفاسدون، ما أسماؤهم وما هي مناصبهم وما هي الاتهامات الموجّهة إليهم؟

منذ العام 2003 وحتى اليوم ظلت القصة نفسها تتكرر، توجد ملفات فساد، تم الكشف عن ملفات فساد، توجد شبهات فساد، مع التكتّم على ماهية تلك الملفات والشبهات ومن هم المتهمون. وإذا كان منطقيا أن يتم التكتم على الأسماء لضرورات التحقيق، فهل يعقل عاقل أن يستمر التحقيق لخمس أو عشر سنوات دون نتيجة؟

ذلك واقع الحال ولهذا تجد الصحافة والصحافيون في حيرة من أمرهم، فهم يشاهدون ويسمعون بشكل مستمر مظاهر الفساد ويسمعون عن صفقات الفساد ويشاهدون المتاجرة بالمناصب وقصص المشاريع الوهمية، ولكنهم يجدون أنفسهم عاجزين عن الخوض في تلك المتاهة الهائلة أو صندوق باندورا المحشو بالأسرار.

قبل مدة احتدم الجدال بين صحافي مغربي وأحد السفراء، الصحافي نشر  قضية على السفير لم تعجبه، فاستشاط سعادته غضبا وهدّد وتوعّد ومنع بغية إسكاته .

وإذا انتقلنا إلى عمل السفراء و القناصلة  فالصحافة كانت تنقل وعلى مدى سنوات خلت تصريحات عن فتح ملفات فساد وملاحقة حيتان فساد، لكن لا ملفا تم فتحه ولا حوتا ولا حتى سمكة صغيرة تم اصطيادها، وبقيت الصحافة غارقة في حيرتها تتوقع أشباحا متلبسين بالفساد ومن الصعب العسير الإمساك بأي منهم.

لا شك أننا سوف نلامس في هذه الحالة نوع من الصحافة الاستقصائية المعطلة التي وظيفتها الأساسية هي تعقب (أشباح) الفساد ومطاردتها وكشف حقيقتها وذلك في ظل تشريعات صارمة تحمي تلك الصحافة والصحافيين.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: