كان للكذب طعم آخر

معشر الكذابين الصغارـ بدأنا نُحرم من الاحتفال بيوم “الكذب” في الأول من أبريل من كل سنة، وذلك لأسباب أهمها أن كل الأكاذيب باتت قابلة للتحقيق والتصديق، فقدت البريق وسحر الابتكار والخيال والإدهاش.

كان أسلافنا في شطحاتهم، يتحلق بهم جمهور غفير ومندهش على الدوام، وهم يزعمون بأنهم شاهدوا بشرا يسحبون النقود من الحيطان، ويحلفون بأنهم قد لمحوا كائنات تطير دون طيار، وأناسا من “أهل الخطوة”، يتحاورون ويتسوقون ويتداوون، وحتى يتحاربون ويتصالحون وهم في بيوتهم، وعلى الأرائك يجلسون.

الآن، وقد أصبح كذابو الماضي مجرد جماعة من العرافين الفاشلين (وإن صدقوا)، يمكن للعالم أن يعلن على الملأ أن “حبال الكذب باتت قصيرة” أمام هول ما يحدث من خروقات علمية، يركض خلفها الخيال لاهثا ولا يدركها.

لا تزال العامة تستخدم عبارة “شيء مثل الكذب” للدلالة على الدهشة وعدم القدرة على التصديق، أما اليوم، فعليها أن تستبدل هذا التعبير بكلمة “شيء مثل الواقع” للتدليل على أن الكذب في محاولة مجاراته للمنجز العلمي، يشبه جرّارا زراعيا يسابق قطارا سريعا.

ماذا بوسعكم اليوم أن تكذبوا يا معشر الأقلية المتبقية من عشاق الخيال الذي لم يعد جامحا، وكبا كبوة واحدة، بسبب عجزه وقصوره أمام مختلف الغرائب والعجائب التي تدهش بها البشرية نفسها كل يوم ثم تستيقظ في اليوم التالي على ما هو أكثر عجائبية وغرائبية.

لم يتبق للكذابين الكلاسيكيين إلا الاستعانة بالعلم لتطوير وتهذيب أكاذيبهم، لكن التكنولوجيا سوف تقول لك عبر التطبيقات ومحركات البحث، في كل لحظة استنجاد: عزيزي الكذاب.. مهلا.. إن أكذوبتك “قد سبق لها أن تحققت فعلا” أو هي “قابلة للتحقيق” في الأيام القليلة القادمة.. ابحث لك عن كذبة غيرها وشكرا لاتصالك.

هل أصبح الكذب عملة نادرة حقا، أم أنه صار يتسرّب من خلال “حقائق علمية”، تكرّس زيفا من نوع آخر، مفاده أننا اليوم نصدق كي نكذب، في حين أن أسلافنا كان يكذبون كي يصدقون ويُصدّقون؟

أعذب الأشعار وأرق القصص والروايات في التاريخ هي “أكذبها”، لذلك، قال والد الروائي غابرييل غارسيا ماركيز، لأصدقاء ابنه الذي كان ينعته بـ”الفاشل”، قبل سطوع نجمه “أنتم تقولون إنه، وربما سوف يكون روائيا شهيرا.. حسنا، أظنني أعرف ذلك، لقد كان منذ طفولته كذابا لا يُشق له غبار”.

لقد كان لكذب “أيام زمان” طعم آخر، يشبه طعم فواكه وخضروات ما قبل الأسمدة والبيوت البلاستيكية.. فلنعد للكذب بصدق وشهية، ودون منكّهات صناعية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: