بؤس الثقافة المعاصرة

منذ عام 1992 اعتبر المفكر فوكوياما أن التاريخ البشري قد اكتمل، ولن يشهد بعد ثورات كبرى مثل الثورة الفرنسية والثورة الأميركية والثورة الروسية أو ثورة ماو الثقافية.

الفكرة المركزية عند فوكوياما هي أن الليبرالية الديمقراطية قد انتصرت كنظام وكأيديولوجيا، أما الذي سوف يحدث في المستقبل سينحصر في تحسين وتطوير هذه الليبرالية.

أكد فوكوياما أيضا أن الحركات الأصولية الإسلامية المتطرفة قد تمارس العنف المادي في مناطق هامشية، ولكنها لن تصنع ثورة علمية أو تحولا في الفكر العالمي، لأنها لا تملك أي مشروع نوعي له فرادة خارج هوامش الليبرالية والرأسمالية الغربيتين.

في ذلك الوقت شنّ كثير من مثقفي اليسار في روسيا والغرب حملة ضد فوكوياما واعتبروا فرضياته ساقطة فكريا، مثلما اتهموه بالتحامل الأيديولوجي، ولقد وصل الأمر ببعض النقاد إلى وصف كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” كآخر شهقة للرأسمالية التي تلفظ أنفاسها تدريجيا.

وفي العالم العربي تحرك اليسار الطفولي كعادته وردّد كالببغاء ما قاله اليساريون الغربيون. بعد عقدين على صدور كتاب فوكوياما، انفجرت الانتفاضات في عدد من الدول العربية انطلاقا من تونس، وظن الناس أنها ثورات راديكالية في الفكر والوعي والثقافة والمجتمع والسياسة ولكن ذلك الظن قد تبخر. بدلا من التحول التاريخي رأينا داعش من جهة، والانتهازية السياسية باسم العلمانية حينا وباسم أكذوبة الديمقراطية حينا آخر، يحوّلان الحركات الشبابية التلقائية إلى مجازر دموية، تمّ خلالها الانقضاض على الحكم من طرف المتفرجين الانتهازيين في ظل سباحة الجميع في مستنقع الرأسمالية المتوحشة الوافدة على مجتمعاتنا الهشة.

الانتفاضات العربية توجت إما بعودة الإسلام السياسي ذي العصي والمخالب إلى الحكم أو بغزوة المعارضة التي تلبس الأقنعة السياسية، ولكن عينها على تحقيق مصالحها

في الغرب رأينا الصعود الكاسح لشخصيات مضحكة وكارنفالية إلى سدة الحكم كما في أميركا ترامب وبرازيل بولسونارو، ونزول شخصيات إلى بيت السياسة بالمظلات كما هو الحال في فرنسا ماكرون، وفي بريطانيا ديفيد كاميرون وهلم جرا.

وفي هذه الأيام شاهدنا ما يدعى بانتفاضة ذوي السترات الصفراء في فرنسا تشعل النار في السيارات وتخرب الممتلكات بمنطقة الشانزليزيه ذات الرمزيات الأسطورية والتاريخية والثقافية الكثيرة في تضاريس الوجدان الفرنسي الحديث والمعاصر. من الملاحظ أن كل هذه الظواهر تحدث في ظل تراجع مكاسب دولة الرعاية الاجتماعية العادلة القليلة جدا، والتي تعتبر نموذجا أوليا للدولة الاجتماعية الديمقراطية، إلى حد ينذر بكوارث اجتماعية خطيرة جدا يمكن أن تنفجر في أي لحظة.

وزيادة على ذلك فإن الانتفاضات العربية قد توجت إما بعودة الإسلام السياسي ذي العصي والمخالب إلى الحكم أو بغزوة المعارضة التي تلبس الأقنعة السياسية، ولكن عينها على تحقيق مصالحها المالية أو مآرب أخرى ليست في صالح المواطنين طبعا، كما توجت أيضا بسرقة العسكر للسلطة مما جرد أولئك الشباب الذين انتفضوا في الشوارع من كل شيء وجراء ذلك بدأت العدمية تحل محل العقلانية التي تتغذى من الفكر العلمي وأخلاقيات السياسات العادلة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: