الإرادة الدولية تخفر “نَعَمَات” المغرب

طالع السعود

قضية الصحراء المغربية ستكون الأسبوع المقبل موضوع مداخلة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يُقدمها ستيفان دي مستورا المبعوث الشخصي للأمين العام لهذا النزاع. سنكون أمام نقاش سياسي دولي حول مآل مساعي الحلِّ السياسي للمُنازعة الجزائرية حول الصحراء المغربية، تأسيسا على قرارات مجلس الأمن، والمتراكمة في الاتِّجاه نفسه منذ 2018، والمُستَوحاة من مضمون مُقترح الحكم الذاتي الذي اقترحه العاهل المغربي الملك محمد السادس منذ 2007 ليكون قاعدةَ حلٍّ سياسي، دائمٍ، واقعي، عادلٍ ومتوافقٍ عليه.

دي مستورا، ولإعْداد مداخلته، وصل إلى المغرب بعد زيارة موريتانيا ليسمع من ناصر بوريطة وزير الخارجية المغربي تأكيدات مغربية جوهرية، أسْمتها بعض الصحافة المغربية “لاءات ثلاث”، وهي في عُمقها “نَعَمَات” تستجيب للقرارات الأمَمية، تلْتزم بها وتدعو إلى التقيُّد بها للتقدم في حلِّ النزاع الذي استهلك نصف قرن، وأمْسَى شاذًّا في الوضع السياسي العالمي.. “اللاءات” هي اختصاص جزائري، والتي تتعاطى مع النزاع “بثقافة” سياسية رثَّة وغير واقعية، كان ضمن مفرداتها “لاءات الخُرطوم”، لمؤتمر الجامعة العربية سنة 1967.

المغرب أكد على تحمُّل المنتظم الدولي مسؤولياته في فرض احترام وقف إطلاق النار على بوليساريو، وهي التي تُشوِّش “بألْعابها النَّارية” على هدوء السعي إلى الحل الذي قرره مجلس الأمن. وأكد ثانية على أن المرجعية الوحيدة المقبولة، الواقعية والشرعية، التي يؤكد المغرب على اعتمادها في البحث عن حل للنزاع هي مبادرة الحكم الذاتي المغربية، والمُتضمنة في قرارات مجلس الأمن.

وثالثًا أكد المغرب على ضرورة احترام القرارات الأمَمية بإجراء مُفاوضات رُباعية الأطراف، والجزائر ضمن الرُّباعي، في إطار مائدة مستديرة. المطلوب، في المُحصِّلة، مُطابقة مُجريات النزاع في أصله وفي واقعه مع المسعى الأممي لإقرار حلٍّ له.. الجزائر، في أصل النزاع، في منطلقه وفي وقائعه وتاريخه هي طرف مُؤسِّسٌ، موَجِّهٌ، مُمَوِّلٌ، مُسلِّحٌ ومُحْتضِنٌ لبوليساريو ومُتحكِّمٌ فيها ومُنْفَعِلٌ مع تطوُّرات النزاع كطرفٍ مُتوَغِّلٍ فيه ومعنيّ به، فليكن لها موْقع الطرف المعني بالتوَصُّل إلى الحل وليس فقط المُؤجِّج للنِّزاع.

القريبون من النزاع حول الصحراء المغربية والبعيدون عنه، المعنيون به أو مجرد المهتمين، يعرفون صلة الجزائر بالنزاع ومركزيته في علاقاتها الخارجية، ولها فيه أغراضٌ في سياساتها الداخلية..

الجزائر ترفُض المشاركة في مُفاوضات المائدة المستديرة، بيْنما هيَ تضع النزاع حول الصحراء المغربية في مركز “أمْنِها القومي” وفي صدارة حساسياتها الإستراتيجية. وذلك ما يُقرأ يوميا في الصحافة الجزائرية وهي تذهب بعيدًا في الغضب من كل دوْلة تجاهلت إغراءات قيادة الجزائر أو ضغوطها، وتفهَّمت عدالة الحق الوطني الوحدوي المغربي، كله أو بعضه، وتبنَّته أو انحازت إليه.. تغْضب إلى حد العصف بمصالحها والانفعال كأيِّ طرف مُسَّ في “حقه”. وتُكرِّر دائما أنها غير معنية وهي مجرد مُتَعاطف مع “صاحب قضية”.

يُمكن التَّدليل، على ما ذهبت إليه، بعشرات الوقائع.. غير أن المُجريات السياسية الجارية هذه الأيام، تُسعفنا بما يُؤكد الواضحات أو يفضِحها.

في لقائه مع الصحافة الجزائرية، بداية أبريل الجاري، بدا الرئيس عبدالمجيد تبون غاضبًا من الإمارات العربية المتحدة. كان غضبه من الشدة، بحيث تحدَّث بطريقة اتسمت بالانفعال، يتوعَّد ويُهدِّد وبانْفعال جعله يتباهى على قادة الإمارات بتمرُّس الجزائر على التحدِّي، مُذكِّرا بأنها قدّمت في تحديها للمستعمر أكثر من خمسة ملايين وستمئة ألف شهيد.. أي ما يفوق نصف عدد سكان الجزائر، نهاية خمسينات القرن الماضي. وهو تباهٍ واستعراضُ قُدرات صمود في غير السياق اللائق بهما، وأيضا بفَرية في عدد الشهداء شديدة المبالغة، إلى درجة أن الإعلام الجزائري تجنَّب ترْديدَها. وقد لَامَ الإمارات أو عابَ عليها مُضايقة الجزائر بمالها، وبدأ بالإشارة إلى حضورها في المغرب (الجار) قبل المرور إلى حضورها في مالي والسودان.

تلك الغضبة “الرئاسية”، والحملة الإعلامية الجزائرية ضدَّ الإمارات، عكست حدَّة انْزعاج قادة الجزائر من التطوُّر النوعي، العميق والشامل، للعلاقات المغربية الإماراتية، والَّذي أطلقته زيارة الملك محمد السادس إلى الإمارات بداية ديسمبر 2023، بذلك الاستقبال التاريخي الفخْم والعاطفي، الذي خُصِّص له في أبوظبي، وضمْنه تلك الحُزمة من مُذكِّرات الشراكة الاستثمارية للإمارات في المغرب والشاملة لمجالات، النقل، الماء، السياحة والعقار، سوق الرساميل، أنبوب الغاز بين نيجيريا والمغرب، الموانئ (وضمنها ميناء الداخلة الأطلسي)، فضلا على المواكبة الإماراتية لأوراش تنظيم المغرب لكأس العالم سنة 2030 (مع إسبانيا والبرتغال)، هذا إلى جانب الانخراط الإماراتي المُعلن في المبادرة الأطلسية – الأفريقية لملك المغرب، وهي المندرجة في التوجه الأفريقي للمغرب، الواضحة مُؤشرات اتِّساعه وفعاليته أفريقيا ومغربيا.

رأى حكام الجزائر أن المغرب ينسُج له موقع قوة وتأثير، عربيا وأفريقيا ومتوسطيا. والشراكة الاستثمارية مع الإمارات تساهم في تنويع مصادر “الطاقة” للديناميكية المغربية، والتكامل المغربي – الإماراتي واعدٌ بالامتداد إلى المجالات الحيوية لفعالياتهما، عربيا وأفريقيا. وقد بدأت بعض مؤدَّياته تلاحظ في مالي، بيْنما تأزَّمت علاقة الجزائر معها ومع النيجر، فالمغرب يحوز ثقة الدولتين، ويلتقي هناك مع الإمارات، خاصة في مالي.

حكام الجزائر يرون أن المغرب ينسُج له موقع قوة وتأثير، عربيا وأفريقيا ومتوسطيا. والشراكة الاستثمارية مع الإمارات تساهم في تنويع مصادر “الطاقة” للديناميكية المغربية

لم يغضب تبون ومن وراءه من مجموعة “فاغنر” العسكرية الروسية، التي اتَّسع وُجودُها في مالي، رغم ما قد يشكله مستقبلا ذلك الوجود من تهديدٍ لأمن الجزائر في جنوبها.. لنقل تحاشاه. يُزعجه الوجود الإماراتي، المتزامن مع تنامي التقدير في مالي للمغرب، بما جعله انْزعاجا مُضاعفا أو مُتراكما، أدَّى إلى تجاهُل خطورة مُرْتزقة “فاغنر” والتطاوُل على الإمارات، بشُحنة العدَاء للمغرب.

الإمارات التي لها مع الجزائر علاقات تاريخية، وتطوَّرت مع الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، ابتداء من العقد الأول من سنوات الألفين هذه.. بلدان يشتركان في تصدير الغاز، فأنضجا مجالاً أوسع لعلاقاتهما بتشجيع الإمارات على الاستثمار في الجزائر، لتلقيحها بالخبرة الإماراتية في مجالات العقار والسياحة، وفي بعض الصناعات وفي السوق الرقمية، وصولاً إلى التجهيزات العسكرية.. ضَحَّت قيادة الجزائر بكل ذلك، وبعائداته على اقتصادياتها المضطربة وسيئة التَّوْجيه، غضبا من إعلان الإمارات فتح قنصلية لها في العيون أوَّلا، وثانيا، من اتفاقات الشراكة التاريخية الإماراتية – المغربية في ديسمبر الماضي.

تماما كما هي غاضبة، تلك القيادة، من إسبانيا بسبب تطويرها لعلاقاتها مع المغرب نوْعيا، والامتداد بها إلى الصحراء المغربية، قضية ومجالا للتعاون الاقتصادي. وتماما كما بدأت اليوم، تقرع طبول الغضب من فرنسا بسبب الإعلان الرسمي عن استثمارات فرنسية هامة في أقاليم الصحراء المغربية. شرارات ذلك الغضب خرجت من مقالاتٍ تُهاجم فرنسا، ومن بلاغ يبدو أن المخابرات الجزائرية هي من كتبته لقيادة بوليساريو. غضبٌ يُهدد بإبْعاد أو إلْغاء الزيارة المرتقبة للرئيس الجزائري إلى فرنسا الخريف المقبل.

تخسر القيادة الجزائرية صداقة الإمارات بتهوُّر سياسي، كما تُعقِّد علاقاتها مع دولتين هامتين في البحر الأبيض المتوسط وفي أوروبا، بسبب أنها تُعادي المغرب، فيُلوِّث عداؤها ذلك دبلوماسيتها، وبسبب كونها طرفا في النزاع حول الصحراء المغربية، يُدافع بعناد وبلا أفق عن استمرار المشاغبة الانفصالية ضد المغرب، وضِدًّا على قرارات مجلس الأمن، أي ضدَّ الإرادة الدولية.. فتخسر رَوَافع اقتصادية هامة، تضيع علاقات دولية مُثمرة، فيضعف وزن الجزائر دَوليا، ويَبُحُّ صوتها في الفضاءات الدولية، وقيادتها لا تملُّ من الهُتاف بأنها “قُوَّةً ضاربة”.. هي ضاربة مصالح شعبِها عرض الحائط، وضاربة في التكلُّس عن التفاعل مع مُعطيات الوضع العالمي الجديد وموقع المغرب فيه.

القريبون من النزاع حول الصحراء المغربية والبعيدون عنه، المعنيون به أو مجرد المهتمين، يعرفون صلة الجزائر بالنزاع ومركزيته في علاقاتها الخارجية، ولها فيه أغراضٌ في سياساتها الداخلية.. إنها طرف رئيسي، وهي في ذلك تُمارس تفرُّعا من كونها طرفا، ولحسن الحظ الوحيدة، المنشغلة والمتفرغة لمعاداة المغرب، “عن قصد وسبق إصرار وترصد”. وهي خطيئة قيادة الجزائر الأصلية، بل إنها جناية تاريخية، لا تؤثر في المغرب، ولكنها تلحق بالغ الضرر بمصلحة الشعب الجزائري في التوفر على قيادة تتحسس حقوقه في التقدم، ذلك التقدم الذي يمكن للتعاون الجزائري – المغربي، وفي سياق مغاربي، أن يشحنه بطاقات التحرك النوعي نحو أفُقِه.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: