المضمر والمكشوف في حكاية تبون والانتخابات المسبقة

في صورة نقَلها التلفزيون الجزائري ودامت 39 ثانية، أعقبها بيان مقتضب جدا (85 كلمة) أصدرته رئاسة الجمهورية معلنة إجراء انتخابات مسبقة، انقلبت الجزائر رأسا على عقب، وتغيرت سيناريوهات كاملة على الأقل تلك التي كانت تخطط وتخمن المصير والمستقبل، التهب الجدل وتطايرت التكهنات والتوقعات واختلطت الحسابات في العقول وفي أروقة الأحزاب الموالية والمعارضة وحتى لدى أولئك الذين يتنعمون في ظلال هذه العهدة أو عند اللامبالين؛ ظهر وزير الداخلية إبراهيم مراد في تلك اللقطات مذهولا وهو ينظر إلى الرئيس تبون، شارد وكأنه لا يصدق. جلس على يمينه مدير ديوان رئاسة الجمهورية بوعلام بوعلام، مركزا نظره على الرئيس تبون، وكأني به يحدس ما سيؤول إليه وقع الحدث عندما يلقى به علنا، فهو في اعتقاد الكثيرين بما يملكه من نفوذ جبار وسيطرة، من دبر واقترح ورسم الخطة مع لفيف من رجال لا أحد يعرفهم، بل يظهر الوحيد المطمئن في اللقطة ولم يكلف نفسه عناء فتح الملف الأبيض الذي وضع أمام الحاضرين، بينما تبادل الرجل الثاني في الدولة رئيس مجلس الأمة صالح قوجيل ابتسامة عابرة مع الرئيس تبون الذي رد عليه بتمتمات.

أبان رئيس السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات محمد شرفي عن لخبطة واضحة، حيث قلب الأوراق التي وضعت أمامه يلقي عليها نظرة وكأنه يفتش وراء ما هو مكتوب فيها. أما البقية فيظهرون كأنهم خارج الصورة تماما كحال رئيس المحكمة الدستورية عمر بلحاج، ورئيس المجلس الشعبي الوطني إبراهيم بوغالي الذي كان يبتسم فقط، وتوشح رئيس الحكومة نذير العرباوي بهدوء غريب واكتفى بتشبيك أصابع يديه. نفس الأمر بالنسبة إلى رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي الفريق أول السعيد شنقريحة أين التقطته الكاميرا وهو يقلب القلم بين يديه ليخفف به توترا مبطنا، ينظر تارة إلى تبون وتارة أخرى يوجه نظره إلى قوجيل.

◄ دوما كانت صناعة رئيس للجزائر سردية مضنية ومبهمة وتقض المضاجع، وتتخللها صراعات وجدل وتجاذب، ولنقل إنها تخضع لقرار “العلب السوداء”

داخل هذا الجو الصامت الصارم الخالي من الديناميكية، تمّ إطلاع القيادات العليا للبلاد على القرار الصعب، التقني المحض كما تمّ توصيفه لاحقا، أو بالأحرى أخذ بعضهم فكرة عنه في آخر لحظة لأن تحليل الصورة التي بثها التلفزيون الجزائري يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن اثنين كانا على علم مسبق بالقرار، أما البقية فتم إخطارهم كما قلنا في آخر لحظة.

انبرت وكالة الأنباء الجزائرية بعد صدور القرار تشرح وتفسر، وهي بالمناسبة الملجأ والملاذ حين تلتف خيوط غليظة من الصمت على أفواه مستشاري الرئيس تبون وخاصة فريقه الإعلامي، حاولت فك المنغلق منه والذي بدا أن لا أحد فهمه سواهم أو من أوحى لهم أو من كتبه، قدرت في لغة وأسلوب مشوش أنها تلملم شظايا القرار الذي تبعثر في كل مكان على الأقل لمن هم مهتمون بحدث الرئاسيات. داخليا، رؤساء الأحزاب ممن صدمهم القرار ووضعهم في موقف المتخبط لا هم أعلموا به كشركاء سياسيين زاروا الرئيس تبون بطلب منهم مثلما يرد في البيانات التي تلي الاستقبال، أو خارجيا، الذين يتسقطون ما يحدث عندنا وهم في حيرة مما يحدث، خاصة العواصم الكبرى.

قالت وكالة الأنباء إن هذا القرار من بنات أفكار “العلبة السوداء الرئاسية”، وكأن هؤلاء الذين يحكمون فضلوا البقاء على عقيدة المناورات في الخفاء وفي الغرف المظلمة، وتعويم الحقائق كيلا نمسك برأسها الموجع، مع أنهم أقسموا بعد أن تربعوا على العرش أن لا عودة إلى ممارسات مشينة طبعت مسار بناء الدولة الجزائرية، وأن تكون الشفافية والوضوح ديدنهم في تسيير شؤوننا حتى ولو كانت مرّة.

لا نعرف بالضبط مدى غبطة تبون وأفراد حاشيته، بعد أن استلموا هذه الصلاحية الدستورية ورموا بها بغتة في خضم ما بدا أنه استكانة وارتياح تام لما تمّ إنجازه إلى الآن خلال العهدة الأولى، تشهد على ذلك كثافة الدعاية واصطفاف الغريب والقريب في التنويه بما حققته الجزائر من ازدهار ونمو وقفزات خارقة نحو ضفاف الرخاء والعيش الكريم والتقدم في كافة المجالات، وإرجاع الفضل كله غير ناقص إلى متابعة الرئيس شخصيا، في كل شاردة وواردة من السياسة إلى الاقتصاد، إلى الثقافة، إلى… حتى لتخال أنه كائن خارق للعادة، لا ينام ولا يتعب. أضف إلى كل هذا  حضورا عالميا تشبك خيوطه دبلوماسية رفيعة تعود دوما كما يردد أحمد عطاف وزير الخارجية إلى حكمة الرئيس تبون واقتداره في إدارة المشكلات العالمية، وحنكته في مدّ السفراء والقناصل الجزائريين عبر العالم بروح الثبات على مواقف مقدسة لا تتزعزع ولا تشوبها شائبة، يقود كل هذا وزراء ورجال أعمال ومنظمات جماهيرية ومسؤولون وشركات “الستارت أب” ونخب وإعلام وحتى أذرع مريبة مبسوطة في السوشيال ميديا.

كل هذا الإرث المعقد، أو التعهدات الـ54 كما اصطلح على تسميتها داخل فلك الأدبيات السياسية والخطابية والدعائية للنظام الحالي، وهي تعهدات أقسم تبون على تنفيذها مهما وقفت في وجهه التيارات الغاضبة وفلول الدولة العميقة الصادة بقوة مالها وأياديها الداخلية والخارجية للطموح والرغبة والنية والقوة كي يبلغ النهايات السعيدة، والانطلاق من جديد إلى آفاق أخرى.

◄ الرئيس تبون سيقضي خمس سنوات إضافية في حالة فوزه بالرئاسيات القادمة ويكون قد بلغ من العمر 82 سنة، وتلك مفارقة وسردية قدر غريب لم تتحرر منه الجزائر

فمنذ برهة الـ54 تعهد تبون رفقة زملائه في الحكم ليلا ونهارا، قصرا كبيرا بأحلام كثيرة، جابت في زواياه مبالغات واندفاعات وأفعال متسرعة تتراجع بعد أن يتم تدارك أنها كانت معالجات خاطئة، وهناك أيضا نجاحات تتجول وترفل على بساط القصر، تُرى بعيون من يصنعها غير أن ما ينقصها هو خيال خصب كي تسوق بشكل يسمح بتلمس فاعليتها وتمددها الحلو في الواقع وفي رأس كل جزائري غير قنوع بطبعه، لكنها نجاحات ما يفتأ بعضها يغرق في الواقع المرير الذي مازال يموج بالتوتر الخفي.

هذه الصورة الجديدة أو الجزائر الجديدة التي يجهد الكلّ في تزيينها (وبعضهم يسودها ويرمي عليها الغبش وينسف عليها ريح السموم والأقاويل والشائعات) ووضع الرتوش عليها كي لا تنعكس بوجهها القلق على الشاشة الكبيرة ولا تشوش على هدوء رجال الحكم.

فما الذي تملك الرئيس تبون وأفراد حاشيته حتى اهتدوا إلى حل ملتبس؟

هل الجزائر فعلا في عين قوى تريد أن تحطمها؟

ما هي المعلومات الخطيرة السرية التي بحوزتهم ولا يريدون الإفصاح عنها؟

أليس من حق الشعب الجزائري أن يكون على علم بالخطر المدلهم القادم، ويقتنع بمبررات المؤامرات التي أسرف النظام في تدويرها كلما أصابه الصداع الآتي خاصة من رواد السوشيال ميديا وملل ونحل معلومة ومجهولة، أم أن الحدث فعلا جلل وحقيقي وليس مجرد فزاعة؟

هل الجزائريون في عرف هؤلاء “قصر” لا يفقهون شيئا، ولا يعرفون الخيط الأبيض من الأسود، وليس لهم الحق في أن تتم معاملتهم بكل صدق وأمانة حتى يثقوا بأن مصيرهم في يد أمينة لا تلقي بهم إلى مجاهل التهلكة، لأن صروف التاريخ والوقائع تعلمنا أن شريحة عريضة من الشعب الغلبان هي من سيدفع الثمن باهظا لو قدر للأمور أن تنفلت من عقالها.

هذه أسئلة مشروعة يجب أن تطرح هي وغيرها على تبون ومن معه.

◄ داخل الجو الصامت الصارم الخالي من الديناميكية، تمّ إطلاع القيادات العليا للبلاد على القرار الصعب، التقني المحض كما تمّ توصيفه لاحقا، أو بالأحرى أخذ بعضهم فكرة عنه في آخر لحظة

ماذا فعلتم بالحكم كي نمنحكم مرة أخرى العهد والأمان والثقة؟

نطرحها لنعرف ونتقوى فعلا، ويكفوا عن وضعنا في قوقعة الأوهام “الخلاّقة”، كي لا نصدم عندما تتكشف الحقائق على الأرض ويقال لنا مثلما قيل لسيدنا موسى عليه السلام: “اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون”.

دوما كانت صناعة رئيس للجزائر سردية مضنية ومبهمة وتقض المضاجع، وتتخللها صراعات وجدل وتجاذب، ولنقل إنها تخضع لقرار “العلب السوداء” حتى نستعير المصطلح الوارد في بيان وكالة الأنباء الجزائرية. ومهما كان من يدير هذه “العلب” الخفية، المعلقة دوما بإستراتيجيات غامضة داخليا وخارجيا، فلن يصعد إلى عرش القصر أي شخص ولو كانت رمزيته وقيمته عاليتين في سوق الحضور القوي بداخل مخيال الجزائري، لن يصعد ما لم تحدث مفاجأة نافذة في آخر لحظة، وهو ربما ما دفع الرئيس تبون ومن حوله إلى تسريع اتخاذ هذا القرار، حتى وإن لم يعلن حتى الآن عن تقدمه للترشح ليبقي على “السوسبانس” في حكم “الغيب”، أو كما قال لي أحد الإعلاميين إنها “مسألة أخلاقية” إذ لا يمكنه أن يعلن عن ترشحه ما لم يتم استدعاء الهيئة الناخبة. أو أن الأمر كله مرتبط بتعافيه من المرض بعد أن نصحه الأطباء بضرورة التريث وعدم بذل مجهود قد ينعكس سلبا عليه كما أسرّ أحد الإعلاميين المقربين، أو هي “خطته المضادة” يناور بها حتى تتضح له خطة من يعارضون ذهابه إلى عهدة ثانية، وهو يعلم ويدرك تماما كما يعلم ويدرك أكثر المتابعين نباهة أنها واحدة من بين أقوى الأجنحة في النظام الجزائري المستمرة في “خلق” رئيس ولو في آخر لحظة.

سيقضي الرئيس تبون خمس سنوات إضافية في حالة فوزه بالرئاسيات القادمة ويكون قد بلغ من العمر 82 سنة، وتلك مفارقة وسردية قدر غريب لم تتحرر منه الجزائر.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: