الواقعية السياسية.. المرشح الآخر في رئاسيات الجزائر

الخميس الماضي أعلن الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون عن إجراء الانتخابات الرئاسية يوم 07 سبتمبر 2024، وهي انتخابات سابقة لأوانها، والمفترض أنها كانت ستجرى يوم 12 ديسمبر، داخل الجزائر وخارجها. فاجأ القرار كلَّ المعنيين وكلّ المهتمين، وأنا واحدٌ منهم، وكنت كتبت بأن احتمال تأجيلها وارد. وهي مفاجأة بشُحنة اسْتغراب ضئيلة، لأنها لم تُغيِّر من خلاصات قراءة الوضع السياسي في الجزائر ولم تُبدِّد غُموضه، بل طعَّمتْه بظلال جديدة، لأن انتخابات مُؤجَّلة أو انتخابات سابقة على موْعدها، كلاهُما نتاج لنفس أزمة تدبير النظام السياسي. ولعل إجراء الانتخابات، ثلاثة أشهر قبل أوانها المفترض، تعبير عن اشتداد تلك الأزمة وبُرْم أطرافها من انسدادها.

ثلاثة أشهر قبل موعد الانتخابات المفترض، مُدة قصيرة، تُقلِّل من الأهمية السياسية لقرار التَّعجيل، ولا يستقيم أن تُبرَّر بمرض الرئيس. تبون في اجتماع مجلس الوزراء الأحد الماضي، بدا مُمْتَلكا قُدراته البدنية وهو يُسيِّر الاجتماع ويتحدث فيه ويُقرِّر. ثم إن عامل الوَهَن الصّحي وحتى العجز، لم يمنع من ترشيح الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة للعُهدتين الثالثة والرابعة، و”يَسّر” له الفوز فيهما.. خِبرة وتحكم مشهوديْن للنظام، لماذا الاستعجال إذن؟ لمباغتة “المجتمع” السياسي الجزائري واستفزاز الارتباك فيه، بالنّظر إلى أن أحزابا عِدّة عبّرت في تصريحات لقادتها في الأشهر والأسابيع الأخيرة، بالواضح وبالمرموز، عن عدم رضاها عن احتمال تأجيل الرئاسيات، مما يُفيد بأنها كانت تضع ذلك في حساباتها، بكل تداعياته على ضُعف “لياقتها” الانتخابية. وهذا أيضا احتمال غير مُقنع.

ليس في المشهد الجزائري السياسي شخصية حزبية لها من قُوة الحضور الشعبي ما يمكِّنها من الصمود أمام “الإدارة” الانتخابية للنظام وآلياتها. الأحزاب، ترتبك أو لا ترتبك، تباغت أو لا تباغت، مرشح جنرالات الحكم، كان وسيكون، أقوى منها، في حالتها اليوم، ما بين أحزاب اليسار، وهي على درجة مؤلمة من الضّعف، وأحزاب الموالاة وهي تمارس دور الكومبارس.

أصل كل الأعطاب هو تلك العقدة التي تملي على النظام الجزائري سياساته.. عقدة المغرب. وإصراره على مُعاداة أقرب البلاد إليه، تاريخيا، جغرافيا، نضاليا، والوحيد الذي معه تستطيع الجزائر أن تكون فاعلة لذاتها ولحواليها

في انتخابات 2019، وقد كان الحراك الشعبي مُشتعلا، وأوْقف “عربدة” الجنرال قايد صالح وفضح تسلُّط، ما يُسمِّيه تبون نفسه، “العصابة” (بوتفليقة كان مُجرد يافطة في يدها تتستر بها على فسادها).. كان المشهد الحزبي الجزائري مقطوع الإمداد الشعبي. تبون الذي فاز في استحقاق 12 ديسمبر 2019، ترشح مستقلا، رغم أنه كان سابقا عضوا في حزب جبهة التحرير، وكان حصل على حوالي 58 في المئة من الأصوات، من نسبة مشاركة قاربت 40 في المئة، من أصل كتلة ناخبة، تعدادها حوالي 25 مليون ناخب. وفعليا احتُسبت فقط 8504346 ورقة تصويت صحيحة، وأكثر من مليون ومائتي صوت ألْغيَ، في صيغة احتجاج سياسي وعملي على النظام بأكمله، تضاف إلى النسبة العالية من مقاطعة الانتخابات.

من بيْن المرشحين الخمسة، حصل عبدالقادر بن قرينة على 17 في المئة من الأصوات، مُمثلا لحزب البناء الوطني، وعلي بن فليس مُمثلا لحزب طلائع الحريات (حزبٌ خبا أو ربما انْدثر)، حصل على 10 في المئة من الأصوات. الانتخابات أكدت، حينها، أن الحراك الشعبي كان في حالة غضب من مجمل النظام السياسي الجزائري، بحكامه وبأدواته الحزبية (تبون كان رئيس حكومة سابق وبن فليس كذلك وبن قرينة كان وزيرا سابقا)، وبالأخص منها حزب النظام “جبهة التحرير”، حتى أن الرئيس تجنَّب الارتباط به.

الرئاسة انطلقت، في ولايتها الحالية، من هُزال في بنيتها الشعبية. والأحزاب، خاصة تلك الموالية، واصلت خُمولها، وفاقم من ضعفها عبورها لمجال سياسي قاحل، حجب النظام السياسي عنه الحركية السياسية التي كانت ستخصبه. ويؤدي كل ذلك إلى أن تُوَلّد الأسباب نفسها النتائج نفسها، بحيث سيكون من المستبعد أن يخترق حزب سياسي جزائري “حاجز الصوت”، ويحوز على الطاقة الشعبية الدافعة له، لينتفض ضد قواعد “اللّعبة السياسية”، والتي نسجها النظام السياسي الجزائري، منذ أن استلمَت “جبهة التحرير” حكم الجزائر سنة 1962. وقد بقيَت هي الحزب الوحيد الحاكم حتى سنة 1989، حين أقِرّت التعددية الحزبية. وليس هناك ما يُفيد بأن النظام نفسه سيتخلى عن “مكاسبه” بممارساته المألوفة في كل الاستحقاقات الانتخابية، لصلتها به، وقد كرّسها “ثقافة حكم” وقاعدة عمل.

أسئلة محاولة فهم تعجيل إجراء الرئاسيات، قابلة للتناسل.. ولكنها مهما تعدّدت فلن تُبدد غموض التدبير السياسي للبلاد. هو غموض سميك، ويكمن فيه “العقل” المدبر لحكم الجزائر، مرتاح وهو يستحوذ على أوسع مساحات الفعل السياسي، ويتلذّذ في مُتابعة باقي الفاعلين، الحزبيين خاصة، يتحركون في الهامش وفي الممرّات الضيقة والمسدودة.

عبدالمجيد تبون يطارده سؤال تقديم ترشيحه لعُهدة ثانية، عمره (الآن 78 سنة) لن يُعيقه على الترشح وأيضا يستحب أن يُراعيه، خاصة هو هشٌّ صحيا، بحسب سوابق أمراضه المعلنة، مثل إصابته بالكوفيد ولزومه العلاج لأشهرٍ في ألمانيا. بعض المؤشرات توحي باستعداده، وبمباركة قادة الجيش، للترشح وربَّما أن سيناريو “الضغط الشعبي” عليه قيد إعداده للإخراج. “حزب جبهة التحرير”، في تصريحٍ لأمينه العام عبدالكريم بن مبارك، ثمَّن الانسجام السياسي بين الحزب وبين الرئيس، وسوَّف التفصيل في الكيفية التي بها سيُساهم الحزب في الانتخابات الرئاسية إلى اجتماع للهيئة المركزية للحزب. هذا الإيحاء، يُعيد إلى الذهن، تزكية الحزب لتبون في رئاسيات سنة 2019.

ليس في المشهد الجزائري السياسي شخصية حزبية لها من قُوة الحضور الشعبي ما يمكِّنها من الصمود أمام “الإدارة” الانتخابية للنظام وآلياتها

أحزاب أخرى، ثمَّنت التبكير بإجراء الرئاسيات، وتحدَّثت عن الظرفية الإقليمية والدولية، المليئة بالمخاطر على “استقرار الجزائر”، والتي تستدعي الْتحام القوى السياسية واستنهاض التعبئة الوطنية، وأرجأت الإعلان عن قرارها العملي في الاستحقاقات، هي أحزاب مثل “حمس” و”التجمع الوطني الديمقراطي” وحزب “المستقبل”.

في الإعلام  وفي “الشروق”، وليس غيرُها، واحد من الذين يكتبون من “محبرة” السلطة، لم يرتجف قلمه حين كتب، “إذا كان رئيس الجمهورية ينوي التقدم لعهدة ثانية، والتقديرات التي بحوزة مصالحه تفيد بأهمية تسبيق الانتخابات عن موعدها، ليكون التوقيت في صالحه، فهذا من حقوقه المكفولة دستوريا وسياسيا وعرفيا”.

الرجل مشكور على صراحته وعلى “عفويته” التي قادته إلى “الدفاع” عن حق الرئيس، رغم ما فيه من اعتداء على الحقوق الديمقراطية، بقضها وقضيضها، وبما يطعن في سلامة التنافس الديمقراطي الانتخابي، ويعتدي على تكافؤ الفرص بين المرشحين. وحدها زبيدة عسول، رئيسة حزب “الاتحاد من أجل التغيير والتقدم”، رشحت نفسها للرئاسيات، في ما قالت عنه “تحدّ للرئيس”، إذا ما رشّح نفسه، مستغربة من اعتبار الانتخابات مبكرة، وهي سابقة على موعدها فقط بثلاثة أشهر، مُتسائلة عن الحدث الذي دعا إلى هذا التعجيل، ملحة على حق الشعب في معرفة مُبررات القرار.

تبون، حتى الآن لم يُعلن عن ترشُّحه.. ولكنه في مجلس الوزراء، الأحد الماضي، أعلن عن قرارات تُشتم منها توابل الحملة الانتخابية السابقة لأوانها. بلاغ اجتماع المجلس مليء بأوامر الرئيس.. مُصاغَة بإيقاع البرامج الانتخابية الدعائية، من نوع “ضرورة تقوية اللُّحمة الوطنية لكونها في صلب أولوياته (الرئيس). من خلال إستراتيجية مبنية على التوازن التنموي، أمر الرئيس بإيلاء الأهمية القصوى لاستكمال البرامج التنموية للولايات التي حُرمت منها لعقود طويلة.. واللائحة طويلة من الوعود في شكل أوامر وقرارات، ولكن أغربها أو أوضحها، هو أمر الرئيس برفع حصة ولاية تيسميلت من السكن الريفي من 3000 وحدة سكنية إلى 15000 وحدة ( يُفترض أن 3000 وحدة سكنية تقرَّرت بعد دراسة الجدوَى وتقدير ميزانيتها). وفي أمرٍ رئاسي، بُعَيْد الإعلان عن موعد الانتخابات، يضرب الرئيس الرقم في 5، وليس في يده عصا سحرية.. وإذا لم تكن هذه حملة انتخابية فماذا عساها تكون.

هي مُؤشرات على احتمال تقدُّم الرئيس تبون بترشحه لرئاسيات سبتمبر المقبل.. وهو ترشيح يُرجِّحه خلوّ الساحة السياسية من شخصية مرموقة ومُتميزة، من خارج الشخصيات الحزبية، والتي تثير اهتمام الجيش، المُتعهد الرسمي للانتخابات. وقد يستفيد تبون، في حالة فوزه بعُهدة ثانية، من تلبية دعوة إمانويل ماكرون، والتي تأخَّرت طويلا وتأجَّلت مرَّاتٍ، أواخر سبتمبر أو أوائل أكتوبر، ويكون فيها رئيسا مكتسبا لتجديد الثقة فيه، وليس رئيسا على وشك انتهاء صلاحياته، كما كان مُقرَّرا قبْلا. وكانت الزيارة إلى باريس ستؤوَّل دعما فرنسيا للرئيس في حملة انتخابية، لو بقيت الرئاسيات في موعدها المفترض 12 ديسمبر.

أسئلة محاولة فهم تعجيل إجراء الرئاسيات، قابلة للتناسل.. ولكنها مهما تعدّدت فلن تُبدد غموض التدبير السياسي للبلاد. هو غموض سميك، ويكمن فيه “العقل” المدبر لحكم الجزائر

فرنسا لدى تبون لها مكانة خاصة.. انشغال خاص، وأيضا هاجس خاص. لديه معها شخصيا حساسية خاصة، ولماكرون نفس الانشغال والهاجس والحساسية، ولهذا أجّل الزيارة أكثر من مرّة، بينما تبون اسْتعجلها أكثر من مرة. وكِلاهُما يعرف بأنه ليس لديهما ما يضيفانه لمستوى علاقاتهما الحالي، ولا يملكان ما يمكنهما من خفض للتوتر فيها. وفي الموضوع يبدو كما لو أن جنرالات الحكم في الجزائر استسلموا لواقع اليأس من “نزاعهم” الطويل مع فرنسا، حول الذاكرة ومنها إلى السياسة، وفوّضوا للرئيس تبون تأثيث مساحة تلك العلاقة، إلى أنْ تجُود التطوُّرات بما هو غير مُتوقع.

وفرنسا هي فقط واحدة من أعطاب الدبلوماسية الجزائرية، وإن كان عطبُها مؤثرا. وهي أعطاب ليس تبون هو المسؤول عنها، هو فقط ارتكب بعضَ الانزلاقات وبعض الانفعالات وحتى بعض القفشات، التي انْضافت إلى سوء التدبير السياسي العام لدبلوماسية الجزائر، فأعطت هذا التدهور في المكانة الدولية للجزائر، على ما كانت عليه في بداية سبعينات القرن الماضي. ولعل أبرز مظاهر ذلك التدهور هو عدم قبول عضوية الجزائر في مجموعة بريكس، وذلك رغم زعامة الصين وروسيا، لتلك المجموعة. هي انتكاسة، انكشفت فيها مكانة الجزائر لدى حليفيْن هاميْن لها. يضاف إلى ذلك التوتر مع فرنسا والتشنج مع إسبانيا والانفعال مع الإمارات والقلق الصامت من الولايات المتحدة، واللائحة طويلة..

وأصل كل الأعطاب هو تلك العقدة التي تملي على النظام الجزائري سياساته.. عقدة المغرب. وإصراره على مُعاداة أقرب البلاد إليه، تاريخيا، جغرافيا، نضاليا، والوحيد الذي معه تستطيع الجزائر أن تكون فاعلة لذاتها ولحواليها.

وقد يسّر عليه المغرب أن يتقدم نحوه وبلا إحراج، عبر النداءات الملكية المتعددة للحوار والتفاهم والتعاون، نداءات في خطابات رسمية ذات اعتبار سياسي، دونما انفعال أو تأثر بالقطائع الدبلوماسية الشاملة التي مارستها قيادة الجزائر ضد المغرب، ودونما اكتراث برعاية تلك القيادة للجماعة الانفصالية ضد الوحدة الترابية الوطنية المغربية، وذلك على مدى ربع قرن، وإصرارها على تحريكها وتغذيتها حتى وملك المغرب بادر إلى اقتراح الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية المغربية، لإقرار حل سلمي، دائم، واقعي، عادل ومتوافق عليه. اقترحه من موقع صاحب الحق والمنتصر في دفاعه عن حقه.. اقترحه لصون التاريخ المغربي – الجزائري المشترك والانتصار لطموح الشعبين في نسج مستقبل التقدم المشترك.

ليس في المغرب من له مرشح مفضل في رئاسيات الجزائر.. هي شأن داخلي جزائري. والأمل هو أن ينتصر الفائز فيها للأمل الوحدوي المغاربي ولعمق الأخُوَّة المغربية – الجزائرية، وأن يضع ذلك الفائزُ المغربَ في مركز واقعيةٍ سياسيةٍ تفتح الجزائرَ على مُستقبل مُزهرٍ.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: