نذير العرباوي دبلوماسي محنك في مهمة إنجاح ولاية تبون

محاط في مكتبه بقصر الحكومة بأربعة رموز تلفت الانتباه؛ القرآن والعلم وصورة الرئيس عبدالمجيد تبون وتمثال من البرونز لفارس ممتط جواده، لا نعرف بالضبط ما يرمز إليه ولكن قد تذهب بنا المخيلة الشقية إلى الأمير عبدالقادر، فقد يكون هو أو قد يرمز إليه.

ذلك هو مشهد الصورة التي التقطت لرئيس الوزراء الجزائري نذير العرباوي وهو في مكتبه مثلما تداولتها شبكات التواصل ووسائل الإعلام لحظة تعيينه في المنصب.

أربعة رموز تحمل معاني متدفقة في وعي ومخيلة الجزائري حين يتأمل الصورة وما تعبر عنه وتقوله وتزخر به؛ إنه الانتماء الفطري إلى القرآن، والوفاء المبجل للعلم، والولاء الصادق للرئيس. وكلها مجتمعة تكشف عن جوهر الدولة الجزائرية في عمقها الروحي والتاريخي.

عادة لا يعرف الجزائريون مكاتب المسؤولين الكبار.. شكلها، مساحتها، ألوانها، في أي طابق تقع، ماذا تحوي؟… إلخ، إلا عبر الصور التي تنقل أثناء اللقاءات الرسمية التي تبث في التلفزيونات، ومع ثورة النت طرأت تحولات في هذا المجال حيث أصبحت للكثير من المقرات الرسمية صفحات على النت، مثلما فعلت رئاسة الجمهورية حيث يمكن القيام بزيارة افتراضية إلى قصر الحكم للتعرف عليه من خلال الصور، وأصبحت الكثير من الوزارات تنشر نشاط الوزير أو المسؤول عبر الوسائط، ومن ثم أمكن رؤية هذه الأمكنة افتراضيا، وقد يتاح لأصحاب الحظوة الدخول إليها عينيا.

بوكس

في الكثير من دول العالم تنظم زيارة محددة على طول السنة للمواطنين الأعزاء، تتيح لهم التجوال في قصور الحكم ومبانيه، مثلما يحدث في الولايات المتحدة الأميركية، حيث تحفل المواقع بصور هذه الزيارات خاصة للبيت الأبيض والكونغرس وغيرهما من المقرات.

دبلوماسي محنك

هذا حق من حقوق المواطنة كما يفهمها الغرب، تقرب الفرد من مكان صنع قراره وتاريخه ومصيره، بينما يكتفي المواطن العربي على العموم بالنظر إلى أمكنة حكمه، وكأن لا وجود لها إلا في الخيال، ولا تخطر على باله إلا حين يدخلها، وكلما مرّ بقصور الرئاسة أو الحكومات أو بعض الوزارات صادفته المتاريس والعتبات والحرس في كل مكان، حتى لو ذهب إلى هناك لقضاء شؤونه فسيصادف على الأبواب متاريس من نوع آخر اسمها البيروقراطية ورجالها الأشداء.

بدا العرباوي ابن مدينة تبسة المولود بتاريخ 1949، في تلك الصورة هادئا؛ ذلك طبعه مثلما يعرفه الأقربون إليه. ولكنه كما يقولون هدوء يخفي ثورة محتدمة، ومواقف حادة، ونظرة مغايرة تماما لما يبدو عليه في الصورة، بل تشير معلومات إلى أنه كان في ما مضى من أنصار الكل الأمني ضمن حلقة من يعرفون بالاستئصاليين لما واجهت الجزائر موجة الإرهاب الفتاك.

يخلو موقع رئاسة الحكومة من سيرة نذير العرباوي وهذا أمر غير معتاد، خاصة وأن الرجل لا يتحمل مسؤولية هينة وبسيطة، صحيح أن الشبكة العنكبوتية تحفل بمعلومات كثيرة وسيالة عن الرجل وغيره من رجالات الدولة الجزائرية، ولكنها معلومات غير موثقة وغير رسمية، وقد تلصق بهم الكثير من الصفات والمسارات وبمرور الوقت تتضح أنها مغلوطة ومشوهة وغير صحيحة إطلاقا.

 

◙ نجم العرباوي سطع أكثر في واحدة من أنجح القمم العربية التي جرت في الجزائر سنة 2022، حيث كان  من أهم مهندسيها الكبار
نجم العرباوي سطع أكثر في واحدة من أنجح القمم العربية التي جرت في الجزائر سنة 2022، حيث كان  من أهم مهندسيها الكبار

 

كما قلنا دوما يصعب رسم صورة شافية وكافية عن سيرة رجال الدولة في الجزائر؛ من هم؟ ما هي منجزاتهم؟ ولِمَ يتم اختيارهم هم بالذات وليس غيرهم؟ ما هي الصفات التي يتم الاحتكام إليها ليتقلدوا المناصب؟

هناك دوما غموض يغطي الصورة ويرمي بها إلى الكثير من التكهنات، وتلحق ببعضهم صفات جبارة خارقة كما قلنا في العديد من المرات وفي أكثر من مقال، أو تحجم الأدبيات عن ذكر تفاصيل سيرتهم رغم أهميتها، أو في الأحوال العادية يتم نشر سيرة مقتضبة لهم، ومن يريد الاستفاضة أكثر فما عليه إلا التقصي أو الحفر هنا وهناك علّه يعثر على كنز حياتهم الغائر في الكهوف؛ إما أن نصل إلى رسم صورة شافية عنهم  أو نطرق أبواب الأفق المسدود أو نخرج ببعض من معلومات شحيحة عن هؤلاء، خاصة أولئك القابضين على رأس قرارنا ومصيرنا ومستقبلنا.

دخل العرباوي الدبلوماسية عن طريق قانون الاقتصاد، وقبله كان لاعبا ماهرا في كرة اليد، ابتعد عن عالم المحاماة المجرد الثقيل مع أنه مسجل في نقابة المحامين الجزائريين، شده فضاء التشريعات والقوانين المتعلقة بالاقتصاد، ومال إلى عوالمه، تدرج فيه كمسؤول ومدير وصاحب خبرة في بعض المؤسسات الاقتصادية والصناعية، أهلته لأن يكون أحد مفاتيح وزارة الخارجية لمعرفته الواسعة بتحولات هذا الجانب في البلاد، بخاصة أنه تقلد مسؤوليات عدة أبرزها في وزارة الصناعة، ومن قبلها كمسؤول قانوني في أحد فروع مركب الحجار الشهير وعصب الاقتصاد الجزائري، هناك في منطقة الونزة غير البعيدة عن مكان ميلاده، حسب معلومات خاصة.

من وزارة الخارجية حط الرحال كمدير عام للشؤون القانونية والقنصلية، ومدير للعلاقات الاقتصادية الدولية في وزارة الخارجية، لتبدأ معه رحلته السندبادية سفيرا للجزائر في محطات بعض عواصم العالم، حيث بنى شبكة واسعة من العلاقات والروابط وأمسك بخيوطها خاصة في العالم العربي، وأتاحت له سبع سنوات في قلب الجامعة العربية بالقاهرة ممثلا للجزائر توفير أرضية خصبة ليفهم كيف تدار في الاجتماعات الرفيعة بين وزراء الخارجية العرب لعبة التحالفات والمصالح والكواليس والصراعات والتموقعات.

أمضى العرباوي سنواته كممثل للجزائر في الدول العربية برصيد تاريخي يحمله على ظهره.. الرصيد الذهبي للجزائر في المحافل الدولية أين كانت السباقة في الدفاع عن حقوق الشعوب، حيث حفظ واستوعب كافة القصة السردية للعلاقات العربية بكل همومها وأسرارها وخفاياها ونكساتها وانتصاراتها.

كون رصيدا هائلا من هذه المعرفة، والذي سيوظفه في كافة المهمات الصعبة والشائكة التي وجدت الجزائر نفسها في خضمها، مثل الأزمة الكبيرة التي وقعت بيننا وبين مصر بسبب حادثة أم درمان الشهيرة سنة 2009، على خلفية المباراة الفاصلة للتأهل إلى كأس العالم لكرة القدم، التي كادت (أي الحادثة) تصل إلى حافة الانهيار والتصدع والمواجهة مع مصر، لولا حنكة العرباوي وتجربته وعلاقاته المتشعبة مع المصريين في كافة المستويات حتى الرياضية منها؛ فقد أطفأ فتيل النار التي تغذت بحطب ووقود إعلام الطرفين.

وستلعب مؤهلاته الدبلوماسية أدوارا أخرى ناجحة، كالتصديق على اتفاقية ترسيم الحدود البرية بين الجزائر والمغرب لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة، وترؤسه للمفاوضات التي أفضت إلى وضع اللمسات الأخيرة على بنود ترسيم الحدود البحرية مع تونس، وساهم بشكل كبير أثناء سقوط نظام الراحل معمر القذافي وفرار العديد من الأجانب إلى الجزائر في إدارة هذا الملف الشائك والصعب.

برز نجمه أكثر في واحدة من أنجح القمم العربية التي جرت في الجزائر سنة 2022، وكان واحدا من أهم مهندسيها الكبار.

الجندي الذي حلم به تبون

 

◙ عمله كسفير لعدد من الدول العربية يسهل التواصل معها
عمله كسفير لعدد من الدول العربية يسهل التواصل معها

 

جرت القمة في جو مشحون من التوترات العالمية والتجاذبات والقلاقل والخصومات بين الدول العربية. هدّأ بخبرته الجو في الكواليس والهوامش واللقاءات الجانبية بين نظرائه من الأشقاء العرب، فهو يعرف كيف يتفادى هول وحجم الثغرات والانشقاقات والتصدعات التي تنخر جدار الوحدة العربية، وشوهد دوما أثناء مجريات الدورة الـ31 للقمة، يجلس وراء الرئيس عبدالمجيد تبون ينبهه، ويوشوش في أذنيه، حتى أن صحافيا جزائريا يتابع بشكل حثيث الشأن الجزائري قال لي حينها “سيكون لهذا الرجل شأن ما في منظومة الحكم الحالي أو ربما في المستقبل”.

وبالفعل، فما إن انتهت القمة العربية حتى استُدعي على عجل للالتحاق بالقصر، مكث فيه قليلا، يدور ويسأل، ويسجل ما يحدث في جنباته، حتى استقر رأي تبون وعينه ضمن من عينهم مستشاريه، مديرا لديوانه، وهي تعيينات ما لبثت أن أثارت اللغط والسؤال والجدل وحتى المفاجأة عن جدواها وأسبابها وخلفياتها وحجم الصلاحيات التي أعطيت لمستشاريه ومن بينهم العرباوي.

وفي غمرة تركيز الرأي العام في الجزائر، وفي العالم، وانشداد العقول والنفوس والأرواح إلى الحرب في غزة وأحداثها الأليمة، استيقظ الرأي العام الجزائري على خبر إقالة رئيس الوزراء أيمن بن عبدالرحمن من منصبه وتعيين العرباوي مكانه.

بوكس

وتلك سلسلة أخرى من مفاجآت النظام الجزائري، وهذه الأخيرة ليست مرتبطة حدثيا بالرئيس تبون، بل ممتدة منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، فما إن تستقر الأوضاع حتى تتخلخل بفعل فاعل، ولنقل إنه محير ومجهول، حتى لا نشير بأسباب ذلك إلى جهة أو أخرى، ونبتعد قليلا عن وساوس المؤامرات، وسفسطائيات النشطاء أو الأطراف الخفية والظاهرة التي تحاول أن تفسر وتؤول وتشرح العقم والتأزم والانسداد.

وصف زميل سابق للعرباوي في حديثه لمجلة “جون أفريك” الفرنسية قائلا “إنه مستبد، لكنه ليس دكتاتوراً، هو طاغية مستنير يشاوِر ويتشاور ثم يقرّر.. إنه الجندي الذي حلم به رئيس الدولة”.

لا يبتعد هذا الوصف البارع لمقرب مجهول من العرباوي من حقيقة هذا الأخير في الكثير من الجوانب، ففي تحليله لشخصيته يقول الكاتب أحميدة عياشي لـ”العرب” إن “الرجل من سلالة رجالات الدولة الجزائرية، ينتمي بالقوة والفعل إلى مدرسة بومدين (نسبة إلى الرئيس هواري بومدين)، حيث تربوا في حضن قيم وثوابت لا تتزحزح، تأتي على رأسها السيادة الوطنية والدفاع عن الدولة المدنية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وقد ظهرت بعض تلك الملامح في المواقف التي صدح بها العرباوي، في منابر ومنصات العالم، حين كان سفيرا”.

وأضاف أحميدة “يضمر العرباوي توجها ليبراليا منفتحا، ولكن ليس بمعناه المتوحش الصادم، بل بمعناه المسؤول والإنساني كي يعيش المواطن بأريحية في أفق يحفظ له كرامته ورفاهيته”.

هذا الانتماء لا يقتصر على المضمون بل يمتد إلى الشكل والقالب، هذا ما تشي به نظرة فاحصة إلى صور العرباوي التي تثير الانتباه، أين تمر أمامنا صور من حقبة مضت من عمر الدولة الجزائرية لشخصيات عسكرية وسياسية كبيرة حكمت وقررت وساهمت في البناء والتطوير وتنمية البلاد، كشريف مساعدية ويحياوي والهادي خذيري وأحمد عبدالغني وقاصدي مرباح… وغيرهم من الرجال الذين كانوا يلتفون حول برنوس الرئيس هواري بومدين، حيث الأناقة والبساطة والتواضع والهدوء، في مقابل الصرامة والحدة والجد.

ولا شك أن الجزائر بقيادة الرئيس تبون تعبر بقسوة أراضي ملغمة، ويقود رجاله في كل موقع معارك ضارية على كل الجبهات، مستهدفين ما يصفونه بالعثرات والقلاقل والاضطرابات التي تعترضهم وتسيل في طريقهم، ولكن برأي الكثيرين أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تبقى هذه مخاوف مسيطرة أو مشجبا يعلق عليه كل شيء.

لذلك فقد يكون العرباوي أكثر من مجرد جندي حلم به الرئيس تبون لقيادة جهاز تنفيذي في مرحلة حساسة جدا قبل نهاية عهدته، أو واحدا من رجاله الأكثر قربا إليه، يختبر به مدى نجاعة ما تمّ إنجازه إلى حد الآن منذ أن انتخب رئيسا للبلاد، وحين نقول “ما تم” فبالضرورة يعني ذلك ما سيتم لاحقا من منجزات واقعية تظهر على الأرض، وهذه الأخيرة لا تحتاج إلى خيال متكلس وقوة ناعمة مثلما كانت عليه يد أيمن بن عبدالرحمن، بل خيال مبتكر وقوة تفتك النجاح ولو من عرين الأسود، وتلك هي ربما يد نذير العرباوي.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: