المغرب يضيف العلوم الإنسانية إلى تأهيل الأئمة ترسيخا للاعتدال الديني

طوّر المغرب ميدان إعداد المرشدين الدينيين والأئمة، إذ لم يعد تكوينهم يقتصر على العلوم الشرعية، بل امتد إلى العلوم الإنسانية واللغات، وحتى علم الجنس، بهدف ترسيخ التدين الوسطي والأخلاق والعلم وقطع الطريق على الأفكار الهدامة.

أدخل المغرب العلوم الإنسانية وعلم الجنس في منظومة تكوين الأئمة والمرشدين الدينيين، لتكون من بين أهم ركائز تأهيل المجال الديني بهدف تكريس التدين الوسطي والمعتدل في المجتمع على أسس صحيحة.

وأوضح وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي أحمد التوفيق خلال جلسة تفاعلية مع طلاب الجامعة الدولية بالرباط هذا الأسبوع، أن الأئمة والمرشدين الدينيين يدرسون أيضاً علوماً مستجدة كانت إلى عهد قريب بعيدة عن مناهج تدريس الفقهاء مثل علم الجنس.

وراكم المغرب تجارب في محاربة الإرهاب، واعتمد في ذلك مقاربة استباقية للظاهرة وأرفقها بمقاربة دينية، حيث أطلق خطة لإصلاح الحقل الديني “تقوم على تحصين المساجد من أي استغلال والرفع من مستوى التأهيل لخدمة قيم الدين ومن ضمنها قيم المواطنة وذلك في إطار مبادئ المذهب المالكي”.

وقال وزير الأوقاف إنّ المنهاج الدراسي المعتمد في معاهد تكوين الأئمة والمرشدين الدينيين يتضمن كتاباً في علم الجنس من إعداد طبيبة متخصصة في هذا المجال، “ويتضمن ما يجب أن يعرفه الأئمة حول هذه المادة التي هي مسألة شرعية من ضروريات الدين”.

التحصين من التطرف

بوكس

شهد ميدان تكوين المرشدين الدينيين والأئمة في المغرب تطورا كبيرا منذ الشروع في إعادة تأهيل الحقل الديني عقب التفجيرات الإرهابية التي استهدفت مدينة الدار البيضاء عام 2003، إذ لم يعد تكوينهم يقتصر على العلوم الشرعية، بل امتد إلى العلوم الإنسانية واللغات، وحتى علم الجنس.

وأشار التوفيق إلى أنّ ثمة “أشياء كثيرة تحتاج إلى تغيير” في ما يتعلق بتكوين الأئمة والمرشدين الدينيين، وهو ما عملت عليه الوزارة منذ 14 عاماً من خلال تأطير الأئمة البالغ عددهم 50 ألفا، عبر دورات تجري في السبت الأول والثالث من كل شهر.

ولفت الوزير إلى أن تكوين الأئمة والمرشدين في العلوم الحديثة لا يعني إحداث قطيعة مع النمط السائد من قبل في التكوين “ففي المحصلة نحن أمام حقائق تظل صالحة ومستدامة وضرورية للجميع، فالقرآن أنزل على الأميّين وفهموه”.

وأكد وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، خلال الاجتماع الوزاري للتحالف الدولي ضد داعش في مراكش،  قوة النهج المغربي في محاربة الإرهاب.

وأوضح أن البلاد، ومنذ الهجمات الإرهابية بمدينة الدار البيضاء في 16 مايو 2003، وضعت “استراتيجية فعالة، متعددة الأبعاد وشاملة لمكافحة الإرهاب والتطرف العنيف”.

ويُذكر أن المغرب استضاف في الحادي عشر من مايو الماضي “الاجتماع الوزاري للتحالف الدولي لهزيمة تنظيم داعش” الذي يضم 84 دولة ومنظمة شريكة تنتمي لعدد من دول العالم وذلك بمشاركة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن.

وأفاد بيان لوزارة الخارجية المغربية أن الاجتماع الذي انعقد في مدينة مراكش يأتي كجزء من السياسة الاستباقية في محاربة الإرهاب التي تنتهجها.

وإلى جانب السياسة الأمنية التي مكنت من تفكيك أكثر من 210 خلية إرهابية منذ سنة 2002، يتبع المغرب خطة ترتكز على معالجة الظاهرة بشكل استباقي، عن طريق تأهيل الأئمة والدفاع عن قيم السلام والاعتدال التي يدعو إليها الإسلام.

من جانبه، قال منتصر حمادة، منسق تقرير الحالة الدينية الصادر عن مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث بالرباط، إن النموذج الديني المغربي نتيجة عوامل مركبة، تتداخل فيها عوامل تاريخية واجتماعية وحضارية، أفضت إلى أن المغرب أصبح يتوصل بطلبات من عدة دول عربية وإفريقية وحتى أوروبية، إما من أجل الاستفادة من تجربته في تدبير الشأن الديني، أو النهل من تجربته في التصدي لظاهرة التطرف العنيف.

وامتدّت سياسة المغرب في المجال الديني من “تحصينه من التطرف” إلى تأهيل أئمة في دول أفريقية عديدة بطلب منها من بينها ليبيا ومالي والسنغال وغينيا وكوت ديفوار والغابون. كما طلبت فرنسا من المغرب تأهيل أئمة مساجدها والحديث عن “نموذج الإسلام المغربي المعتدل”.

ويرى محللون أن المغرب لا يضع خبرته الأمنية الصرفة فقط رهن إشارة حلفائه لمواجهة الإرهاب بل يزاوجها مع مقاربات أخرى لا تقل أهمية عن المقاربة الأمنية وهي المقاربة الدينية أو الروحية.

وأطلق المغرب خطة لإصلاح الحقل الديني “تقوم على تحصين المساجد من أي استغلال والرفع من مستوى التأهيل لخدمة قيم الدين ومن ضمنها قيم المواطنة وذلك في إطار مبادئ المذهب المالكي”.

ويقول الحبيب الدقاق، وهو أستاذ جامعي ومحلل سياسي إن  “تأهيل الحقل الديني كان عاملا مهما فحينما نقول الأمن هناك أنواع متعددة منه والأمن الروحي يأتي على رأس الأولويات على اعتبار أن هذه التنظيمات المتطرفة تتغذى على أفكار هدامة” .

وأشار الدقاق إلى طلب عدة دول من المغرب مساعدتها في تأهيل أئمة المساجد والحديث عن “نموذج الإسلام المغربي المعتدل”.

ويعتبر تأهيل الحقل الديني عاملا مهما، فالأمن الروحي على رأس الأولويات على اعتبار أن التنظيمات المتطرفة تتغذى على أفكار هدامة.

الحوار واحترام الآخر

يستقطب معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات في الرباط طلابا من جنسيات مختلفة للنهل من العلوم الشرعية والإنسانية والتعايش والتسامح والوسطية.

 

خطة المغرب لإصلاح الحقل الديني تقوم على تحصين المساجد من أي استغلال والرفع من مستوى التأهيل لخدمة قيم الدين ومن ضمنها قيم المواطنة
خطة المغرب لإصلاح الحقل الديني تقوم على تحصين المساجد من أي استغلال والرفع من مستوى التأهيل لخدمة قيم الدين ومن ضمنها قيم المواطنة

 

ويطمح هذا المعهد الذي يعتبر رأس حربة في السياسة الدبلوماسية الدينية التي يعتمدها العاهل المغربي الملك محمد السادس، إلى إعلاء قيم الحوار والتعايش والوسطية والاعتدال، ويستقطب طلبة من المغرب ومن بلدان إفريقيا جنوب الصحراء وفرنسا.

ويوضح مدير المعهد عبد السلام الأزعر أن المهمة المناطة بالمعهد تتمثل في “محاربة خطابات التطرف الديني”.

وفي المعهد، يركز أستاذ ببزة عصرية في معرض حديثه عن رسائل النبي محمد إلى ملوك الحبشة والروم، على حرص الرسول على “الحوار واحترام الآخر”، مذكرا الطلبة أن الإسلام “دين الحوار” وأن “لا إكراه في الدين”.

ويسجل مدير المعهد أن “بعض الطلبة الملتحقين بالمعهد يحملون أحيانا تصورات خاطئة بسبب فهم غير صحيح للدين”. ويضيف أن الأساتذة يشرعون في “تصحيح تلك التصورات وتفكيك التأويلات المنحرفة للتكفيريين بالحجة والبرهان”.

وأوضح الأزعر أن “جميع الطلاب يدرسون العلوم الشرعية مثل علوم القرآن والفقه وأصول الفقه والعقيدة والتصوف وتاريخ الإسلام”.

وتابع “بخصوص العلوم الإنسانية، يدرسون التواصل والاقتصاد والاجتماع والصحة النفسية وعلم النفس التربوي والثقافة اليهودية ومدخلا إلى المسيحية وتاريخ الأديان”.

وخلال عام 2022 قام المعهد بتأهيل المئات من الأئمة الأجانب من فرنسا وتايلاند ودول أفريقية عدة.

ويقول الطالب النيجيري حسن عبدالله محمد إنه رأى إعلانا عن إمكانية الدراسة بالمعهد (حكومي)، ليتقدم بطلبه ويقبل ويشد الرحال إلى المغرب في تجربة علمية جديدة، منهاجا وروحا.

ولفت حسن إلى أن أبرز ما تعلمه في المعهد الوسطية في الإسلام “خصوصا في ظل وجود عدد من المشاكل مثل الإرهاب، وهي المسألة التي أوشكت أن تأكل الجميع”. وتابع “الحمد لله استفدنا من عدد من الأمور بالمعهد، خصوصا أن بلدي له تجربة في هذه المشاكل لم تنته إلى حدود الآن”. وقال إنه سيقوم بنشر ما تعلمه بين الناس في محاولة منه لتغيير الأخلاق وغرس فيم التعايش، لافتا إلى أنه تعلم من المعهد التعايش مع الآخرين.

إزالة الحدود

يشتمل برنامج الدراسة في برنامج تكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات على دروس نظرية ومحاضرات وندوات وأيام دراسية وتدريبات تطبيقية.

ويتضمن التعليم النظري العلوم الشرعية، واللغة العربية، واللغات الأجنبية، وعلم النفس الاجتماعي، والإعلامية، والآن أضيفت العلوم الإنسانية وعلم الجنس. ويشمل أيضا التعليم التطبيقي، بالإضافة إلى العروض والبحوث التي يعدها الطلبة.

ونجح المعهد في إزالة الحدود بين الدول، حيث يضم فسيفساء من جنسيات أفريقية وأوروبية وآسيوية، فإلى جانب حسن من نيجيريا يوجد صديقه وليو الحاج جنيد من النيجر، وآخرون من المغرب وخارجه، في جو يجمع بين اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية وأخرى.

وقال الحاج جنيد إن التكوين في المعهد كان له وقع إيجابي على حياته برمتها. وأضاف “كنت أسمع الأخبار عن المغرب من بعيد، ولكني بعدما وصلت إلى البلد وجدت أمورا فاقت الوصف، وارتباط المغاربة بالثوابت الكبرى، مثل إمارة المؤمنين والعقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف”. وأوضح أن “التكوين يساعد على الوصول إلى الأخلاق السامية والتسامح، وعلى ضوئها يمكن أن يتم غرسها بالمجتمع، خصوصا في ظل زمن يشهد عددا من الأمور غير الجيدة، مثل الإرهاب بسبب عدم فهم الإسلام”.

وأردف “الهدف من الإسلام الرقي بالإنسان وإصلاح طبعه، والتسامح والعدل والتكامل، والتعايش بين الأفراد والتماسك”. ويضم المعهد عددا من الجنسيات من نيجيريا والغابون بجانب المغاربة، حيث لا يوجد فرق بينهم.

ويكتسب الموضوع أيضا صبغة رهان دبلوماسي بالنسبة للمغرب الذي يتموقع، بالنسبة لإفريقيا خصوصا والعالم الإسلامي عموما، ضمن البلدان الرائدة في مواجهة الإرهاب.

الطلاب الأجانب الذين هم أئمة ببلدانهم يستفيدون من التدريب في المغرب لتعميق الفهم وتصحيح المفاهيم ثم يرجعون إلى بلدانهم

ويرى الباحث في معهد الدراسات الإفريقية بالرباط سليم حميمنات أن “معهد محمد السادس لتكوين الأئمة يمثل الدعامة الأساسية للسياسة الدينية الإفريقية للمغرب”، إلى جانب عمليات توزيع المصاحف والكتب والمجلات الدينية وبناء المساجد.

ويرى أن الأئمة الذين يخضعون للتكوين داخله “بمثابة سفراء للنموذج المغربي في أفريقيا”.

ويهدف برنامج تكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات إلى إعداد مئة وخمسين إماما وخمسين مرشدة كل سنة. ويعتبر هذا التكوين اللبنة الأولى في تأهيل الأئمة والمرشدين والمرشدات بما يكفل تطوير التوعية الدينية وتوجيه الوعظ وتحسين الإرشاد الديني.

وسبق للواعظة المغربية السعدية أوشن أن درست في المعهد عام 2014، وعادت إليه مُدرسة ومرشدة دينية. وتعود الذكريات بالسعدية إلى سنوات خلت بعدما كانت تتابع دراستها في إحدى دور القرآن بالرباط، حيث تلقت العلوم الشرعية. وقالت “نجحت في امتحان الدخول إلى المعهد، والذي يتطلب حفظ القرآن للطلاب ونصف القرآن للطالبات، فضلا عن الحصول على الإجازة (الليسانس) في أي مجال”. وأضافت أنه بعد سنة من الدراسة بالمعهد عادت إليه للتدريس، مردفة “عملت فيه أستاذة ومؤطّرة للطالبات، حيث أقوم بتحفيظهن القرآن وتعليمهن قواعد التجويد، فضلا عن المديح”.

ويقوم دور المرشدة الدينية، بحسب السعدية، “على تصحيح المفاهيم المغلوطة لدى الناس والنساء خاصة في أمور دينهم”. وقالت إن “المرشدة الدينية تستهدف الأطفال والرجال أيضا من خلال الندوات والدروس التعليمية بالمؤسسات التعليمية وبالسجون ودور العجزة”، مشيرةً إلى أن “المرشدات استطعن ملامسة قلوب النساء”.

ويقوم الأئمة والمرشدون والمرشدات المتخرجون من برنامج التكوين بمهام محددة في إطار الثوابت المذهبية والوطنية ومراعاة البيئة المؤسساتية والعالمية.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: