المعارضة الجزائرية أحزاب تقليدية موروثة عن حقبة الانفتاح

البليدي

منذ قدوم القيادة السياسية الجديدة في الجزائر، تداخلت توصيفات المعارضة السياسية في البلاد، بين أحزاب تقليدية موروثة عن حقبة الانفتاح، وبين مد شعبي نادى بتصحيح أوضاع وخيارات الدولة، وبين ناشطين وتنظيمات مستجدة فرضت نفسها على شبكات التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يحدث حالة غير مسبوقة من اللبس في ما يتصل بالمكونات الطبيعية لأي نظام ديمقراطي مهما كانت درجة الممارسة وهامش المناورة فيه.

وفي ذروة الاصطفاف الشعبي خلال حقبة التسعينات خلف التيار الإسلامي، واستحواذ جبهة الإنقاذ على الانتخابات المحلية والتشريعية، استطاعت السلطة خلق بدائل حزبية وأهلية عندما تدخلت بواسطة المؤسسة العسكرية لمراجعة المسار السياسي. ولو أنها لم تكن بنفس القوة والنفوذ، إلا أنها تمكنت من الحفاظ على أصول المشهد التعددي بشكل مكنها من الخروج من الوضع الاستثنائي إلى مؤسسات منتخبة ومشهد سياسي يؤدي دوره في حدود دوائر اللعبة المحددة. لكن الحاصل الآن أن السلطة التي تربعت على العرش لم تهتد إلى مخرج مماثل رغم مرور ثلاث سنوات على تنصيبها.

في تسعينات القرن الماضي ولد ما يعرف بـ”أبوالشوانب”، في إشارة إلى حزب السلطة (التجمع الوطني الديمقراطي)، الذي التف حوله الوعاء الشعبي الموالي للسلطة، واستحوذ حينها على الأغلبية في البرلمان والبلديات، ليؤدي بذلك دور الذراع السياسية الحامية لخيارات السلطة، بينما استدرجت الأحزاب الأخرى تدريجيا إلى معسكر الموالاة، لكن في المقابل ظلت السلطة حينها حريصة على رعاية معسكر المعارضة من أجل خلق التوازن المطلوب أمام الرأي العام الداخلي والخارجي وتسويق المسحة الديمقراطية والتعددية للنظام السياسي.

لكن الآن رغم تشابه الوضع السياسي والشعبي بين مطلع تسعينات القرن الماضي وبين انتفاضة الشارع في 2019، إلا أن المخارج الجديدة لا زالت في حالة ارتباك، فإذا كانت المعارضة الراديكالية تبرر غيابها بالتضييق والقمع السلطوي، فإن ما يثير الاستغراب هو غياب الأحزاب والتنظيمات الموالية للسلطة، وكأنها لم تجد ما تقوله للسلطة الجديدة أو للوعاء الشعبي الذي يدعمها.

الآن رغم تشابه الوضع السياسي والشعبي بين مطلع تسعينات القرن الماضي وبين انتفاضة الشارع في 2019، إلا أن المخارج الجديدة لا زالت في حالة ارتباك

حتى فعاليات المعارضة الأخرى لم تجد القنوات الطبيعية لتسويق نفسها وأفكارها، فالحراك الشعبي اكتفى بشل حركة العجلة في التصحيح الشامل للنظام السياسي وخيارات الدولة، ورفع السقف عاليا فوق الأحزاب والتنظيمات والفعاليات. وحتى الناشطين والتنظيمات المستجدة ذهبوا بعيدا في تطرفهم إلى درجة قطع كل فرص الاتصال والتواصل مع الخصوم السياسيين.

وبمثل هذه المستجدات غاب شكل المعارضة السياسية في البلاد، فلا هي أحزاب تقليدية، ولا هي حراك شعبي، ولا هي ناشطون أو تنظيمات أخرى، مما أدى إلى ميلاد مشهد يفتقد إلى أحد أبرز مكوناته وهو المعارضة السياسية، ووجدت السلطة نفسها تفتقد لمن ينازعها الملك ولو شكليا لإثبات الطبيعة التعددية للنظام السياسي.

ولعل ميلاد برلمان أغلبيته المطلقة توالي السلطة وتدعم مشاريع الحكومة، هو أكبر خلل مستجد في المنظومة السياسية، لأن الشارع كثيرا ما يجد متنفسه في الاستقطابات الحادة حتى ولو كانت شكلية، وهو ربما نتيجة طبيعية لمغالاة السلطة في فرض منطقها، حيث يجري التعامل مع البعض بمنطق التجريم الأمني والإرهابي، ويتم احتواء البعض الآخر بمختلف الأدوات بداية من سقوط إمبراطورية ورموز الحقبة البوتفليقية، ثم توظيف الجائحة الصحية العالمية في تفكيك صفوف الغاضبين، والعودة إلى توزيع ريع الهدية التي تكرمت بها الأزمة الأوكرانية.

بإمكان السلطة إسقاط مشروعية الهاجس الأمني على من يرتدي الثوب السياسي لأغراض مشبوهة ولجم كل ما بإمكانه التخطيط للمساس بأمن واستقرار البلاد، وبإمكانها أيضا احتواء مطالب التصحيح الراديكالي بمغريات الجبهة الاجتماعية خاصة أمام وفرة المال والإمكانيات، والضرب بيد من حديد على من يؤسس أو يدعو للفوضى الداخلية، لكن كل ذلك لا يغنيها عن دورها في مرافقة المعارضة وحمايتها وإلا أصبح المشهد أعرج فيه كل الأرجل إلا رجل المعارضة السياسية.

المشهد إلى حد الآن يؤكد الحاجة إلى تعديل يعطي التوازن اللازم، على الأقل كما كان سائدا في وقت مضى، حيث كان هامش المناورة للفعاليات السياسية والأهلية ولوسائل الإعلام متاحا في حدود معينة، دون المساس بالمصالح الحيوية للسلطة، ولو أن المصير الذي انتهى إليه نظام الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، لم يكن ليحدث لولا الأخطاء المتراكمة والإمعان في تجاهل نبض الشارع.

مرحلة بوتفليقة تستدعي الاستلهام وقراءة العبر، فقد كان رئيس الحكومة آنذاك أحمد أويحيى يقول إن “الجزائريين لن يخرجوا إلى الشارع، وإن الجزائر محصنة عن موجة الربيع العربي، والدولة بالمرصاد لكل من يخترق حدوده”، لكن مر الربيع العربي بثماني سنوات، وغذى جنون السلطة غضب الشارع، فانتفض الجزائريون بقوة وسلمية ونظام أدهش العالم. وهي حركة من حركات الشعوب المفاجئة للأنظمة التي لا تقرأ التاريخ.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: