ماذا أعدت الجزائر للتحول اللغوي

بليدي

تراجع منسوب اللغط الذي أحاط بقرار السلطات الجزائرية إدراج اللغة الإنجليزية في التعليم الابتدائي، لكن النقاش الحقيقي لا زال بعيدا عن أبعاد ودلالات التحول اللغوي وتداعياته على المشهد اللغوي والثقافي وحتى الشعبي، فقد اقتصر طيلة الشهور الماضية على سجال أيديولوجي بين أنصار الفرانكفونية وخصومهم.

ويبدو أن القرار الذي وصف بـ”العشوائي” و”الارتجالي”، كونه لم يراع شروط ومعايير أي تحول لغوي في البلاد، حمل بصمات سياسية وأيديولوجية أكثر منها رغبة في الانفتاح على العالم الأنجلوساكسوني، بزخمه ورصيده وإنتاجه الثقافي والمعرفي واللغوي، الأمر الذي سمح بعودة سجال مزمن في الجزائر بين أنصار الفرانكفونية وخصومهم، وما كان سائدا في سبعينات وثمانينات القرن الماضي بين المفرنسين والمعرّبين، تجدد في ثوب الفرانكفونيين والأنجلوساكسونيين.

ولعل أحد مؤشرات الارتجال الرسمي في الملف هو غياب النقاش اللازم في الفضاءات الإعلامية والعامة من طرف المختصين والأكاديميين، والتسرع في إدراجها بداية من الموسم الدراسي الجاري في الطور التعليمي الابتدائي، فكل ما كان يهم القائمين على الملف هو إرضاء رأس الدولة، أكثر من القيام بتحول مدروس ومتدرج.

الانفتاح لا يعني الذوبان ويمكن للمجتمع أن يكون محصّنا ذاتيا ومنفتحا خارجيا وفق مقاربة مخططة ومدروسة بإتقان

وأوحت الصور والتسجيلات التي نقلتها وسائل الإعلام المحلية حول قابلية أطفال الجزائر لتعلم اللغة الإنجليزية خلال مراسم افتتاح الموسم الدراسي من طرف مسؤولي قطاع التربية، بأن الرسالة كانت تتمحور حول النجاح في تنفيذ القرار الرسمي، أكثر منه التحكم المبكر في تحقيق التحول اللغوي.

وأكثر ما عابه ناقدون على القرار، بعيدا عن الميول الأيديولوجية، هو التسرع وغياب النقاش الحقيقي. وتساءل هؤلاء عن جدوى الخطوة من حشو قدرات أطفال المدارس الابتدائية بأربع لغات وهي العربية والأمازيغية والفرنسية وأضيفت إليهم الإنجليزية، وغياب الجرأة لدى السلطة لاختيار لغة وطنية وأخرى أجنبية فقط، يبدأ بها الأطفال حياتهم التعليمية على أن يتوسع الأمر تدريجيا في المراحل الموالية.

ولا يختلف اثنان على أن القرار تأخر كثيرا وكان يتطلب شجاعة سياسية من طرف النخبة الحاكمة، لأن الفرانكفونية في الجزائر تحمل أكثر من دلالة سياسية وأيديولوجية ترتبط بالمستعمر القديم، الذي أولى اللغة الفرنسية أهمية بالغة لأنها السبيل الوحيد لضمان الولاء اللغوي والفكري والثقافي ومنه السياسي في المستعمرات القديمة وعلى رأسها الجزائر.

وإذ ركب أنصارها موجة الاختلالات التي تحيط بالانفتاح على اللغة الإنجليزية لتبرير انزعاجهم من القرار، فإن الخلل كان في الإستراتيجية المنتهجة من طرف القائمين على العملية في تنفيذ المشروع مما يجعله عرضة للفشل، فقد أنتج الحشو اللغوي لقدرات الأطفال أجيالا من المتمدرسين لا يجيدون أي لغة، لا عربية ولا أمازيغية ولا فرنسية، وغير بعيد أن تواجه الإنجليزية المصير نفسه.

الأصوات المناهضة للفرانكفونية في الجزائر، بشقها المناوئ للراعية الأولى لها على خلفية الحقبة الاستعمارية، وشقها الداعي إلى التحرر من مشروع لغوي وثقافي أثبت فشله في تحقيق نهضة فكرية ومعرفية لشعوبه، عكس الإنجليزية التي باتت تمثل لسان العالم وسيل الإنتاج العلمي والمعرفي والإبداعي، ظلت تصدح بصوتها عاليا للانخراط في العالم الأنجلوساكسوني والاندماج في المنظومة العالمية، لكن دون خطاب شعبوي أو تسويق سياسي.

القرار تأخر كثيرا وكان يتطلب شجاعة سياسية من طرف النخبة الحاكمة، لأن الفرانكفونية في الجزائر تحمل أكثر من دلالة سياسية وأيديولوجية ترتبط بالمستعمر القديم

الخطوة لا زال يكتنفها اللبس بسبب الظروف التي اتخذت فيها، فهي لا زالت رهينة الشك، لأن التيار المقاوم لم يظهر رد فعله إلى حد الآن، والسلطة لم تتصرف بكل جرأة لفرض التحول ومراجعة الأولويات اللغوية والثقافية والاجتماعية، لأن إدراجها تم في نفس السنة الدراسية (الثالثة ابتدائيا)، هو عائق في التحصيل أكثر منه إضافة بحسب مختصين في التربية.

وفوق ذلك، فإن الخطوة تبقى مجرد تقديم تعليم لغة إلى سنة متقدمة في المسار التعليمي، ولم ترفق بمشروع واضح المعالم وشامل لمختلف مناحي التحول اللغوي، فقد أنتجت عقود من الفرانكفونية انعكاسات فكرية وثقافية واجتماعية، فقدت معها البلاد شخصيتها وخصوصيتها، والآن يأتي الانفتاح على الإنجليزية دون التفكير في أخذ العبرة من تجربة الفرانكفونية، لاسيما وأن الفارق كبير بين المدرستين. ما كان متاحا خلال العقود الماضية لتحصين الشخصية والهوية الوطنية سيكون في حكم المستحيل مع التجربة الجديدة، فالإنجليزية هي لسان العالم ولغة الحضارة والعلوم والفنون والمعارف، وهذا في حد ذاته سيل جارف قد يقضي على ما تبقى من معالم الشخصية الوطنية.

واللافت أن السلطات المختصة لم تراع في مختلف التحولات النتائج والتداعيات المرافقة، وظل الاهتمام منصبّا على خلفيات سياسية وأيديولوجية، فمثلما أفرز الارتماء في أحضان الفرانكفونية ثقافة مشوهة، أدى التعريب إلى إقصاء الخصوصيات المحلية وإنتاج فكر ديني متطرف، ولا أحد يتوقع معالم المشهد القادم مع التحول المقرر إلى الإنجليزية.

ويبقى الثابت إلى حد الآن أن المؤسسات لا زالت تتحرك وفق نزعات وأمزجة في اتخاذ خيارات جوهرية، ولذلك سرعان ما تظهر الاختلالات في منتصف الطريق، ولو تمت صياغة مشروع مجتمع حقيقي، لما وصلت البلاد إلى كل هذا التمزق اللغوي والثقافي والحضاري، لأن الانفتاح لا يعني الذوبان ويمكن للمجتمع أن يكون محصّنا ذاتيا ومنفتحا خارجيا وفق مقاربة مخططة ومدروسة بإتقان.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: