نورالدين بدوي عدم قول “لا” للسلطة لم يعد كافيا لإدارة التوازنات

بليدي

ظل إلى سنوات ماضية يمثل رجل ثقة السلطة رغم الاهتزازات التي لحقتها، فلما كانت تعتقد أن تعيينه في منصب رئيس الوزراء سيطفئالغضب الشعبي استعانت به، ولما كان اسمه من ضمن المطلوبين للرحيل من طرف احتجاجات الشارع تمسكت به السلطة العسكرية، لكنمنطق التوازنات وسوء فهم التغيرات أحالاه إلى السجن.

أمر القضاء الجزائري بإحالة رئيس الوزراء السابق نورالدين بدوي إلى السجن المؤقت في انتظار استكمال التحقيقات المفتوحة ضده، ليكونبذلك ثالث رئيس حكومة من حكومات الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة يقبع خلف القضبان، وتبدأ معه قصة جديدة من قصص الحرب علىالفساد وتثبيت التوازنات المستجدة في هرم السلطة.

بدوي التكنوقراطي الذي تخرج كغيره من كبار مسؤولي وكوادر الدولة من المدرسة العليا للإدارة، تدرج في مختلف المسؤوليات إلى أن أمسكبمقاليد الحكومة والبلاد في ذروة أزمة سياسية خانقة بسبب فورة الشارع في 2019 ضد السلطة القائمة والمنظومة الحاكمة.

ويبقى الفساد وسوء الإدارة وتبديد المال العام الكلمات المفتاحية في أدبيات الموجة التي أطاحت بالعديد من رموز نظام بوتفليقة، ولذلك فإنالسجن المؤقت سيكون فاتحة مرحلة من حياة الرجل تتعدد فيها التهم وتفرّخ الملفات والمحاكمات، لكن تبقى تصفية الحسابات السياسية بينالزمر الفاعلة هي الحبر السري الذي يدون تاريخ المرحلة.

وضمن السياق المذكور يقبع خلف سجون البلاد العشرات من المسؤولين السامين والوزراء ورجال السياسة ورجال المال وضباط الجيشورؤساء الحكومات، والحالة غير المسبوقة في تاريخ البلاد، هي أول إدانة لإفلاس نظام سياسي ربى رموزه على الفساد إلى أن وصل إلىهذه النتيجة، فقد تدرج هؤلاء في سلم المسؤوليات إلى أن وصلوا إلى رتبة زعيم حزبي ورجال مال وجنرال ووزير ورئيس حكومة بصفة فاسد،وذلك وحده كاف ليكون ذريعة لدعاة كنس النظام برمته.

نزيف بشري في وعاء النظام

algerie-1.jpg

التكنوقراطي الذي تدرج في مختلف المسؤوليات، أمسك بمقاليد الحكومة والبلاد في ذروة أزمة خانقة

لما اشتدت الاحتجاجات الشعبية في الحراك الشعبي بداية من العام 2019، رأت السلطة بقيادة بوتفليقة والحلقة المقربة منه أن التضحيةبرئيس الحكومة السابق أحمد أويحيى واستخلافه ببدوي سيطفئ لهيب الغضب الشعبي اعتقادا منها أن خلفيته التكنوقراطية وابتعاده عنالممارسة السياسية والحزبية بإمكانهما إقناع المحتجين في الشوارع بالعودة إلى بيوتهم.

ولأن التطورات كانت متسارعة في البلاد آنذاك، فقد سقط بوتفليقة، وبقي بدوي في قصر سعدان بإيعاز من قيادة الجيش السابقة ممثلة فيالجنرال الراحل أحمد قايد صالح، فكان اسمه يتردد وصورته ترفع في المظاهرات والاحتجاجات الأسبوعية إلى جانب رموز آخرين للسلطةمن أجل رحيلهم، لكن السلطة الفعلية آنذاك كانت متمسكة بشكل غير مفهوم، رغم أنه لا يمثل أي ثقل في السلطة.

بدوي لم يكن يملك مصادر دعم متعددة، لذلك وضع كل بيضه في سلة قايد صالح وجهله بقواعد اللعبة داخل المؤسسة العسكرية جعلهيفهم أنها تدعم ميهوبي في الانتخابات الرئاسية

ويروى عن رئيس الوزراء الأسبق والمسجون بدوره عبدالمالك سلال، في حديث جانبي له حين سئل من طرف الرئيس بوتفليقة عن استقدامبدوي إلى الحكومة لشغل منصب وزير التكوين المهني في أول تجربة له داخل الحكومة لأنه لم يكن على معرفة شخصية به، فقال لهلا يقوللا“.

وعدم قوللاقد يكون كلمة السر التي رقّت الرجل في مناصب المسؤولية من مجرد كادر محلي ومحافظ، إلى أن دخل الجهاز الحكومي منبوابة وزارة التكوين المهني ثم الداخلية وبعدها رئاسة الوزراء، وهي التي ضمنت له الوصول إلى أعلى المسؤوليات، لأن السلطة الفعليةمستعدة لتوزيع الريع إذا كان المستفيد غير مزعج لها.

وخلال شغله لمنصب وزير التكوين المهني والتمهين، كان وكيل الوزارة هو عبدالغني بوتفليقة شقيق الرئيس، ولذلك كان الكل يجمع بأن الوزيرالفعلي كان عبدالغني وليس بدوي، رغم أنه أعلى درجة منه في سلم المسؤولية، لكنه كان يمثل ضمانا له للاستمرار في المنصب، لأن الوزيرهو الذي يخدم الوكيل وليس العكس.

لكن هل كان عدم قوللاهو السر الوحيد في سيرة الرجل، أم هناك شيء آخر مكنه من كسب ثقة بوتفليقة أولا، ثم الجنرال أحمد قايدصالح ثانيا؟ وما هو لغز الاحتفاظ به في هرم السلطة وترجيح كفته على كفة الملايين الذين كانوا يصدحون برحيله في الشوارع، فهل كاناستمراره ضروريا للسلطة العسكرية من أجل تمرير أجندتها، خاصة بعض القرارات المتسرعة المتخذة وقتها بشأن قانوني المحروقاتوالاستثمار، أم أن للرجل أسرارا أخرى غير معلنة؟

طموح وصل ذروته

algerie_8.jpg

بدوي مثل التوازن الديموغرافي في السلطة باعتباره ينحدر من جنوب البلاد

يقول العارفون بشخص الرجل بأن طموحه في الوصول إلى أعلى مراتب المسؤولية وصل إلى ذروته ولم يكن ليرفض طلباً، لا من الذياستقدمه في أول الأمر، ولا الذي تمسك به في ذروة الثورة الشعبية، ولو أنه أدرك متأخرا أنه لم يفهم اللعبة جيدا، وأن خياراته التي استلهمهامن إرادة فاعلين في الجيش كانت خاطئة تماما، ولذلك كان ينتظر المصير الأخير، يوم نصب عبدالمجيد تبون رئيسا للجمهورية في شهرديسمبر 2019.

الفساد وسوء الإدارة وتبديد المال العام كلمات مفتاحية في أدبيات الموجة التي أطاحت بالعديد من رموز نظام بوتفليقة بسبب فورة الشارعفي2019

لأنه لم يكن يملك مصادر دعم متعددة، فقد وضع كل بيضه في سلة قائد الجيش السابق أحمد قايد صالح، وجهله بالتوازنات داخل المؤسسةالعسكرية، جعله يفهم أن المؤسسة تدعم المرشح عزالدين ميهوبي في الانتخابات الرئاسية، ولذلك كان من منصبه في رئاسة الوزراء يوجهالأحداث تجاه ذلك الخيار، قبل أن يكتشف أن أصحاب الرأي المذكور هم جناح داخل الجيش فقط، وليس هو رأي الرجل الأول في المؤسسة،وهو ما تأكد بتدخل أحمد قايد صالح، أياما قليلة قبل الانتخابات ويوجه أوامره للجيش بدعم تبون، وسقط بذلك كل من ذهب في اتجاه دعمميهوبي.

سقط بذلك العديد من الضحايا تباعا بسبب دعمهم لترشيح ميهوبي، ومنهم مسؤولون مدنيون وسياسيون وضباط عسكريون، وتأخر سقوطبدوي إلى غاية الأيام الأخيرة، وهو يجد نفسه اليوم يدفع فاتورة سوء فهمه للتوازنات والحسابات، واجتهاده لنصرة مرشح حاز على ثقة جناحفي السلطة وليس ثقة السلطة الحقيقية، فما عاشه تبون خلال حملته الانتخابية من انهيار ونزيف بشري من مقربيه وكوادر حملته بسببضغط الجناح المذكور، انقلب في نهاية المطاف ضد خصمه في الانتخابات وتساقطت الرؤوس الداعمة لميهوبي تباعا إلى أن وصلت إلىبدوي.

تعليمات سامية

algerie-4.jpg

تبون وبدوي كانا زميلين في حكومتين، لكن لغة التوازنات جعلت واحداً في أعلى هرم السلطة والآخر خلف القضبان

كان بدوي زميلا للرئيس تبون في حكومتين واشتغل ضمن حكومته حين كان رئيسا للوزراء لأشهر معدودة، ومع ذلك فإن منطق المصلحة ولغةالتوازنات لهما قواعدهما الخاصة، ولذلك نجد واحداً في أعلى هرم السلطة والآخر يقبع خلف القضبان.

ومع أن الأمر تأخر بالنسبة إلى نزيل سجن ضاحية الحراش بالعاصمة بتهم نسبت إليه حين كان يشغل منصب محافظ، فان محاكمة رئيسالوزراء المذكور ستجر لا محالة أسماء أخرى، خاصة على مستوى الجهاز الإداري، لأن العديد من الولاة ورؤساء الدوائر ساروا ضمنالتوجيهات التي كان يصدرها بدوي لهم من أجل دعم ترشيح ميهوبي، وفق ما تلقاه هو من ضباط سامين مقربين من الجنرال أحمد قايدصالح، لكنها لم تكن تمثل موقف الرجل، ولو أن الرائج في بيانات القضاء لحد الآن هو الضلوع في قضايا الفساد لا غير.

بدوي كان يمثل التوازن الديمغرافي في توزيع المسؤوليات باعتباره ينحدر من عائلة أصيلة جنوب البلاد وكان ينظر إلى لونه الأسمر علىأنه ورقة لإسكات الأصوات المنددة بالتهميش والإقصاء

الرجل كان يتلقى تعليمات من مسؤولين عسكريين يظهر أنهم كانوا أقل منه رتبة وفق السلم الدستوري للمسؤوليات، لكن ذلك هو المنطقالسائد في الأنظمة التي تدار فيها الواجهات السياسية من خلف الستار وتخضع لنفوذ ما يعرف بـالسلطة الفعلية“.

بدوي الذي كان يمثل التوازن الديموغرافي في توزيع المسؤوليات، باعتباره ينحدر من عائلة أصيلة جنوب البلاد، كان ينظر إلى لونه الأسمرعلى أنه ورقة لإسكات الأصوات المنددة بالتهميش والإقصاء لدى سكان الجنوب. لكن الامتيازات ومزايا الكرسي لها سحرها الخاص مايجعل الأنانية تتغلغل في النفوس، فينغمس أصحابها في الملذات والمكاسب المادية والمصالح الضيقة.

ورغم أنه كان في أوج سلطانه فقد لحقته شائعات حول مساره المهني والأخلاقي، ولو أن شهود عيان يؤكدون على أن والده ظل يشغلمنصب سائق تاكسي في إحدى الضواحي الشرقية للعاصمة، وظل يتمنع عن قبول منحة شهرية من ابنه الذي كان آنذاك واليا على إحدىمحافظات غرب البلاد، رغم أنه كان يلح عليه لترك وظيفة سائق التاكسي.

ومنذ استقلالها في 1962 لم تشهد البلاد حملة شديدة أطاحت بعشرات من المسؤولين الكبار وزجت بهم في السجون كالحملة التي تعيشهامنذ العام 2018، حيث التبس فيها الفساد المالي والسياسي مع تصفية الحسابات، فاشتدت القبضة الحديدية بشكل غير مسبوق وأسقطتأجنحة وصعّدت أجنحة أخرى وعرّت الكثير من الحقائق والخفايا، فصار الضابط يمسي جنرالا ويصبح سجينا، ويصبح جنرالا ويمسيسجينا، وسيكون الأمر هينا لما يتعلق الأمر بمسؤول مدني مهما علت رتبته.

alg_4.jpg

طموحه في الوصول إلى أعلى مراتب المسؤولية وصل إلى ذروته

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: