الحراك الجزائري عام طويل من التغيير المتردد

في مشهد أريد له أن يكون حزينا ومؤثرا نقل عبر الكثير من القنوات التلفزيونية وغيرها من وسائل التواصل، ترقرقت الدموع في عيون الوزير الأول عبدالعزيز جراد وهو يشاهد في لقاء عالي المستوى جمع أركان الدولة كلها من الرئيس إلى الوزراء إلى ولاة الجمهورية، حلقة جديدة متجددة ومعروفة من مسلسل طويل وعريض مركّب من عدد من التحقيقات الساطعة عن الوضع المأساوي البائس الذي تعيشه الكثير العائلات في القرى النائية داخل الجزائر.

مشهد يشكّل لمحة خاطفة لما ستكون عليه سياسة الوجع والألم وسهر الليالي والأرق الذي سيعيشه أيّ مسؤول سامٍ في الدولة من الآن، كما قال الرئيس عبدالمجيد تبون، وهو يقرر وينفذ من أجل رفاهية المواطنين الأعزاء الذين خرجوا عن بكرة أبيهم يوم الـ22 من فبراير من العام الماضي، مفككين أغلال الخوف والقهر والظلم والاستبداد والحقرة التي سيطرت على الجزائر طيلة عقود من الحكم، عاث فيه من عاث، وانتفع فيه من انتفع، وصعد فيه من صعد، وسقط فيه من سقط، ومات فيه من مات، وهو يحلم بأبسط سبل العيش؛ وظيفة محترمة، سكن لائق وراحة أسبوعية يستمتع بها مع عائلته في الشواطئ والغابات والمساحات الخلابة التي تمتد على مسافة تقارب الــ2.381.741 كيلومتر مربع.

حدث هذا المشهد بعد عام من الحراك اكتشف فيه الجزائريون أن من كانوا يطلّون عليهم من شبابيك الإعلام والقصور والمباني والوزارات والكراسي الساخنة الفاخرة، حسبما يقولون، ما هم إلا عصابة امتهنت الفساد والنهب والسرقة، وواجهة ملمّعة تخفي حقائق مروّعة عمّا كان يفعل هؤلاء بمقدرات البلاد، وتتقلب على أصابعهم بين كأس وكأس كأنها ملك اليمين، يغرفون من خزائن المال والذهب والريع ما شاؤوا وكيفما شاؤوا وفي أيّ وقت شاؤوا، ما من رقيب أو حسيب أو ضمير ولا حتى صحوة عقل أو ذرة أخلاق.

ملايين في الشوارع

الرئيس عبدالمجيد تبون يؤكد للجزائريين أن الحراك السلمي يمثل إرادة الشعب التي لا تقهر

خرجت الملايين من شوارع لطالما كانت خزان الاحتفالات الرياضية، خاصة من أنصار كرة القدم والعصيان والإرهاب والسرقات والإهمال والمحلات المتكاثرة كالفطر وأرصفة مفتوحة كالبيوت للمتشردين والسكارى والمعوزين والمتسولين، يأتونها باكرا من أقاصي الأمكنة وهوامش الحواضر والتجمعات السكنية المكتظة وبيوت الصفيح، علّهم يقتنصون من جيوب المارة العابرين في لمحة عابرة دراهم معدودة تقيهم قرّ الشتاء وحرّ الصيف.

ثلاثة شوارع رئيسية أصبحت اليوم أيقونات للحراك كانت في ليل الاستعمار تحمل أسماء مؤرّخين “جيل ميشالي” التسمية القديمة لشارع ديدوش مراد حاليا، شارع “إيزلي” مكان معركة شرسة حدثت على الحدود المغربية الجزائرية بين الجيش المغربي والجنرال الفرنسي توماس روبير بيجو، المعروف اليوم بالعربي بن مهيدي، وأطول شوارع العاصمة الجزائرية “حسيبة بن بوعلي” وعرف له تسميتان في الفترة الاستعمارية “كارنو” و”قسنطينة”، شوارع كولونيالية باذخة الهندسات المعمارية المتنوعة ببناياتها البديعة وشرفاتها متنوعة الصفات وأبوابها الجميلة.

شوارع أصبحت كل ثلاثاء وجمعة تتسع لكل شيء ويحوم حولها كل شيء، ملاذات، ومــُـسـكـنات، ومتنفسات، ومسرات، ومواعيد للغرام والعشق والمصاحبات، أسواق تجارية عاجلة يباع فيها كل شيء؛ ماء، حلويات، مكسرات، عصائر، زلابية، قبعات، أعلام، شارات وأكواب وشالات وسجائر وولاعات ومحاجب ساخنة.

محلات مفتوحة وهي التي كانت قبل عام تغلق بسبب العطلة الأسبوعية المصادفة لهذا اليوم، مساجد مملتئة عن آخرها، ومصلون يتوضأون بمياه معدنية ويجلسون في أيّ مكان لأداء صلاة الجمعة، يفترشون الكراتين والأكياس في انتظار الانتهاء من الموعد المقدس للبدء في غزو الشوارع حيث ينتظرهم آخرون ممن جنحت بهم السبل ولم يعد الإيمان يعمر قلوبهم. هؤلاء يستمدون القوة من هؤلاء. المؤمن مع العاصي، المتحجبة مع المتبرجة، الملتحي مع الأمرد، الأخ مع بنت الجار، الفقير مع الغني، المتعلم مع الأمي، المتعصب مع المنفتح، القوي لا يأكل الضعيف في شارع الحراك. الرياضي مع “صاحب الحطة”. الفوضوي مع الملتزم. الغريب عن الديار مع قاطن الديار. القبائلي مع العاصمي. الشاوي مع الحضري. المعرب مع المفرنس. كلهم في صف واحد على دين واحد وعلى ملة واحدة وعلى لغة واحدة عنوانها الأبرز شعارات وأغان تتغير وتتزين وتتحول وتخفت وتتصاعد وتكون مليحة وقبيحة، وساخطة ولطيفة، وحادة وقوية، لا تملّ من تكرار نفسها، ولا تصاب الحناجر بالوهن والتعب والضمور وهي ترددها من أول الشارع إلى آخره الذي لا ينتهي.

الحراك يبدو بعد عام على قيامته المفاجئة ملولبا وتائها، كاسحا ومتخما بالانتظار. قليل النفوذ عند أهل الحكم والقرار. بقي معلقا على حبال التوتر والعناد والممانعات

الشوارع طيبة للأرواح الغاضبة المعجونة بالتمرد والمنفلتة من نار اللهب، صور شفافة تتوارد محمولة بهدير الأنفس المنكسرة الحزينة وهي تعبر وتتسلل عبر زوايا ومنعطفات وأزقة هذه الشوارع، لا تبالي بالبرد ولا بالمطر ولا بالحر ولا بقسوة الحصار الأزرق لقوات الأمن المتأهبة لكل نهمة قد تخرق هذا العبور الباذخ وتحيل سلميّته إلى نكوص وفوضى وما لا تحمد عقباه وعواقبه ومعقباته.

تقف في الشوارع نسوة صحبة الرجال والأطفال والشباب والشابات الجميلات منهن ومتوسطات الجمال، عوائل لا يعرفون بالاسم  ولا باللقب ولا بالمكانة أو المركز يشار إليهم فقط بالتحيات والتلميحات ويبتسمون على حياء لبعضهم البعض. فالابتسامة عنوان آخر بارز ظهر على محيّا الجزائريين الموصوفين عادة بالخشونة والفتوة ولا يعرف الحنان والعاطفة طريقه إلى قلوبهم.

حلقات فارغة من ضجيج الخوف، تجمعات مبعثرة تتكاثر تقل وتكثر حسب نبرة المتحدثين ورواد الكلام ومحترفي الثرثرة، خطابات مفهومة وأخرى عصية على الفهم والتأويل، حامضة المذاق، مستهلكة، ومحدودبة اللغة واللهجة، فرضيات وتنظيرات وتحليلات وتجليات تطلق كالروائح من هنا وهناك، من أفواه خبرت السياسة وأخرى احترفت المتابعة الحثيثة للقنوات الإخبارية وها هي تلقي بها على عجل وسط الملتفّين حولها، وأخرى رائدة في بث المعلومات أصحيحة كانت أم خاطئة؟

المهمّ أنها تفي بالغرض وتحسّن المزاج وترضي الغرور وتكفي لإرواء النهم ومعرفة عصير التفاصيل وما يقطر في مخابر القرار، “أنظر أخي أنا عندي المعلومة الأكيدة”، رموز يقال إنها تبحث عن القمة والسعادة والحضور الطاغي وسط العشرات من الوجوه التي تدور وتدور في الشوارع. تشاهدهم مرة في العمر ثم مرة ثانية وبعدها يختفون في لمح البصر. شارع اليوم وأناسه غيرهم في يوم آخر أو كأنهم هم أنفسهم بسحنة مختلفة ولون آخر وجنس آخر. سيكون آخرون اليوم بعد عامهم ذاك وحضورهم هناك، سيلمح البسيط الذي لا يعرفه أحد ولا يعرف أحد منهم، يراقب، وينصت لهذا الهرج والمرج ويحاول بعد هذا اليوم أن يعي لمَ يخرج كل يوم جمعة.

الرئيس والعسكر والحراك

عام من الحراك يكتشف فيه الجزائريون أن من كانوا يطلّون عليهم من شبابيك الإعلام والقصور والمباني والوزارات حسبما يقولون، ما هم إلا عصابة امتهنت الفساد والنهب

كل حراك له أغنياته “الثلاثائية” و“الجمعية”، أغان متفق أنها ليست عفوية بل هي من إنتاج وإبداع وإعداد عباقرة الملاعب الملاعين مشجعي كرة القدم أحب من أحب وكره من كره. لم يقدر لا المثقف ولا الشاعر ولا طبقات الساسة  ولا مناضلي آخر المطاف ولا وجوه البلاتوهات أن يصوغوا حروفا أو كلمات بديعة مكثفة تلخص الوضع وتضرب في عمق ما حل بالبلاد بعد سنين عجاف، وتلون الحزن والمعاناة، مثلما فعله هؤلاء الذين يسهرون وهم يلتقطون المعنى المهمش المكبوت الضاري المعبر بعنف وقوة وجمال خالص ليس عنهم فقط بل عن كل من قال لا للأبد.

يبدو الحراك بعد عام من قيامته المفاجئة ملولبا وتائها وكاسحا ومتخما بالانتظار. أصبح قليل النفوذ عند أهل الحكم والقرار. بقي معلقا على حبال التوتر والعناد والممانعات. وإلى الآن رغم الوعود والأماني والآمال والنداءات المتعاقبة التي صدحت من هنا وهناك الموجهة للحراك المتمنية عليه أن يوسع الخاطر لجبر المكسور وترميم المواقع المتضررة المنهوكة من طرف العصابة المسجونة.

يحدث ذلك رغم وفاة القايد صالح الشخصية العسكرية المحيّرة التي لعبت الدور الأخطر في هذه المرحلة، ورغم وجود رئيس منتخب يعد ويكرّر الوعود تلو الوعود، وحكومة في الظاهر غير مغضوب عليها، وعسكر منسحب بذكاء من المشهد، وسجون ما زالت تتلقى بصدر رحب مسؤولي النظام السابق المتورطين في قضايا فساد، حيث أطلق سراح بعض نشطاء الحراك ممن حملوا الأعلام الأمازيغية وممن تفوّهوا بأقوال أو كتبوا ما يتعارض مع المصلحة العليا للبلاد، وحيث سقط في هذه السنة من اعتقد أنه محمي إلهيا في الحفرة التي أوقع فيها غيره، وحيث ردّ الجميل لوجوه النظام القديمة وجدد لها الموعد مرة أخرى مع الكرسي الوفير، رغم كل هذا لم يهدأ بال الحراك، ولا يعرف من بإمكانه أن يخلي الشوارع من سطوة ناسه وساكنيه.

لقد اختفى عام من عمر الحراك في مسامات أحداث صنعها بيديه وقوة إصراره على أن يكون هو الأساس والباقي ملحقات به أو مكملات له. عزل الرئيس وحاشيته، ومكّن لروحه من الدوام والمقاومة رغم تيه الثلاثاء والجمعة الذي ما زال يقبع فيه، واستحلى لعبة الشارع الدوارة المترفة التي لا أفق لها ولا حلول مفروشة على البساط الطويل للحرية التي خلصته من محن وبراثن حكامه السجناء، سانده من سانده، وحاول منتهزو وقناصو الفرص النط على المسافة الفاصلة بين رغباته في تغير جذري شامل وبين أن يكون التغير مقطّرا وبحسابات دقيقة مراعاة للظرف والمصلحة العليا للبلاد مثلما يحب أصحاب الشأن ترديده وهو ما لا يريد الحراك سماعه إطلاقا وبتاتا.

قال الرئيس تبون إن الحراك الشعبي السلمي يمثل إرادة الشعب التي لا تقهر، وتعهد اللواء سعيد شنقريحة رئيس أركان الجيش الجزائري بلسانه المبين بألا تراق أيّ قطرة دم خلال مسيرات الحراك الشعبي مهما كانت الظروف، واصفًا إياه بأنه عزز رابطة “جيش – أمة”. هل ستكون هذه الكلمات حامية للحراك من الذوبان والذبول والتشتت والاختراق والتدجين والتعصب؟ أم أنها فقط كلمات تستيقظ في مناسبات ثم تركن للصمت والنسيان؟

فهل يتوجّب على الشارع بعد عامه هذا أن ينهض من التدفق كل ثلاثاء وجمعة، ويخرج من المتاهات والأنفاق، ويهتم أكثر بتشكيل مستقبل بلد يقف على شفا حفرة من الصعوبات والمشاكل والضيق والأفق المضبب والكثير من المطبات التي برزت وستبرز كلما مر عام تلو عام. يتملك الحراك الشارع، وكان ينبغي له في ذكراه الأولى أن يستمر وها هو يستمر اليوم.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: