حول اعتقال أحد «فلاسفة الشارع» في المغرب

اعتقل الأمن بالرباط يوم أول أمس يونس بنخديم وهو معتقل رأي سابق قضى بالسجن سنة كاملة. يلقب بنخديم في المغرب بشاعر أو «فيلسوف الشارع». تم إيقافه وهو يناقش مع المارين المتجمهرين حوله بساحة البريد في إطار إحدى «حلقاته». بنخديم اشتهر بانتقاده للنظام بالشبكات الاجتماعية وأحيانا بالحلقات التي ينظمها بالشارع لما يكون موضوعها الشأن العام. تم اعتقاله بمدينة أكادير كذلك منذ عشرة أيام وهو يناقش مع المارة ثم قام الأمن بإطلاق سراحه عقب استنطاقه. يبدو أن ذلك كان تنبيها له إلا أن صاحبنا لم ينتبه إذ نظم من جديد حلقة من حلقاته بالرباط كما ذكرنا ليعتقله الأمن بعد نصف ساعة من انطلاقها. ويبدو أن الأمر أكثر جدية هاته المرة فهو لازال معتقلا إلى حد كتابة هاته السطور كما أنه سيقدم للقاضي يوم الخميس المقبل. «جدية» النظام تظهر كذلك من خلال التهمة الرسمية الرئيسية وهي «السكر العلني» حسب دفاعه.
فالناس المعتقلون بتهم سياسية واضحة أو بسبب التعبير عن آرائهم التي لا تروق النظام، يتلقون في الغالب دعما كبيرا من الرأي العام بالداخل والخارج وقد يؤدي ذلك إلى إطلاق سراحهم. أما المعتقلون بتهم جنائية كيدية أي رسميا غير سياسية فإن الرأي العام يختلف حول قضيتهم ويستفيدون من دعم أقل من لدن المنظمات الحقوقية ومن الإعلام بسبب الشك الذي تزرعه حولهم الصحافة التابعة وطبيعة التهم والوثائق المعتمدة من لدن النيابة العامة. ويمكن أن نضرب مثلا بقضية الصحافي توفيق بوعشرين المعتقل بسب افتتاحياته القاسية على القصر وجزء من النخبة المتحكمة في الأمور والذي تطلب أول موقف مهم لصالحه حوالي السنة بعد اعتقاله والذي تمثل في صدور رأي فريق الأمم المتحدة المعني بالاحتجاز التعسفي والذي طلب من الحكومة إطلاق سراحه وجبر ضرره وفتح تحقيق حول من تسبب في اعتقاله. كما أنه لم يطلق سراح الصحافية هاجر الريسوني المتهمة زورا بالإجهاض إلا بعد أكثر من شهر ونصف من الاعتقال رغم أن الطبيعة السياسية لمتابعتها كانت واضحة منذ البداية. هذا لأقول إن اعتقال بنخديم أو على الأقل متابعته قد تطول.
والآن يمكن أن نتساءل مع القارئ لماذا يعادي النظام المغربي الفلسفة خصوصا لما يقع «التفلسف» بالشارع أو حتى بأقسام الدرس أحيانا؟ يبدو أن ذلك يرجع لأسباب سياسية. كانت أول بادرة رسمية لهذه الخصومة الواضحة مع الفلسفة والإنسانيات القريبة منها هي إغلاق معهد السوسيولوجيا بالرباط سنة 1970. وكان أغلب الباحثين به ذوي تكوين فلسفي وانتروبولوجيمتين كعبد الكبير الخطيبي وعبد الله حمودي ونجيب بودربالة وبول باسكون وغيرهم. الغريب في أمر إغلاق المعهد أن النظام لم يحاول إيجاد عذرين مالي أو إداري بل إن جريدة لوماتان شبه الرسمية الناطقة بالفرنسية قد دافعت عن الإغلاق قائلة بأن مثل هاته المعاهد لا تكون إلا الجهال والمشاغبين.

الفكر والمقاربة الفلسفية ذوا طابع تفكيكي تكون نتيجته، إذا ما تحكم في أوصال إنتاج الأفكار والقيم بالمجتمع، هي تآكل كل البنيات والأنظمة السلطوية وتجريدها من ذلك الغموض الرهيب والحيوي لاستمراريتها إذ هو الذي يعطيها تلك الهالة

بعد ذلك بسنوات قليلة سيتم التضييق على شعبتي الفلسفة والسوسيولوجيا بجامعتي الرباط وفاس. كما أن كل الجامعات الجديدة، وذلك منذ بداية الثمانينيات، لا توجد بها مثل هاته الشعب. ستأخذ الدراسات الإسلامية التقليدية مكان الفلسفة بالجامعة المغربية لأن النظام توخى منها الدفاع عن مشروعيته الدينية والتقليدية.
لماذا إذن محاربة الفلسفة والعلوم المحيطة بها؟ أعتقد أن هناك سببين رئيسيين. الأول أيديولوجي وذلك لأن الفكر والمقاربة الفلسفية ذوا طابع تفكيكي تكون نتيجته، إذا ما تحكم في أوصال إنتاج الأفكار والقيم بالمجتمع، هي تآكل كل البنيات والأنظمة السلطوية وتجريدها من ذلك الغموض الرهيب والحيوي لاستمراريتها إذ هو الذي يعطيها تلك الهالة التي تقتضي ولا شك ـ في نظر العامة على الأقل- وجود شيء ما أو كنه ما هو في نفس الوقت خطر وخطير، ولذا يجب احترامها أو على الأقل غض الطرف، وتجنب أي مواجهة معها.
أما السبب الثاني لتوجس السلطوية التقليدية المغربية من الفلسفة والعلوم الاجتماعية عموما فهو سياسي بحت إذ أن الجزء الأكبر من قياديي الحركة الثورية خلال السبعينيات وخصوصا منظمة «إلى الأمام» تخرجوا من شعبتي الفلسفة بالرباط وفاس وبالجامعات الفرنسية أو إنهم اجتهدوا شخصيا في تحصيل تكوين فلسفي صلب.
وقبل الختم لابد من الإشارة لأمرين مهمين. الأول أن «كونسبت» فلسفة الشارع أو «الفلسفة في الزنقة» كما يسميه أصحابه، برز إلى الوجود أول ما برز خلال الربيع المغربي لسنتي 2011 و2012. وكان المبادرون إليه من شباب حركة عشرين فبراير ولديهم ارتباط وثيق بمنسقي «المسرح المحكور(المحتقر)» وهو «كونسبت» شبابي قريب وعانى منشطوه كذلك من شطط السلطة ومن المتابعات والتهم الكيدية كالاتجار في المخدرات أو استهلاكها.
أما الأمر الثاني الدال جدا فهو عودة الفلسفة بشكل ملفت إلى فصول الدرس بالمغرب منذ نهاية التسعينيات كما خُلقت عدة أقسام للسوسيولوجيا خلال نفس الفترة. لماذا؟ ربما لأن غياب الفلسفة وسيطرة الدراسات الإسلامية بكليات الآداب قد قوى الحركة الإسلامية وأمدها بالأطر التي كانت بأمس الحاجة إليها. ونظرا لأن هاته الأخيرة أصبحت تشكل الخطر السياسي والأيديولوجي الجديد فإن الدولة قد عمدت إلى إحداث نوع من» توازن الرعب» بالرجوع للفلسفة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: