“النّمس” كوميديا مغربية تنتقد مواقع التواصل ومستخدميها

تستعرض مسرحية “النّمس” للجمهور المغربي ما يدور في الشارع المراكشي من علاقات اجتماعية، وما يحدث للبعض منهم من مفارقات وطرائف بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، والفضاء السيبراني بطريقة كوميدية. المسرحية أعادت الثقة للجمهور المغربي بالمسرح، عبر ما قدّمته المسرحية لهم من فن ومتعة ونقد اجتماعي ساخر.

عرضت فرقة “المسرح المفتوح” في المركز الثقافي بالقنيطرة مؤخرا مسرحية “النّمس” من تأليف عبدالإله بن هدار وإخراج أمين ناسور، وهو عمل مستوحى من سيرة إحدى شخصيات رواية “هوت ماروك” لياسين عدنان.

عرض جمع الموسيقى والرقص وفنون الحلقة المغربية، كما أبرز دور الحكواتي من خلال تقديمه عبر سينوغرافيا أعدّها طارق الربح، ممّا أتاح للممثلين أخذ أدوار حكواتية بملابس وأقنعة مهرجي السيرك الملونة، وهم القادمون من “ساحة الفنا” الساحة الشهيرة في مراكش.

يروي الحكواتيون في “النّمس” حكاياتهم، محاطين بقردتهم وسناجبهم وأفاعيهم، ومن حولهم حلقات المستمعين، ليقصّوا عليهم قصصا غريبة من التراث المغربي وما يحدث في الشارع من نمائم، وذلك من خلال ما يقومون به لتمثيل بعض أحداث تلك الحكايات.

سهلت السينوغرافيا تقديم تلك النماذج من خلال تشكيلات معدنية هندسية متحركة ساهمت في إغناء المسرحية. وأدخلت فنون الحلقة على العرض، وبذلك استطاع الممثلون التغلب على كآبة ورتابة السرد حول حياة إحدى الشخصيات العدمية كـ”شخصية رحال لعوينة”، الشخصية المملة التي مقتها كل من قرأ الرواية الأصلية، التي استوحى منها بن هدار مسرحيته.

أخذت شخصية لعوينة حيزا رئيسيا في العرض، وهي واحدة من عشرات الشخصيات السلبية في الرواية من الأغنياء والفقراء وأبناء الشوارع والمهمشين، والأفريقيات المهاجرات من جنوب القارة اللاتي استقرّ بهن الحال في مراكش وهنّ يأملن في القفز أمام أي فرصة تسنح لهنّ من المغرب إلى إسبانيا، ومنها إلى بقية الدول الأوروبية.

تحكي المسرحية سيرة لعوينة الفتى القروي الذي مثل دوره حسن مكيات، شاب نزحت عائلته من إحدى القرى الفقيرة في سنوات القحط التي مرت بمنطقتهم، فسكنوا في عشوائيات تقع على أطراف مراكش.

مارس أولئك الوافدون الجدد على مراكش مهنا، لا تجد بينها وبين التسوّل فرقا كبيرا، فوالد لعوينة، عياد، كان يكسب عيشه من تلاوة سور القرآن الكريم على قبور الموتى، وينال حسنات من أهل المتوفين. وعمه الذي تبعهما من تلك القرية، وسكن معهما في العشوائية ذاتها فاسق وكاذب، وقد اتّهمه أهل القرية التي كانوا يعيشون فيها بعلاقة مريبة مع زوجة أخيه، ونسبوا “الطفل لعوينة” لعمه.

وفي هذا الجو المشحون بالريبة والفقر والكآبة وفقدان الحنان والحياة غير الطبيعية نشأ لعوينة، وكل تلك المصائب التي مرّ بها صارت وسيلة للتندّر عليه، وعلى حياته من قبل الشخصيات المصاحبة في العرض المسرحي.

تمت مُزاوجة حكي الممثلين عن لعوينة مع الغناء والموسيقى، والرقص للتعبير عن الحالة النفسية للشخصية الرئيسية، وتم استخدام أغنية “يا من عانى” المأخوذة عن “فرقة جيل جلالة” المشهورة في السبعينات، فأتت الكلمات مشحونة بالحزن، الأمر الذي جعل الجمهور يتعاطف مع شخصية لعوينة، باعتباره ضحية طبيعية للفقر وهشاشة المجتمع، وقد صاحبت الأغنية موسيقى العيطة الجيلالية.

سيرة لعوينة في الرواية حفلت بعشرات الشخصيات من فقراء مراكش من الشباب والشابات والشيوخ إلّا أن المسرحية اكتفت بخمس شخصيات فقط. مثل أدوارها، مونية لمكيمل (حسنية بن فودة زوجة رحال)، حسن مكيات (لعوينة)، هاجر الشركي، عبدالله شيشة، وعبدالله ديدان. وقد استخدم الممثلون أسماءهم الحقيقية في العرض خلال العديد من مشاهد المسرحية، وهي محاولة من المخرج، لدمج الممثلين في أدوارهم، وجعل العلاقة بين الممثلين أثناء التمثيل أكثر حميمية وصدقا.

وحكى العرض عن فقر الشخصية المادي والروحي، بسبب انحداره من أحياء عشوائية، وما عاشه من ظروف أسرية صعبة، ممّا جعل حياته تدور في فلك شخصيات تعيش في جغرافيا ضيقة تقع بين حي المواسين وحي المسيرة بمراكش. وهي من الأحياء الفقيرة، التي ظهرت في الستينات والسبعينات من القرن الماضي بمراكش.

الحكواتيون يروون حكاياتهم 

ولعوينة بالرغم من كل الظروف الصعبة المحيطة به، إلّا أنه استطاع أن يواصل دراسته. وأثناء دراسته بالجامعة تعاطف مع الحركات الإسلامية السياسية، لمجرد عدائه لزميله الشاعر في الجامعة، توفيق الدرعي، الذي كان فقيرا أيضا، وانطلق معه من ذات العشوائيات الفقيرة، لكنه كان متعاطفا مع اليسار. وكانت للدرعي ميزات شخصية جعلت لعوينة الذي يفتقد ميزات زميله، كالوسامة والظهور الاجتماعي في الجامعة يحقد عليه. فأخذ الأخير ينشر الإشاعات بين الطلاب حوله بأنه من الشعراء المطبّعين مع إسرائيل.

وبعد أن حصل لعوينة على شهادة البكالوريوس من كلية الآداب أصيب بخيبة جديدة عندما لم يجد عملا، ممّا جعله يعاني من البطالة، ويغرق بتخيّلات عدمية صوّرت له أشكال البشر المحيطين به كحيوانات مختلفة الأنواع. وكانت هذه وسيلته الوحيدة للانتقام من الآخرين بسبب ظروف حياته الصعبة، وجعل سهامه الخياليّة تصيب من يحيط به من المعارف. وهنا استخدم المخرج بذكاء تقنيات مسرح الصورة، لينقل مشاهد من تخيّلات لعوينة، وتعليقاته في مواقع الإنترنت.

اضطرّت ظروف البطالة والإحباط التي مرّ بها لعوينة إلى طلب يد حسنية، المتأثرة بأفكار الإسلام السياسي، وقد شاءت ظروف فقرها أن تكون هي أيضا ضحية اغتصاب سابق من قبل مخدومها، عماد القطيفة. فتجد حسنية وظيفة لرحال في مكتب يملكه مخدومها، ومغتصبها السابق عماد القطيفة.

وحالما يبدأ رحال بالعمل في المكتب يشرع في تنفيذ انتقامه من كل الذين عرفهم في حياته منذ الطفولة من خلال الفضاء السيبراني، الذي وفّر له فرصة الشتم، والتشهير بمن يريد شتيمته باسميْن وهميين اخترعهما، وأخذ يذيّل بهما تعليقاته.

في المحصلة نجح عرض “النّمس” في تقديمه لمعظم مشاهده عبر الكوميديا التي أسعدت الجمهور المتعطش لرؤية المفارقات الضاحكة، كما فضح بأسلوب فني مُبتكر دعوات التكفير والجهاد باسم الدين، وذلك عبر تقنيات مسرح الصورة وفنون الحلقة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: