الأزمة البنيوية للنظام الجزائري

فاجأ مجلس الوزراء الجزائري، في هذا الأسبوع، الرأي العام الوطني بمصادقته على مشروع قرار إنشاء ولايات (محافظات) ومقاطعات جديدة في البلاد. ثم حاول، من خلال وسائل الإعلام الموالية له، أن يقنع الناس بأن تغيير كيان البنية الجغرافية الوطنية لا يتضمن أهدافا سياسية خاصة وفي صلبها تمرير الانتخابات الرئاسية وفق مقاسه.

في هذا السياق نطرح السؤال التالي: هل صحيح أن الهدف من هذا الإجراء هو تحقيق مبدأ اللامركزية بتقريب الإدارة من المواطنين وتجسيد لانطلاقة تنموية فعلية فقط؟

هذا التقسيم الإداري هو تطبيق حرفي لسياسات الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة لأنه هو الذي وضع مخطط هذا التقسيم منذ زمن. وفي حال تطبيق هذا التقسيم يكون عدد الولايات (المحافظات) الجزائرية قفز من 48 ولاية إلى 58 ولاية. ثم إن تصويره وتسويقه من قبل الأقطاب الفاعلين في أجهزة النظام الجزائري مخالف للوقائع الميدانية. فهذا الفضاء الجغرافي الصحراوي، الذي تعادل مساحته الإجمالية مساحة معظم دول غرب أوروبا، لا يعاني من الاكتظاظ العمراني الذي يفرض وضعا إداريا معقدا يجب تغييره في أوج تصاعد الأزمة البنيوية في المشهد السياسي الوطني، رغم أنه من المسلم به أن هذا الفضاء يعاني من التخلف البنيوي المفرط الذي فرضته عليه السلطات الجزائرية على مدى سنوات طويلة.

أما حجّة تسهيل المعاملات الإدارية على سكان الصحراء والهضاب العليا وتسريع وتيرة التنمية في هذين الفضائين، التي يسوقها النظام الجزائري لتبرير إجراءاته الانتقائية فهي واهية خاصة إذا علمنا أن تعداد سكان الجنوب الجزائري هو أقل من ثمن إجمالي سكان الجزائر الذي تقدره الإحصائيات الرسمية بـ43 مليون نسمة. مع العلم أنه هو أيضا الجزء الأكبر الذي تطحنه البيروقراطية وينتشر فيه الاكتظاظ وأزمة السكن ووباء البطالة والعنوسة والفقر والمظاهر المخلة بالكرامة.

وهنا نتساءل أيضا: لماذا تم اختيار ولايات ذات حجم سكاني صغير جدا في هذا الوقت بالذات، حيث تشهد البلاد تواصل المظاهرات الشعبية منذ ثمانية أشهر، وتصاعد وتيرة رفضها لتشكيلة الحكومة الحالية ولمختلف رموز الحكم الموجودين في مفاصل الدولة، بما في ذلك أسماء المرشحين الخمسة وللصيغة غير التوافقية وغير التمثيلية التي ستجري على أساسها الانتخابات الرئاسية في 12 ديسمبر القادم؟

الإجابة على هذين السؤالين، في تقدير الملاحظين السياسيين الجزائريين المحايدين، تفرض مسبقا ضرورة النظر في بعدين مهمين وهما البعد النفسي والبعد السياسي المترابطان اللذان يحركان النظام الجزائري. ويريد النظام من خلال ذلك خلق حالة من الرضا عنه بواسطة آلية التقسيم الإداري لدى سكان جيوب جغرافيا الجنوب الجزائري ولدى سكان عدة محافظات منها محافظات منطقة الهضاب العليا.

وفي الحقيقة فإن الهدف السياسي البراغماتي الأساسي لهذا التقسيم هو جرّ سكان هذه المناطق إلى صف السلطة الحاكمة بغية السيطرة على الوعاء الانتخابي. وهنا تنبغي الإشارة إلى أن هذا التقسيم الإداري يختلف عن ذلك الذي أنجزته مرحلة الشاذلي بن جديد عندما قام، مثلا، بتفكيك محافظة تيزي وزو ذات الأغلبية الأمازيغية وأخرج من ضلعها محافظتي بومرداس وبويرة.

كان الهدف المعلن حينذاك هو خلق البنيات الهيكلية القادرة على التحكم في عمليات التوزيع العادل للتنمية الوطنية فضلا عن رفع شعار محاربة المركزية المفرطة. لكن السبب المضمر كان محاولة لإضعاف وتشتيت التوزيع القديم للنسيج الإثني الأمازيغي.

وأكدت التجربة أن التقسيم الإداري لمرحلة الشاذلي بن جديد لم يخلّص البلاد من مرض المركزية الإدارية ولم يحقق التحديث في البنى التحتية في عمق المحافظات القديمة أو المستحدثة معا، بل أكدت الشواهد والوقائع أن مرحلته أفضت إلى أزمات عدة منها الانفجار الذي تميزت به العشرية الدموية، فضلا عن الإبقاء على تراكم التعقيدات التي كبّلت البعد الثقافي لظاهرة الإثنية الأمازيغية في الجزائر.

أما هذا التقسيم الإداري لبوتفليقة، والذي تبنته حكومة نورالدين بدوي وعمّده الرئيس الحالي المؤقت عبدالقادر بن صالح، فسيدرجه التاريخ ضمن سياق الممارسة السياسية البراغماتية الهادفة إلى ربح النظام الجزائري لحرب المواقع والتنفيس السيكولوجي في محاولة لاحتواء الأزمة فقط، وإلى إشغال المواطنين بقضايا إدارية الطابع لنسيان فقدان الحكم للشرعية وشبح إمكانية انزلاق الوضع برمته وعودة العنف المادي إلى الساحة الوطنية، وتدهور أمنهم المعيشي.

لا شك أنّ تبني اجتماع مجلس الوزراء لقرار إنشاء الولايات العشر الجديدة يتميز بالارتجال من ناحية، ولا يتضمن، من ناحية أخرى، أي استراتيجية مدروسة علميا على أيادي خبراء لهم خبرة ومصداقية في معالجة مشكلات التنمية الاقتصادية والثقافية والسياحية، وليست محتضنة سياسيا من قبل أحزاب المعارضة والجمعيات والمؤسسات التابعة للمجتمع المدني المستقل.

هكذا، يبدو واضحا أن رفع شعار القضاء على البيروقراطية والمركزية وإنجاز التنمية المستدامة في المحافظات الجديدة بالجنوب الصحراوي الجزائري وفي المقاطعات المستحدثة بمنطقة الهضاب العليا مجرد سيناريو يستهدف التغطية على المشكلات المعقدة التي تؤزم الوضع الجزائري والسعي بطرق مختلفة لسحب البساط من تحت أقدام العمق الشعبي وحراكه السلمي.

لكن مثل هذه المخططات تعمّق بقاء النظام الجزائري رهينة لثقافة سياسات تسيير الأزمة المركبة العميقة التي تعصف بالبلاد بدلا من  تفعيل الوعي الذاتي النقدي من أجل فهم الأسباب الحقيقية التي فرخت  ولا تزال تفرخ الأزمة البنيوية التي تهدد استقرار المجتمع الجزائري.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: