الإبراهيمية.. المشتركات بين الأديان الثلاثة بوابة التسامح

لم يأت مشروع “بيت العائلة الإبراهيمية” ابن لحظته، الذي هو صرح معماري قيد الإنجاز بالعاصمة الإماراتية أبوظبي، ولا يمكن له النجاح إن لم يستند إلى إرث سياسي واجتماعي، لكن يمكن لذلك التّراث أن يتغير إلى ضده، إذا لم يجد رعاية وسقاية تجعل منه شجرة وارفة تظلل مئتي جنسية، من مختلف العقائد، وقد دُعم باحتضان غير المسلمين من العاملين على هذه الأرض، وربّما هو المكان الوحيد، إن لم أكن مخطئا، أن يسمى مسجدا باسم السيدة مريم أمّ عيسى، وهو مجاور لمجمع للكنائس. هذه محاضرة قُدمت في مؤتمر صحيفة الاتحاد الإماراتية الرابع عشر، والذي عُقد بأبوظبي تحت عنوان “الأخوة الإنسانيّة.. رؤية الإمارات لعالم متسامح” في 20 أكتوبر 2019.

يضم مشروع بيت العائلة الإبراهيمية، الذي ينشأ على جزيرة السعديات بأبوظبي، “كنيسة، ومسجدا، وكنيسا، تحت سقف صرح واحد، وذلك ليشكل للمرة الأولى مجمعا مشتركا تتعزز فيه ممارسات تبادل الحوار والأفكار بين أتباع الديانات”. ذلك الصّرح الذي سيفتتح في العام 2022. استند هذا المشروع على المشتركات، بين الأديان الثلاثة، وهي بطبيعة الحال الأساسيات، أما الاختلافات فليس لواحدة منها أن تُلغي واحدة مِن تلك المشتركات.

في بعض مراكز البلدان، كصوفيا عاصمة جمهورية بلغاريا مثلا، يتجاور المسجد والكنيس والكنيسة في ساحة واحدة بقلب المدينة، ولا نعلم إن كان ذلك مقصودا لإشاعة ثقافة التَّسامح الدِّيني، والحوار والتلاقي، لكن يصعب تفسير هذا التجاور على أنه جاء بمحض الصُّدفة، أي: كان يوجد الكنيس والكنيسة ثم شيدت السلطة العثمانية المسجد المركزي لصوفيا، ومع ذلك كان النّاس ينظرون إلى هذا التَّجاور كرسالة إنسانيَّة بين الأديان الثلاثة.

تتبنى الأديان الثَّلاثة “الوصايا العشر”، التي وردت في كتاب التوراة، وفي وصايا الإنجيل وفي آيات القرآن، ولا نغفل عن أن تلك الوصايا الدينيَّة والإنسانيَّة، عُرفت في الحضارات القديمة أيضا، كشريعة حمورابي مثلا، حيث وضعت قوانين ضدّ مَن يخل بالأعراف.

وتعتبر الوصايا العشر لبّ الشريعة الموسوية وأساس عهد الله مع بني إسرائيل. ومبادئ الحياة الدينية للشعب الإسرائيلي في أرض كنعان. وكان شعب العهد القديم يهتم بتنفيذها، وأصبحت قانونا للحياة والسلوك الأخلاقي (جواد الخوئي، الوصايا العشر في القرآن الكريم والعهدين دراسة مقارنة، أطروحة أكاديمية).

إذا علمنا أن المسيحية تعتقد بالعهد القديم، وما جاء فيه مِن تعاليم، وعلى وجه الخصوص اعتقادها بالوصايا العشر منه، فالقرآن كرس الوصايا في أكثر من سورة وآية، ولكن يمكن الإشارة إلى قرين بعضها في الآيات التَّالية، كالتوحيد وتحريم القتل وأكل المال الحرام “قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيما فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (الأنعام: 153-151).

مقدمات المشروع

العلاقة بين الشرق والغرب هي ضرورة قصوى لكليهما، لا يمكن الاستعاضة عنها أو تجاهلها، ليغتني كلاهما من الحضارة الأُخرى عبر التبادل وحوار الثقافات

يعلم الجميع أن قضية العلاقة بين الأديان قضية معقدة، على وجه الخصوص بمنطقتنا، ولهذا التعقيد أساس تاريخي غذته وفرضته ممارسات لحكام وفقهاء ومؤرخين، فمصطلح “الفرقة النَّاجيَّة”، الذي يملأ كتب الملل والنِّحل، ومصطلح “الشّروط العُمريَّة”، أو “أحكام أهل الذِّمة”، ومعاملة غير المسلمين بشكل عام، لا يعني هذا أن المسلمين وحدهم يختصون بهذا التّراث، فقرون العصور المظلمة بأوروبا، وخلال الحروب، التي تأخذ عادة، في السابق، طابعا دينيا، تركت آثارها على معتنقي الأديان، وترجمت بكراهيات في المجتمع.

غير أن التاريخ ليس كلُّه كراهيات وحروبا، وإن كانت هي الغالب، فهناك فسح اجتماعية تعايش النَّاس على أساسها، ولولا هذا التعايش ما وجدت الآن مجتمعات مختلطة دينيا، فلم يتصادم الإبراهيميون، مِن يهود ومسيحيين ومسلمين داخل المدن التي يتساكنون فيها، عندما صادف في العام 244هـ أن تكون أعياد الأديان الثلاثة في يوم واحد (الطَّبري، تاريخ الأمم والملوك)، وهذا ما عبر عنه ابن كثير بالقول “وهذا عجيب غريب” (تاريخ ابن كثير)، وكلٌ مارس طقسه في عيده، ولم يُلتفت إلى ما كان مِن وصايا وفتاوى، مع أن كل ديانة تعتقد أنها الحقّ وغيرها باطلة آنذاك، لكنّ الانضباط الاجتماعي حقَّق ممارسات المناسبات الثلاث في ذلك اليوم بكل حرية.

وفي القرون الخوالي هناك مَن اعتقد مِن فقهاء المسلمين أن المشترك بين الأديان الإبراهيمية لا يمنع مِن تعليم القرآن والإنجيل والتوراة في المسجد؛ حدث هذا بالموصل في القرن السادس والسابع الهجري. نأخذ من جمال الدّين الإسنوي (ت. 772هـ) في نقله لرواية تدريس فقيه شافعي للتوراة والإنجيل لمعتقديهما بالموصل؛ لما عاد الفقيه الشّافعي أبوالفتح موسى بن يونس الملقب بكمال الدّين (ت. 639هـ/1241م) إلى مدينته الموصل، «عكف على الاشتغال يُدرِّس بعد وفاة أبيه في مسجده، وفي مدارس كثيرة، وكان مواظبا على وظائفها، فأقبل عليه النّاس، حتى أنه كان يقرئ أهل الذّمة التّوراة والإنجيل» (الإسنوي، طبقات الشَّافعية).

كذلك نقل الرواية نفسها ابن خِلِّكان (ت. 681هـ)، في “وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزَّمان”، والذّي تردد على كمال الدِّين بالموصل بحكم صداقته لوالدّه.

لستُ ممّن يأخذون بانتقاء النّماذج، كي أبني عليها فكرة أو اعتقادا أو ظنا، إذا لم تكن سلوكا مارسه صاحبه عن وعي، مع أخذ فارق الزّمن بنظر الاعتبار، وما بين ابن يونس (كمال الدّين) وفقهاء الفتنة اليوم أكثر من ثمانية قرون، وأن أجداد هؤلاء المقصيين من أرضهم ممن قرأوا الإنجيل على يده. فما معنى الزّمن لدينا؟ هل ينطلق منكوسا؟ كيف نفسر آيات السّماح والتّعايش في ظل هذا التّخلف؟ وماذا يبقى منها وقد نسخوها معنى؟ إن مثال تصرف الفقيه كمال الدّين، ليس عاديا في زمننا الرديء، وأراه كان مقبولا قبل ثمانمئة عام! فتأمل فداحة الوعي المخبوء للمنطقة.

غير أنّ تحقيق تلك الصِّلات، عبر مثال أو نموذج “بيت العائلة الإبراهيَّمية”، يرسم مسارا لمستقبل البشر، عبر السّلام بين أديانهم، وإذا عدّت مبادرة “بيت العائلة الإبراهيميَّة” نادرة، فإنها لم تعد عجيبة وغريبة، حسب تعبير ابن كثير في اتفاق أعياد الأديان الثلاثة في يوم واحد، لأنها جاءت عبر مبادرات ومحاولات ثقافيَة وفكرية، أسفر عنها هذا التّكوين، أي لم تترك للزمن كي يُحدد الاتفاق.

بخصوص بيت العائلة الإبراهيميّة، شهدت العاصمة الإماراتية أبوظبي توقيع وثيقة “الأخوة الإنسانيَّة” (4 فبراير 2019)، وكان مستهلها باسم النَّفس الإنسانيّة، وباسم الفقراء والمحرومين والمهمشين وباسم الأيتام والأرامل، وباسم الشُعوب التي فقدت الأمن والسَّلام والتَّعايش. وتوجهت الوثيقة بمناشدة المفكرين والفلاسفة والفنانين ورجال الدِّين وكل المبدعين في كلِّ مكان مِن العالم. وقعها أعلى مراتب رجال الدِّين في الإسلام والمسيحيَّة، البابا فرنسيس وإمام الأزهر أحمد الخطيب مع وجود عدد مِن فقهاء المسلمين وقساوسة الفاتيكان وغيرهم، وأكدت هذه الوثيقة على أهمية الدور العالمي للأديان في ترسيخ السلم الاجتماعي، ومِن القضايا التي أكدت عليها:

* التعاليم الصحيحةَ للأديانِ تَدعُو إلى التمسُّك بقِيَمِ السلام وإعلاءِ قِيَمِ التعارُّفِ المُتبادَلِ والأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ والعَيْشِ المشترَكِ.

* الحريَّةَ حَقٌّ لكُلِّ إنسانٍ: اعتقادا وفكرا وتعبيرا ومُمارَسة، وأنَّ التَّعدُّدِيَّةَ والاختلافَ في الدِّينِ واللَّوْنِ والجِنسِ والعِرْقِ واللُّغةِ حِكمة لمَشِيئةٍ إلهيَّةٍ.

* العدل القائم على الرحمةِ هو السبيلُ الواجبُ اتِّباعُه للوُصولِ إلى حياةٍ كريمةٍ.

* الحوار بين المُؤمِنين يَعنِي التلاقيَ في المساحةِ الهائلةِ للقِيَمِ الرُّوحيَّةِ والإنسانيَّةِ والاجتماعيَّةِ المُشترَكةِ.

* حمايةَ دُورِ العبادةِ، من مَعابِدَ وكَنائِسَ ومَساجِدَ، واجبٌ تَكفُلُه كُلُّ الأديانِ والقِيَمِ الإنسانيَّةِ والمَوَاثيقِ والأعرافِ الدوليَّةِ.

* الإرهاب يُهدِّدُ أمنَ الناسِ، سَواءٌ في الشَّرْقِ أو الغَرْبِ، وفي الشَّمالِ والجَنوبِ، ويُلاحِقُهم بالفَزَعِ والرُّعْبِ وتَرَقُّبِ الأَسْوَأ، ليس نِتاجا للدِّين بل هو نتيجةٌ لفهم النُصُوصِ الدينية.

* العلاقة بينَ الشَّرْقِ والغَرْبِ هي ضَرُورةٌ قُصوَى لكِلَيْهما، لا يُمكِنُ الاستعاضةُ عنها أو تَجاهُلُها، ليَغتَنِيَ كلاهما من الحَضارةِ الأُخرى عَبْرَ التَّبادُلِ وحوارِ الثقافاتِ.

لا يمكن إغفال العلاقة بين هذه الوثيقة الإنسانيَّة، على مستوى العالم، وتشييد بيت العائلة الإبراهيمية، بين الأديان الثلاثة، وعلاقة ذلك بالنسبة للجميع، وعلى وجه الخصوص المسلمين، بـ”صحيفة يثرب” (العام الهجري الأول). كان أهم ما أنتجته وثيقة المدينَة، أو الموادعة، أو الميثاق، أو الصحيفة، أو الدستور -التسمية الأخيرة تسمية حديثة- أنها أشارت إلى مجتمع المدينة ككل، مِن منطلق العقيدة الدينية، وليس من منطلق القبيلة.

في تكريس سياسة وأفكار التَّسامح الدِّيني، وعلى وجه الخصوص في المجتمعات المختلطة دينيا، حتى المشركين أنفسهم، فالثلاثة والخمسون بندا التي حوتها الصحيفة كانت تتسع للجميع. فالصحيفة المذكورة هيأت المجتمع بالمدينة، ومنذ العام 622م، إلى التضامن والتكافل الاجتماعي، مع الاحتفاظ بالعقائد الدِّينية وخصوصياتها، والاحتفاظ بحرية المقدسات لكلِّ ديانة. كذلك ليس لنا إغفال “ميثاق ميلانو”، في هذا الخصوص بين ملكي روما والقسطنطينية في العام 313م، وربَّما كان هو الأول في إطار تنظيم العلاقة بين الأديان (لوكلير، تاريخ التَّسامح في عصر الإصلاح).

يمكننا التذكير بما تداول في تراث المسلمين، ويرتبط، بشكل مِن الأشكال، بإنسانيَّة تلك الصَّحيفة، ومنها ما ورد في رسالة الخليفة الرَّاشدي عليّ بن أبي طالب (اغتيل40هـ) إلى مرشحه لولاية مصر مالك بن الأشتر (ت. 37هـ) “لا تكوننَّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنِّهم صنفان: إما أخٌ لك في الدِّين وإما نظيرٌ لك في الخّلق”.

غير أنه بعد حين طويل وفي القرن الثَّامن عشر الميلادي، وبالتَّحديد العام 1784 عندما جرى الحديث وبقوة في أميركا عن حرية الأديان، وبما فيهم المسلمون، والتعامل مع الضمائر لا مع الانتماء الدِّيني، حيث كتب جورج واشنطن رسالة إلى صديق للمساعدة بإنشاء بيت له بفرجينيا، موضحا أن مذاهب العمال ليست مهمة “إذا كانوا عمالا جيدين، قد يكونون مِن آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، وقد يكونون محمدين (مسلمين) أو يهودا أو مسيحيين مِن أي طائفة، أو قد يكونون ملحدين” (سبليبرغ، جيفرسون والقرآن).

تعزيز الروابط الإنسانية

بيت العائلة الإبراهيمية جاء ليجمع أتباع أكثر الأديان انتشارا على وجه الأرض

جاء بيت العائلة الإبراهيمية ليجمع أتباع أكثر الأديان انتشارا على وجه الأرض، فلا يكاد يخلو مجتمع من المجتمعات مِن وجود التجاور بين هذه الأديان، مِن الغرب إلى الشَّرق، فعدد المسيحيين، المنتشرين بأوروبا والأميركتين وآسيا وأستراليا وأفريقيا، يبلغ أكثر مِن ملياري مسيحي، وعلى مختلف مذاهبهم وكنائسهم، لكن تجمعهم العقيدة الدينية وكتاب الإنجيل، ويبلغ عدد أتباع الإسلام مليارا ونحو ستمئة مليون مسلم، وهم أيضا تجدهم منتشرين في مختلف بقاع العالم وقاراته، ويبلغ عدد أتباع اليهوديَّة أكثر مِن خمسة عشر مليون يهودي، وما بين هذه الأديان الثلاثة جامع أو مشترك، هو مصطلح السَّماويَّة والتوحيدية، وما أشرنا إليه مِن الوصايا الإنسانيَّة التي بلغها الله عبر الكتب الثَّلاثة، حسب اعتقاد كلِّ ديانة.

لهذا تأتي مبادرة تشييد صرح عمراني لبيت العائلة الإبراهيمية جامعا لهذا البحر مِن البشرية، لحماية وتكريس المشتركات بين العائلة الإنسانيَّة، ولا يعني هذا أن بيت العائلة الإبراهيمية، وهذه الأديان، بمعزل عن مئات الأديان على الكرة الأرضية، إنما الآصرة الإنسانيَّة واحدة، ومعلوم أن الدِّين -أي دين- يتضمن تلك المشتركات بشكل أو بآخر.

جاءت المبادرة، في هذا الظَّرف، لتلبية حاجة سد فراغ، ملأه التشدد والتَّعصب، وأول المبتلين به شعوب المنطقة، حتى أخرج المتشددون مقالات وأحكاما من الماضي الغابر، والتي كانت مناسبة لظروف الحروب بين الإمبراطوريات، لا الظرف الذي ظهرت فيه الدَّولة الوطنية، ذات الحدود الجغرافيَّة المعروفة، مع وجود منظمة دولية ومحكمة عدل دولية تفصل في النزاعات بين الدُّول. أما الإمبراطوريات، فتتسع حدودها وتضيق حسب الصِّراع والتَّنافس بين بعضها البعض، ومِن المعلوم أنها كانت تتخذ الأديان عقائد في حروبها، وفي هيمنتها على المجتمعات التي تقع تحت ظلها، فعلى سبيل المثال لا الحصر كانت الدولة الساسانية تُقرب المسيحيين النساطرة في أوقات شدة النزاع مع الدَّولة الرومانية، لأن الأخيرة تبنت العقيدة الكاثوليكية، والحال أيضا في ما يخص الدَّولة الصَّفويَّة والعثمانية، فمظهر النزاع السِّياسي كان الصراع المذهبي، وهناك بلدان نشأت على أساس ديني بسبب إنعاش الكراهيَّة، مثلما نشأت دولة إسرائيل على أساس العقيدة اليهوديَّة، لكن ليس معنى هذا عدم التعامل مع اليهود، فلا بد مِن التَّمييز بين العقيدة الصهيونية والديانة اليهودية، وهذا ما هو واضح في العديد مِن المواقف والكتابات في الشأن الفلسطيني والإسرائيلي.

لا بد مِن التفكير في جسور ثقافية وإيمانية، يلتقي عبرها أتباع الأديان الثَّلاثة، مع البقاء على التعاليم والطُّقوس والالتقاء بالمشتركات

إن العديد مِن التعاليم الدِّينية، التي أوجدها رجال الدِّين، مِن الأديان الثَّلاثة، مثلما هي الشُّروط العمريَّة، أو إجبار اليهود والمسلمين على التخلي عن ديانتهم أو طردهم، بعد سقوط الأندلس (1491ميلاديَّة). فبعد أن تمت السيطرة على إسبانيا بأكملها مِن قِبل الملوك المسيحيين، صدر مرسوم 1492 القاضي بطرد اليهود الرَّافضين للتَّحول إلى المسيحية والمراسيم الصَادرة بين (1499-1526) فرضت على المسلمين بإسبانيا التحول الديني الإجباري، أو طردهم. كان هذا مِمّا يتعلق بالفترة الإمبراطوريَّة، والتي انتهت في الحرب العالمية الأولى، ليبدأ عصر الدّولة الوطنية.

غير أن الإسلام السِّياسي، بشقيه السُّني والشِّيعي، يمثل العمل السياسي داخل ثياب الإمبراطورية، فيردها دولة إسلامية، لا تحدها الحدود الجغرافية إنما حدودها العقيدة الدِّينية، وهذا سرّ محاولات التَّوسع الإيراني، والذي يريد دولة دينية حيث وجود العقيدة المذهبيَّة.

سيكون لبيت العائلة الإبراهيمية، ممثلة فيه الأديان الثلاثة التي تعتقد بإبراهيم الخليل أصلا لها كافة، رمزية إنسانيَّة، تساهم بالتَّخفيف من التَّشدد الدِّيني، الذي مِن السَّهل استغلاله سياسيا، ومِن الجماعات المتطرفة، بمصادرتها للتاريخ والحاضر، وما حلَّ بالموصل سنة 2014 مع المسيحيين والإيزيديين لا يخفى عن أحد. فلا بد مِن التفكير في جسور ثقافية وإيمانية، يلتقي عبرها أتباع الأديان الثَّلاثة، مع البقاء على التعاليم والطُّقوس والالتقاء بالمشتركات؛ فتحْتَ سقف المسجد والكنيسة والكنيس يُذكر اسم الله، مع اختلاف اللغات والطُّرق.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: