المغرب: أقدم حزب يساري يغادر الحكومة

شارك حزب التقدم والاشتراكية منذ أواخر القرن الماضي وإلى اليوم في كل التركيبات الحكومية مهما كانت برامجها وتلويناتها السياسية والأيديولوجية، فلماذا يغادر اليوم حكومة سعد الدين العثماني وما علاقة ذلك بموقف القصر منه وبتراجع الحريات بالمغرب؟ للإجابة على هذين السؤالين لابد من الرجوع إلى ماضي الحزب وماهيته الاجتماعية والفكرية.
يعد حزب التقدم والاشتراكية وهو سليل الحزب الشيوعي، من أقدم الأحزاب بالمغرب، إذ تأسس هذا الأخير قبل حصول البلاد على الاستقلال. أول أمين عام للحزب الشيوعي المغربي هو ليون سلطان وهو محام يهودي من أصل جزائري، كان قد أقام مدة طويلة بالمغرب. كان سلطان مجنسا بالجنسية الفرنسية ككل اليهود الجزائريين. هكذا كان الحزب الشيوعي، نظرا لإيديولوجيته الأممية، يكاد يكون الحزب الوحيد الذي يتعايش فيه الأوروبيون والمغاربيون، المسلمون واليهود.. كما يقوده على قدم المساواة عمال يدويون ومثقفون من البورجوازية الحضرية. تمت مغربة الحزب الشيوعي بطريقة سريعة خلال النصف الثاني من الأربعينيات وبداية الخمسينيات ولكن بقي مع ذلك الحزب الوحيد الذي يلعب فيه اليهود دورا قياديا مهما.
وموازاة مع المغربة ازدادت المواقف الوطنية للحزب تجذرا بل إنه خلق منظمة مسلحة هي الهلال الأسود ساهمت في الكفاح من أجل الاستقلال. ونظرا لتنوع قاعدته السوسيولوجية والإثنية وحضور المرأة القوي «بمنظماته الجماهيرية» والنسق القيمي التقدمي الذي اختاره مؤسسوه وعاشت في كنفه الأجيال المتتالية منذ حوالي ثمانين سنة، فإن هذا الحزب كان طوال تاريخه من أكثر المدافعين عن الحريات الشخصية وعن حقوق المرأة والمساواة الجندرية. ما يمكن قوله كذلك أن قيادة هذا الحزب تحت مسمياته المختلفة أظهرت عن اعتدال غريب ومفاجئ اتجاه نظام الحسن الثاني خلال سنوات الرصاص رغم أن الكثير من مناضليه أدوا ثمنا غاليا لمعارضتهم للاستبداد. فرغم أن الاتحاد الاشتراكي وهو سليل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كان أقل يسارية من التقدم والاشتراكية على المستوى الأيديولوجي والقيمي، فإنه عارك بكل قواه النظام وعانى من تنكيل أجهزته الأمنية. لهذا السبب تكونت منذ السبعينيات علاقة ثقة وطيدة بين القصر والحزب لم تتزعزع إلا مع قدوم الربيع العربي وتكوين حكومة بنكيران بالمغرب في بداية 2012. ونظرا لتهمة الالحاد التي كانت تلاحقه منذ تأسيسه سواء من لدن بعض رجال النظام أو من طرف الفئات الاجتماعية المحافظة ونظرا كذلك لامتزاج الهوية الدينية والوطنية لدى شرائح واسعة من الساكنة بالإضافة إلى أن الأغلبية الساحقة من أعضائه أصبحت مسلمة بسبب المغربة، فإن خطاب الحزب تخلى، احتراما لها وشيئا فشيئا، عن بعضٍ من جهازه المفاهيمي العلماني. بل إن أمينه العام الشهير علي يعته قد أدى فريضة الحج وكذلك فعل أمينه العام الحالي الذي ترأس الوفد الرسمي للحجيج المغربي بالديار المقدسة. اعتراف «دولة أمير المؤمنين» بالحزب ساعد كذلك في قبوليته من لدن مجتمع محافظ.

النشطاء التقدميون والذين لم يستفد عدد كبير منهم من مشاركة الحزب المحدودة بالحكومات، ضغطوا بعد عزل بنكيران من رئاسة الحكومة وظهور سرابية «النفس الديمقراطي» وتراجع الحريات الشخصية من أجل مغادرة السفينة

بقي الحزب رغم كل شيء متشبثا بليبرالية صلبة على المستوى الفكري والقيمي مدافعا عن مشروع «المجتمع التقدمي» والحريات الفردية والعمومية. لم يتردد التقدم والاشتراكية للدخول نهاية سنة 2011 في تحالف مع حزب العدالة والتنمية الإسلامي لمحاولة دعم عبد الإله بنكيران الذي كان يقول آنذاك بمحاربة الاستبداد وبتوسيع الحريات العمومية والذي صرح أكثر من مرة أنه لن يتعامل كرئيس للحكومة إلا مع الملك. دخل التقدم والاشتراكية حكومة بنكيران رغم إشارات النظام غير المشجِّعة فالأخير كان يفضل حكومة ملتحية دون يساريين، حتى يمكنه فبركة جبهة معارضة لها من «الديمقراطيين الحداثيين» بزعامة حزب البام المقرب من القصر، أقول دخل الحزب التحالف الحكومي بقيادة بنكيران ليفرمل من التوجه المحافظ لحزب هذا الأخير. ولكن علاقته ستسوء مع القصر نظرا لهذا التحالف.
هذا الاهتمام بالحريات الفردية لم يكن يقتصر على الخطاب. على العكس من ذلك فإن أهم أزمة عاشها التحالف بين الحزبين التقدمي والإسلامي خلال الولاية الحكومية لبنكيران حدثت سنة 2015 وكان سببها عدم موافقة التقدم والاشتراكية على بعض فصول مسودة القانون الجنائي وخصوصا «العقوبات التي تمس الحريات الفردية» حسب تعبير زعيمه. وصل الأمر بالتقدم والاشتراكية إلى درجة التهديد بالانسحاب من حكومة بنكيران.
وبالرغم من هاته الأزمة الجدية ولكن العابرة بين الحزبين فإن سليل الحزب الشيوعي كان الأقرب إلى العدالة والتنمية من بين كل الأحزاب المشاركة في التحالف كما أنه الحزب الوحيد الذي لم يستعمله القصر للضغط على بنكيران. متانة هذا التحالف ودعم بنعبد الله لبنكيران خلال كل مناوشاته مع القصر ستؤدي بهذا الأخير إلى أن يعبر علانية وبطريقة عنيفة ونادرة عن غضبه من زعيم الحزب وذلك عبر بلاغ ملكي رسمي. غضب القصر سيتبع بنعبد الله وحزبه لأكثر من سنة. كل الإشارات الواردة من داخل النظام والإعلام العمومي خلال الأسابيع القليلة الماضية كانت تُظهر بوضوح أن الضحية الأولى للتعديل الحكومي المرتقب حاليا والذي هو نتيجة لمحتوى خطاب عيد العرش الأخير، هو التقدم والاشتراكية. ولهذا استبق حزب بنعبد الله هذه الإهانة الجديدة بالتعبير عن نيته في مغادرة الحكومة. هناك طبعا سبب وجيه آخر وهو التراجع الخطير الذي عرفته الحريات الفردية والديمقراطية على عهد حكومة العثماني والتي عبّر الحزب عن قلقه بإلحاح اتجاهها وليس فقط بالكلام. فإسماعيل العلوي الأمين العام السابق للتقدم والاشتراكية كان من أبرز الشخصيات السياسية التي ساندت الصحافي توفيق بوعشرين في محنته كما طالب بإطلاق سراحه. التقدم والاشتراكية كان قد عبر كذلك في صيف سنة 2018 عن عدم موافقته على قساوة الأحكام ضد معتقلي الريف. قيادة الحزب وجدت نفسها محرجة جدا أمام مثقفيه ومناضليه بالمجتمع المدني وهم الذين يشكلون قوة الحزب الحيوية وليس الأعيان الدخلاء على تنظيماته منذ ولوجه تدبير الشأن العام. هؤلاء الأخيرين دافعوا بطريقة منتظمة عن بقاء الحزب داخل القفص الذهبي للحكومة أما النشطاء التقدميون والذين لم يستفد عدد كبير منهم من مشاركة الحزب المحدودة بالحكومات، فقد ضغطوا بعد عزل بنكيران من رئاسة الحكومة وظهور سرابية «النفس الديمقراطي» وتراجع الحريات الشخصية من أجل مغادرة السفينة التي لم يبق للحزب أي منفعة أو تأثير في توجهاتها.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: