«إصلاح قانون الأسرة» للألمانية دورته إنجلكه: شبه السلطوية والتغيير في الأردن والمغرب

لطالما اجتذبت البنية والنصوص القانونية المتعلقة بمسائل الأحوال الشخصية الاهتمام الأكاديمي، واعتبرتها المؤسسات الدولية والمنظمات النسوية، معيارا لمدى التقدم في أجندة المساواة الجندرية وحقوق المرأة، وأداة لتحقيقه عبر الهندسة القانونية للعلاقات المجتمعية والأسرية. وفي الأغلب يخضع البحث الأكاديمي في المجال لعدد من الثنائيات الراسخة: الدولة/المجتمع، والتقدمي/الرجعي، والشريعة/ القانون الوضعي، جميعها في سياق تصور عن صراع دائر بين الإسلاميين والمحافظين من جانب والعلمانيين والحركات النسوية من جانب آخر.
في كتابها «إصلاح قانون الأسرة: التغيير الاجتماعي والسياسي في الأردن والمغرب»، تفكك الباحثة الألمانية دورته إنجلكه، تلك الثنائيات وترفضها، متجاوزة المنظور الجندري المعني بتحليل النصوص القانونية، أو مقارنة النص بالتطبيق. تتناول الدراسة قانون الأسرة الجديد الذي صدر في المغرب عام 2004 وتقارنه بالقانون المماثل الذي أصدره الأردن عام 2010، عبر تحليل عملية الإصلاح القانوني، والأدوار المختلفة التي يلعبها أطراف العملية، والسياق السياسي شبة – السلطوي والاجتماعي لها في كلا البلدين. وبذلك تسعى إينغيلك لسد نقص في اهتمام دراسات السلطوية بقوانين الأسرة، والتعامل مع خلل في دراسات الإصلاح القانوني غير المعنية عادة بمفهوم السلطوية. وفي ذلك السياق لا تفترض الدراسة أن الإصلاح يهدف للوصول بشكل خطي وتدريجي إلى المساواة الكاملة بين الجنسين، بل تنظر له بوصفه العملية التي يتم عبرها التفاوض على الحقوق والواجبات وعلاقات القوة، بغية إعادة تشكيلها أو ترسيخها، فالإصلاح ليس بالضرورة عملية راديكالية لتغيير الوضع القائم، بل على الأغلب هو انفتاح تكتيكي يهدف للحفاظ عليه لأطول وقت ممكن.

تتجاوز الدراسة المفاهيم «المابعد كولونيالية»، فالدور الاستعماري في كلا البلدين لا يبدو واحدا، ولا نتائجه أيضا، بل حتى في البلد الواحد يبدو متناقضا في أحيانا كثيرة.

ينطلق الكتاب من فحص التأثير الاستعماري ومرحلة تأسيس الدولة الوطنية بعد الاستقلال، على البنية القانونية في البلدين. ولا تكتفي إنجلكه بتعيين الفوارق التاريخية بين كل من الأردن الذي خضع للقوانين العثمانية، ولاحقا لإدارة الانتداب البريطاني الضعيفة، مقابل المغرب الذي لعبت فيه الإدارة الاستعمارية الفرنسية دورا أكثر عمقا في مجال قوانين الأسرة، بل تذهب لزعزعة مفهوم الاستعماري، كوحدة متجانسة.
تتجاوز الدراسة المفاهيم «المابعد كولونيالية»، فالدور الاستعماري في كلا البلدين لا يبدو واحدا، ولا نتائجه أيضا، بل حتى في البلد الواحد يبدو متناقضا في أحيانا كثيرة. ففي الأردن قامت قوانين الأسرة تحت الحماية بترسيخ الفواصل بين الطوائف الدينية، ومنحتها استقلالا قضائيا، ما عزز النظر لقوانين الأحوال الشخصية بوصفها مسألة «دينية». في المقابل عملت الإدارة الفرنسية على مركزة السلطة عبر توحيد البني القانونية المتعددة في المغرب، لكن وفي الوقت ذاته فإن قانون «البربر» المنفصل عام 1930، كان قد دفع لبلورة حركة وطنية مناهضة للاستعمار، تسعى لاستعادة السكان الأمازيغ في الجسد الوطني، وتحت مظلة القانون «الإسلامي»، انتهي ذلك بإضفاء صبغة وطنية على توحيد قوانين الأسرة، سيبدو أكثر وضوحا بعد الاستقلال.
وكما تقوم إنجلكه بعملية تأريخ لموضوعها، فإنها تنظر في البنية المؤسسية القائمة وتأثير القانون الدولي والاتفاقيات الأممية على عملية الإصلاح القانوني في كلا البلدين. فالفارق بين التعدد القانوني في الأردن، الذي يفصل بين القانون المدني والشرعي والكنسي، مقابل القانون المدني الموحد في المغرب، لعب دورا رئيسيا في تعيين حدود مجال الإصلاح القانوني ولاعبيه الرئيسيين، ومرجعياته أيضا. أما في ما يخص اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (السيداو) التي دفعت كلا البلدين نحو التغيير المؤسسي، ووضعت أجندة التغيير، وعملت على تجييش اللاعبين المحليين، فإن ردود الأفعال تجاهها ومدى التفاعل معها لا يرجع إلى فوارق أيديولوجية، بل إن تولي العاهل المغربي بنفسه وبشكل علني قيادة عملية الإصلاح القانوني، مقابل غياب المؤسسة الملكية في الأردن عن تلك العملية، وكذلك استقلال القضاء الشرعي هناك، هو ما قاد إلى نتائج متباينة.
تذهب الدراسة إلى أن غياب الدور الملكي في عملية إصلاح قانون الأسرة في الأردن يعد دليلا على أنه في النظم شبة السلطوية، لا تأتي عمليات التغيير من أعلى دائما، وكذا فإن نتائجها ليست محسومة من البداية. وهكذا فإن العامل الأهم والحاسم في تعيين حدود عملية التغيير ومرجعياتها في الأردن كان في وضعها في يد «دائرة قاضي القضاة»، بوصفها مسألة شرعية، ذات مرجعية دينية. ودفع ذلك الجمعيات النسوية إلى طرح مطالباتهم من داخل البنية الأبوية والدينية القائمة، ودعمها بآراء فقهية. وفي النهاية لم تتغير العلاقات الجندرية في القانون الجديد بشكل جذري، بل تمت إعادة تنظيم البنية الأبوية وعلاقاتها، وتقويتها عبر منحها مظهرا حديثا.

تنجح الدراسة في عرض الطريقة التي تمت بها عملية إصلاح قانون الأسرة في الأردن والمغرب، والاختلافات في مضمونهما، والطرق التي تمت بها وتطبيقها

أما في المغرب، فإن إنجلكه ترى عملية إصلاح قانون الأسرة في سياق سعي الملك لفرضه هيمنته على المؤسسة الدينية في البلاد، بعد هجمات «الدار البيضاء» الإرهابية عام 2003. وفي ما يبدو إن الإسلاميين خسروا كل معاركهم في الجدل حول القانون، بسبب التدخل الملكي الحاسم، فإن الدراسة تؤكد على أن العملية لم تكن ببساطة صراعا بين الإسلاميين والنسويات، بل إن الطرفين اتفقا على كثير من النقاط، وتقاطعت أرضيتهما أحيانا. في النهاية، منح القانون حقوقا للمرأة، لكن بدون تأكيد المساواة الكاملة بين الجنسين، فالهدف المعلن من التعديلات، كان الرغبة في التجانس والاستقرار الأسري، لا المساواة. وكذلك احتفظ القانون المغربي بمرجعيته الدينية، فكل التعديلات تم تعزيزها باجتهادات فقهية.
يخلص الكتاب إلى أن عملية الإصلاح القانوني في البلدين قادت لسيطرة أكبر للدولة على الحياة الخاصة للمواطنين، وفرض ولاية أوسع للقانون على المجال الأسرى والخاص، لكن التطبيق واجه معضلات متعددة، ولم يأت بالنتائج المرجوة، فمؤسسات الدولة لا تسلك بالضرورة كوحدة متجانسة، أما بيروقراطية «مستوى الشارع» فتتباين في تفسيرها القانون. يثبت ذلك ما ذهبت إليه إنجلكه في مقدمة كتابها، حين رفضت ثنائية الدولة والمجتمع، ووظفت بدلا منها مفهوم «الدولة في المجتمع»، والذي حسبه تظل الحدود بين الاثنين مائعة، فتطبيق القوانين يتطلب تعاونا بين مؤسسات الدولة بمستوياتها المختلفة، والمجتمع والفاعلين غير الحكوميين، في سياق تتعايش خلاله القوانين الجديدة أحيانا كثيرة مع القيم والقواعد المجتمعية الأقدم.
تنجح الدراسة في عرض الطريقة التي تمت بها عملية إصلاح قانون الأسرة في كلا البلدين، والاختلافات في مضمونهما، والطرق التي تمت بها وتطبيقها، لكن الأهم فإنها تطرح محاولة موفقة إلى حد بعيد لفهم علاقات الدولة والمجتمع في نظام شبة سلطوي، وتحليل استراتيجيات الحكم والأدوار المختلفة التي يلعبها أطراف عملية الإصلاح والتغيير، في سياق معقد تتقاطع فيه السياسة والدين والقانون.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: