“ترفيه” السعودية في فضاء المغرب… وليلة سقوط “الأم المثالية” في مصر!

عشنا، حتى رأينا الدولة التي كانت تصنع “التشدد” وتصدّره، صارت اليوم توزّع “الترفيه” وترعاه وتدعّمه، ليس في بلادها فقط، وإنما أيضا في بلدان أخرى منها المغرب العربي.
لسنوات طويلة، عانى المغرب  ـ بمعية باقي أشقائه في شمال إفريقيا ـ من قنوات تلفزيونية آتية من الشرق، تروّج “للوهابية” وللأفكار المتطرفة، من خلال برامجها ودعاتها؛ وقد تأثرت فئات واسعة من الشباب بأفكار مَن كانوا يدّعون أنهم يمثّـلون الفهم الصحيح للدين الإسلامي. ونتجت عن ذلك ويلات كثيرة ما زالت بلداننا المغاربية (بل وأقطار أخرى عديدة) تعاني منها لحد الآن.
وكمَن أفاق من سبات عميق، اكتشف أهل الحل والعقد في “بلاد الحرمين الشريفين” الوصفة السحرية لتجسيد التحوّل الشامل بمائة وثمانين درجة، من خلال شعار “الترفيه”، وفق فهمهم الخاص لهذا الشعار، وفوجئ المواطنون هناك بهذا “التسونامي” الترفيهي الذي كسّر عاداتهم وغيّر حياتهم رأسا على عقب، فما كان بالأمس مُحرّما وممنوعا، صار اليوم مُباحا ومرغوبا فيه. فلا غرابة أن قامت هيئة أُطلق عليها “الهيئة العامة للترفيه” على أنقاض “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” غير المأسوف على رحيلها.
عجبًا لدولة تفرض على الناس أسلوب الحياة، وفق إرادتها هي لا إرادتهم؟ فبالأمس كانت تُرغمهم ـ مثلا ـ على الممارسة الدينية بالقوة (متناسية أن “ألا إكراه في الدين”، كما جاء في القرآن الكريم). واليوم، تعتقلهم إنْ هم انتقدوا توجهاتها السياسية. ولمّا صدح داعية سعودي، اسمه الشيخ عمر المقبل، بإبداء رأيه في الفهم الخاص للترفيه كما يطرحه الحكام الجدد، كان مصيره السجن. لا لشيء سوى لأنه قال “لسنا ضد الترفيه بل مَعه إذا كان ضمن الضوابط الشرعية. نحن ضدّ سلخ المجتمع عن هويته، وضدّ ذبح الحياء باسم الترفيه”!

سياسة الإلهاء!

خلال الأيام القليلة الماضية، أقامت السعودية الزفّة بمناسبة إطلاق قناة تلفزيونية جديدة موجهة إلى البلدان المغاربية؛ هذه القناة رقم جديد ضمن أرقام “أم بي سي”، وذلك بعد “أم بي سي مصر” و”أم بي سي العراق” وغيرها من “الإمبيسيات” من واحد حتى أربعة.
والظاهر أن اختيار هذه الظرفية غير بريء بالنسبة للقائمين على تلك الشبكة، ذلك أن الاختيار يندرج ضمن “سياسة الإلهاء” الموجهة للمواطن المغاربي، فالمغرب يشهد احتقانا اجتماعيا متزايدا بسبب فشل الحكومة في الاستجابة لانتظارات المواطنين في الصحة والتعليم والعيش الكريم، والجزائر تعيش حراكا مستمرا رافضا لهيمنة العسكر على المشهد السياسي، وتونس تمر بمخاض ديمقراطي دقيق لا يقبل أي تراجعات أو إملاءات خارجية، وليبيا تعيش تجاذبات بين موازين القوى المحلية والأجنبية، وموريتانيا منشغلة بأسئلة التحديث والعصرنة والتنمية.
لذلك، يبدو أن طموح “أم بي سي 5” هو صرف الإنسان المغاربي عن قضاياه المعيشية، من خلال الترفيه، وكأن قنواته التلفزيونية المحلية لا تقدّم القدر الكافي من جرعات الترفيه هاته.
ومن المعروف أن الترفيه يكون عادة جزءًا من الرفاه الاجتماعي والاقتصادي الذي ينبغي توفيره للمواطن، علاوة على السلم الاجتماعي والحريات الأساسية.
وكيف جاز للشبكة التلفزيونية السعودية أن تراهن على الترفيه، والعالم كله لم ينس بعد حادث اغتيال الكاتب والإعلامي السعودي جمال خاشقجي؟
كما أنه لن ينسى أن في سجون السعودية يقبع دعاة وكتاب وصحافيون وحقوقيون، لا لشيء سوى لكونهم عبّروا عن آراء مغايرة للأسطوانة الرسمية.
الفائدة الوحيدة التي ستُجنى من وراء “أم بي سي 5″، هي فقط للفنانين المغاربة الذين تبثّ القناة مسلسلاتهم وأفلامهم وبرامجهم ومسرحياتهم. هنيئًا مريئًا لهم. لعلّ في ذلك متنفّسًا لسوق العمل الفني في المغرب الذي يشكو من الركود!

لسان فيفي عبده!

وإذا كان مفهوما ومستساغا استقدام ذلك الجيش العرمرم من الفنانين المغاربة وبعض أشقائهم من بلدان أخرى كالشاب خالد إلى القناة السعودية الجديدة، فإنه من المستغرب حقا إقحام سيدة “رقّاها” عبد الفتاح السيسي (من الترقية وليس من الرقية الشرعية) إلى مرتبة الأم المثالية في مصر. إنها الراقصة فيفي عبده التي أُسند إليها تقديم برنامج أطلق عليه “خللي بالك من فيفي”.
لكن فيفي قامت بحملة دعائية عكسية، منذ بضعة أيام، لا شك في أنها ستؤثر سلبا عليها وعلى برنامجها وعلاقتها بالمُشاهدين المغاربيين الذين تُراهن عليهم “إم بي سي 5″، كما أن تلك الحملة ستؤدي ـ بدون شك ـ إلى سقوط صفة “المثالية” من اللقب الذي تكرم به عليها زعيم الانقلابيين في أرض الكنانة.
وسبب ذلك أنها نشرت “فيديو” لا يخلو من تملق ومداهنة لعبد الفتاح السيسي، وكأنها مكلفة بمهمة تلميع صورته التي لم تعد تنفع معها مساحيق التجميل الفنية والإعلامية وغيرها.
أكثر من ذلك، أن فيفي عبده غرفت من قاموس السباب الأكثر انحطاطا وقذارة وغوغائية، وحاولت توجيهه إلى أحرار مصر الحالمين بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
ومن ثم، وجدت من الإعلاميين الشرفاء مَن يقف لها بالمرصاد، إذ لم يستبعد أن يكون واحد من المقربين للسيسي قد أيقظها من النوم، بواسطة الهاتف، وأشبعها شتما، لكونها تأخرت في أداء المهمة الموكولة إليها (على غرار فنانين تابعين للنظام العسكري)، فربطت منديلا حول رأسها، ووضعت نظارتين سوداوين، ثم شرعت وهي جالسة على سريرها في تسجيل فيديو الانحطاط الذي صار اليوم وثيقة تؤرخ ـ بالصوت والصورة ـ لليلة السقوط المدوي لسيدة مصر “المثالية”!
ولم تعلم فيفي عبده أنها بهذا الصنيع أساءت لنفسها أولا، ولجيش مصر العظيم الذي تزعم الدفاع عنه. كما أنها وهي تقوم بخطاب التعريض ـ بالوكالة ـ ضد أحرار بلاد الكنانة، تقدّم لهم خدمة إضافية، إذ تكسبهم مزيدا من التعاطف الشعبي. لسبب أساس: أنهم على حق. وقديما قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: “حين سكت أهل الحق عن الباطل. ظن أهل الباطل أنهم على حق”.

أبواق النظام!

أخطر شيء على الحاكم ـ أي حاكم ـ هو أن يحيط به المنافقون المدّاحون الهتافون الذين يزينون له القبح ويرتقون بأخطائه إلى مصاف المنجزات والبطولات. إنهم أشد خطرا من معارضيه أصحاب الخطاب الواضح الصريح.
ذلك ديدن عبد الفتاح السيسي الذي صنعت له حاشيته زمرة ممن يمجدونه أناء الليل وأطراف النهار، وهم ينتمون إلى قبيلة الفنانين والإعلاميين الذين يطلق عليهم في المغرب “كاري حنكو” (أي الشخص الذي يستأجر وجهه مجازًا)، من منطلق الاعتقاد بأنهم يؤثرون في الرأي العام المصري.
فيفي عبده اختارت أداء هذا الدور، على غرار ما يفعل أحمد موسى في قناته التلفزيونية البئيسة. أو بالأحرى إنه لا خيار لهم، فهم مسخّرون لذلك، ما داموا يقتاتون من النظام، ويوفر هذا الأخير غطاء لهم. حتى إذا سقط، صاروا يكيلون له الشتائم، ويتقربون من النظام الجديد مدحا وزلفى.
أين سيضع التاريخ هذا الصنف من البشر؟ الجواب معروف.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: