الإسلاميون المغاربيون: مع من يقفون؟

هل ننظر للنصف الفارغ من الكأس فنقول عنهم إنهم متحالفون مع الظالم، أم نرى نصفها الملآن فنعتبرهم مناصرين على العموم للمظلوم؟ وهل هم بالفعل المدافع الصادق والأمين عن الحق؟ أم أن بعض أفعالهم ومواقفهم تدل على أنهم لا يأبهون كثير لمن يدوسه بالجزمة؟ ثم هل أن قبلتهم مازالت في الشرق أم تراها الآن في الغرب؟
من قبل أن يختار أحد تصنيفا سياسويا ضيقا ويسقطه عليهم، أو يضعهم جميعا في قالب جاهز، أليس حريا بالإسلاميين المغاربيين أنفسهم، أو بطيف منهم بوجه خاص أن يحدد المكان الذي يضع فيه اليوم تلك الحركات والتيارات، ويقرر ما إذا كانت تخدم بالفعل المشروع الإسلامي الذي جاءت لأجله؟ أم أنها صارت تسيء له وتطعنه حتى إن قصدت العكس؟ سيكون من الطبيعي أن نعرف إلى أي صف ينحازون ويميلون بالضبط؟ هل إلى صف السلطة مهما فعلت وارتكبت من جرائم وتجاوزات؟ أم إلى صف الشعوب مهما اختارت وأرادت؟ أم أن الإسلاميين في تونس والجزائر والمغرب يفضلون المنطقة الرمادية التي تجعلهم يقفون «بين بين»، ويريدون كسب الشيء ونقيضه معا، من دون أن يعلنوا بشكل واضح وصريح مع من يقفون وإلى أي جهة ينتسبون؟ لا شك بأن الحسم ليس سهلا، فهم يمشون فوق رمال متحركة ويعيشون مثل باقي الإسلاميين في محيط محلي وإقليمي، وربما حتى دولي معاد وضاغط. ولكن هل يعني انحناءهم مرات للعواصف العاتية، أنهم سيظلون إلى يوم يبعثون في وضع الانحناء الدائم، والتسليم المستمر بالأمر الواقع؟

الإسلاميون المغاربيون باتوا بين مطرقة الشعوب وسندان الحكام، فلا الشعوب ترى فيهم المدافع عن حقوقها، ولا الأنظمة تعتبرهم الضامن لاستمرارها وبقائها

قطعا سيكون من الإجحاف أن نطلق عليهم حكما عاما ونضعهم جميعا وعلى اختلاف تجاربهم وظروفهم في سلة واحدة، لكن ما يراه المراقب للحركات والتيارات الإسلامية، التي انخرطت اليوم في الشأن العام في الدول المغاربية الثلاث على الأقل، هي أنها باتت تشترك تقريبا في المعضلة نفسها، وهي ابتعادها عن أن تكون كما كانت في زمن سابق، تنظيمات ريادية تحمل مشعل الدين والأخلاق، وتنتصر بقوة للطبقات الضعيفة والمحرومة بوجه خاص. إنها وبقطع النظر عما حققته وتحققه من اكتساحات انتخابية مهمة في تونس والمغرب مثلا، لم تعد مطمئنة إلى قدرتها على التأثير في شرائح واسعة من الناس، لم تعد ترى فيها من «يخاف الله» وينتصر للمظلومين والمستضعفين، بقدر ما صارت تعتبرها أحزابا، لا هم لها إلا اقتسام جزء من الغنيمة الانتخابية. وبالمقابل فإن السلطة لم تعط الدليل بعد على أنها صارت تعتبرهم بالفعل جزءا راسخا من منظومة حكمها، أو أنها تستجيب لهم، أو تعمل ببعض أفكارهم أو آرائهم أو حتى تأخذها بعين الاعتبار عند رسم السياسات والقرارات، أليس ذلك هو ما يلوح جليا في تجربتي حزب النهضة في تونس والعدالة والتنمية في المغرب؟ إن ما يحسب لتلك الحركات هو أنها لم ترفع السلاح يوما في وجه حكومات نكّلت بها، وضيقت عليها وسجنت الآلاف من أبنائها وشردتهم لعقود. ولم تكن القنابل والمتفجرات لغتها أو أسلوبها، بقدر ما كان تصميمها على الحفاظ حتى في أشد الأوقات وأصعبها على خيار السلمية والمعارضة المدنية للأنظمة القمعية شديدا وقاطعا. لكنها وجدت نفسها في مراحل اختلفت باختلاف الظرف، تتصالح مع الحكام، أو مع المنظومات القديمة التي تركها هؤلاء لتصبح بالاخير جزءا منها. والنتيجة هي أن صورتها اهتزت وتشوشت وتلوثت أيضا، وصارت في أحيان كثيرة تتطابق في أذهان الرأي العام المغاربي، وإلى حد كبير مع تلك الصورة القاتمة التي يحملها عن أنظمته المهترئة والقمعية والمضادة لإرادته الشعبية، لكن من كان المتسبب الفعلي في ذلك؟ هل كان فقط ذلك الإعلام الخبيث، والتقاء اعداء الداخل والخارج عليها؟ أم أنها خذلت نفسها بنفسها، ولم تعرف أن اقترابها الزائد من الأنظمة والحكومات سوف يقودها عاجلا أم آجلا للمحرقة؟
لقد ظل سطوع نجمها قبل نحو عشر سنوات من الآن، ثم خفوته النسبي يطرحان أكثر من سؤال، فهل حصل ذلك لأن تلك الأنظمة عرفت كيف تستميلها إليها وتستقطبها، ونجحت في ترويضها وإفراغ دعوتها من كل نفس إصلاحي تحت مسمى المصلحة العليا للدولة، وجعلت أفرادها وقياداتها كائنات منقادة لا تعرف إلا السمع والطاعة، ومباركة القرارات خاطئة أو صائبة، ولم يعد بمقدورها النقد والتوجيه والتصويب لشركائها أو حلفائها في الحكم؟ أم أنها وجدت نفسها عاجزة عن الإصلاح والتغيير من الداخل، وأدركت بعد أن اقتربت من مواقع القرار، سواء في البرلمانات أو في الحكومات، إن المهمة لم تكن باليسيرة والسهلة، مثلما توقعت أو انتظرت، أيام كانت خارج تلك الدوائر وباتت بذلك مثل الرهينة المحاصرة، التي لا حول لها ولا قوة، لا تملك القدرة على تغيير مصيرها والتراجع والقطيعة مجددا مع الواقع الذي وجدته؟ إن ما يجري من الرباط إلى تونس مرورا بالجزائر، أن الإسلاميين المغاربيين باتوا بين مطرقة الشعوب وسندان الحكام، فلا الشعوب ترى فيهم المدافع عن حقوقها، ولا الأنظمة تعتبرهم الضامن لاستمرارها وبقائها. ولعل تلك الحالة صارت تتطلب منهم، وربما أكثر من أي وقت مضى أن يعرفوا ما الذي يريدونه بالضبط، ويدركوا أن كسب الشعوب لن يكون ممكنا، بمجرد رفع شعارات الدفاع عن الهوية العربية والإسلامية أو إظهار الاستعداد للذود عنها، مثلما أن انتظار كسب ثقة الحكام ورضاهم لن يكون سوى حرث في البحر. ولا شك أن تقلص حضورهم وبشكل ملحوظ داخل ما كان في السابق مصدر قوتهم، أي الشارع، وتحولهم بنظر كثيرين إلى جزء من منظومات الحكم الفاسدة والمستبدة، يستدعي منهم الكثير من المراجعات السريعة. فلئن كان مفهوما مثلا أن ينأووا بانفسهم عن تصدر الحراك الجزائري، حتى لا يسقط ذلك الحراك في فخ التجاذبات الأيديولوجية، فإنه ليس من المؤكد حتى الآن انهم لن يكونوا هم ايضا على اعتبار مشاركتهم ولو كمعارضين في برلمان بوتفليقة، جزءا من الماضي الذي يرغب الجزائريون في طيه والتخلص منه. والثابت أن مشكلة ترتيب الأولويات أو الخيارات باتت تدق الآن بقوة على أبواب الاسلاميين المغاربيين، وصار المأزق الماثل أمامهم معلوما، وهو أن كل تجاربهم في الحكم أو حوله وعلى اختلافها وتنوعها، وصلت وبالشكل الذي هي عليه الآن إلى حدها الاقصى، ولم يعد مسموحا أو ممكنا لها أن تتطور في الافق القريب على الاقل إلى ما أبعد منه. ولن يكون الحل في المعاندة والإصرار على الاستمرار، مثلما لن يفيد أو ينفع القطع الكامل، لكن هل سيكون مسك العصا من الوسط ومواصلة البقاء في المنطقة الرمادية هو الحل الوحيد أمامهم؟ وحتى إن فعلوا ذلك فهل ستمهلهم الشعوب غدا وتعذرهم حين ترى نصف الكأس الفارغ ونصفه الملآن؟ ما يحدث في اكثر من عاصمة مغاربية يدل على أن ذلك سيكون مستبعدا جدا أن لم يكن مستحيلا بالمرة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: