في الأبعاد الدولية للحراك الجزائري

الدراسات التي قمت بها لعالم الشغل والحركات النقابية اقنعتني بفكرة يمكن تلخيصها بالشكل التالي، منطق الحراك الاجتماعي والسياسي في الجزائر في علاقاته بمحيط الجيو- سياسي القريب، يشبه إلى حد كبير منطق الحركة المطلبية لعمال المناجم، الذين تميزوا على الدوام باستقلالية واضحة في الإعلان عن حركاتهم الاحتجاجية، قد لا تتوافق بالضرورة مع الاتجاه العام للحركة العمالية ككل. فقد يخرج عمال المناجم إلى المطالبة عندما تكون الحركة العمالية ككل هادئة، بل في حالة ضعف، وقد يرفض عمال المناجم مسايرة الحركة العمالية، ككل عندما تكون في حالة صعود. لأسباب متعلقة أساسا بتاريخهم المطلبي وظروف عملهم وثقافتهم السياسية.
هذا بالضبط ما ميز الحراك الاجتماعي والسياسي للجزائر على الدوام، فالجزائريون من وجهة النظر هذه هم «منجميو العالم العربي»، فقد انطلقت أحداث أكتوبر1988 في وقت كانت فيه المنطقة المغاربية والعربية تعيش حالة هدوء كبيرة. ورفض الجزائريون السير في اتجاه الربيع العربي، سنوات بعد ذلك عندما تحركت جل المنطقة العربية، بداية من تونس القريبة، بالطبع لهذا «التميز» كلفة سياسية لا بد من دفعها، خصوصية بل وتميز لابد من إيجاد تفسير له، لفهم أسبابه العميقة وتداعياتها الأكيدة.
انطلاق الحراك في الجزائر منذ 2019 يمكن ان يكون شاهدا آخر على هذه الخصوصية التي تميز الحالة الجزائرية التي ستكون نقطة انطلاقنا لمناقشة الأبعاد الدولية للحراك الذي تعيشه الجزائر، منذ سبعة أشهر تقريبا. للقول في البداية إن العامل الخارجي ضعيف الحضور في يوميات حراك الجزائريين. هم الذين تميزوا عادة بثقافة سياسية لا تولي أهمية كبيرة للأبعاد الدولية، إذا استثنينا ذلك التوجس المرضي من العلاقة مع فرنسا، واستعمالاته الداخلية التي تعبر عن نفسها بالمبالغة في الحديث عن «حزب فرنسا» تحول مع الوقت إلى بعبع مخيف ضمن الثقافة المؤامراتية السائدة. ناهيك من بعض الإشارات الخفيفة إلى دور يمكن أن يكون للإمارات العربية وبعض «الأيادي الأجنبية» الأخرى، كجزء من الثورة المضادة التي تقودها هذه الدولة.
علما بأن النظام السياسي هو الذي استدعى العامل الخارجي المرفوض شعبيا، كجزء من التخبط السياسي الذي يعيشه، كما برز ذلك جليا في اللقاء الأخير للسفير الروسي مع الأمين العام لحزب جبهة التحرير، او عند الزيارة المشؤومة التي قام بها لعمامرة وزير الخارجية إلى موسكو وبكين وبعض الدول الغربية في نهاية حكم الرئيس المخلوع، فهمها الجزائريون كإقحام للبعد الدولي في قضايا داخلية.

ليس من مصلحة دول الجوار ولا المحيط الإقليمي المتوسطي فشل الجزائر في تنظيم أمورها الداخلية عن طريق انتخابات رئاسية ناجحة ولو جزئيا

السيناريو القريب نفسه، يمكن أن يحصل هذه الأيام، والجزائر تعيش محطة حساسة من تاريخها السياسي، بعد خطاب قائد الأركان الذي دعا فيه الى «تحبيذه» دعوة الهيئة الناخبة قبل 15 من الشهر الجاري، لما للانتخابات الرئاسية من أهمية قصوى داخل نظام سياسي، تبقى فيه المؤسسة السياسية الأولى، رئيس الجمهورية كشخص ومنصب، على حساب المؤسسات الأخرى. وهو ما تعرفه الأطراف الدولية وتتعامل به على هذا الأساس، كنقطة ضعف وابتزاز، لم يكن ممكنا في حالة إنتاج الانتخابات المقبلة لرئيس قوي بشرعية شعبية.
لنكون أمام مفارقة مهمة، القيادات العسكرية المنشقة التي كان من مصلحتها حتى الشخصية، رفض التدخل الأجنبي، هي التي قد تكون سببا مباشرا لفتح الباب أمام هذا التدخل في الآونة الأخيرة، بعد «هروب» الكثير من قياداتها العسكرية وعلى رأسهم وزير الدفاع الأسبق خالد نزار إلى بعض دول غرب أوروبا، بالإضافة إلى بعض الوجوه السياسية المتابعة قضائيا. وضع قد يكون المدخل إلى تدويل الشأن الداخلي الجزائري في هذا الوقت الحساس المرتبط بالانتخابات الرئاسية، بكل ما تحمله من استقطابات، نتيجة عدم التوافق حول تاريخها وشروطها في وقت يعرف فيه الحراك صعودا كبيرا بعد الدخول الاجتماعي، مقابل تسارع الدعوة إلى تطبيق خطة النظام للذهاب نحو انتخابات لا تلقى حتى الآن قبولا من قبل الحراك الشعبي.
محطة مهمة قد تعرف صراعات لا تراعي الثقافة السياسية التي ميزت على الدوام الحالة الجزائرية، عبر إقحام بعض الملفات الحساسة التي يمكن أن تخرج إلى العلن بمناسبة هذه الصراعات السياسية، التي تأخذ منحى ذاتيا في بعض الأحيان، بين أبناء القيادة العسكرية والنخبة السياسية نفسها، بأبعادها المالية المرتبطة بالفساد، يمكن أن تكون مدخلا قد يعيد الجزائر الى مربع بداية التسعينيات، بكل ما ارتبطت به هذه الفترة من ويلات وتجاوزات من كل نوع، نجح البلد في تجاوزها بصعوبة.
ملفات لم ينسها تماما الكثير من الأطراف الدولية والإقليمية، قد تكون إعادة فتحها فرصة لاختراق الحالة الجزائرية التي بقيت عصية عليها حتى الان. مقارنة بالحالة العربية العامة التي تحولت إلى مرتع للتدخل الأجنبي من كل نوع.
علما بأنه، عكس ما تروج له الثقافة المؤامراتية، ليس من مصلحة دول الجوار ولا المحيط الإقليمي المتوسطي أن تفشل الجزائر في تنظيم امورها الداخلية عن طريق انتخابات رئاسية ناجحة ولو جزئيا، تعيد الاستقرار إلى هذا البلد القارة صاحب المكانة الجيو ـ استراتيجية الأكثر من مهمة.
فدول الجوار المباشر من مصلحتها استقرار الأوضاع السياسية في الجزائر، حتى لو كان المطلوب ليس نجاحا كليا، يمكن ان يهدد الأوضاع في بعض البلدان القريبة ويحول الحالة الجزائرية إلى نموذج ناجح لدى شعوبها، التي تتابع الأوضاع الجزائرية عن كثب. كما هو حال النخبة السياسية المغربية، التي تعرف تنافسا كبيرا وتاريخيا بينها وبين مثيلتها في الجزائر، تنافس ليس حاضرا بالقوة نفسها في الحالتين الليبية ولا التونسية، التي يمكن أن تكون من الحالات الوطنية المستفيدة كليا من أي نجاح تحققه الحالة الجزائرية. وبالتالي فنصف نجاح للجزائر قد يكون الحالة المثلى المحبذة من قبل دول المحيط المباشر، ودول الإقليم لكن الأكيد ليس الفشل الكلي بكل تأكيد، بكل تبعاته الخطيرة على استقرار شبه القارة المغاربية ومحيطها المتوسطي المباشر. على خلاف موقف الشعوب التي من مصلحتها نجاح الحالة الجزائرية التي تدعمها، بما أوتيت من قوة معنوية، في السر والعلانية.
نجاح يبقى مرهونا بمدى قدرة الجزائريين كحراك شعبي ونخب سياسية رسمية وشعبية في التوافق على تنظيم انتخابات رئاسية ذات مصداقية وقبول شعبي. تدعم هذه الثقافة السياسية السائد الرافضة لكل أنواع التدخل الأجنبي التي ميزت البلد كثقافة مشتركة لشعب المنجميين هذا الذي يصعب التكهن بخرجاته.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: