فؤاد بلامين رسام تجريدي مغربي يقف عند لحظة الفجيعة

سيكون من الصعب الحكم على أي فنان بأنه فنان من غير قضية. ولكن ما معنى أن تكون للفنان قضية؟ هنا يبدأ الاختلاف ما بين دعاة الالتزام العقائدي وبين الناجين من التلوث الحزبي ممن أدركوا أن الحقيقة كلها تكمن في جوهر الفن وليس في موضوعاته.

يقترب المغربي فؤاد بلامين من خلال تجريديته من لحظة التصريح بأن فنه لا يرى من حضور الإنسان الواقعي إلا لحظة الألم التي هي أكثر اللحظات التعبيرية تمنعا على الوصف كما أنها الباب الذي ينفتح على عزلة مطلقة هي نوع من ذلك الجمال السري الذي لا يُحتمل.

يمرر بلامين حقائق كثيرة عن الإنسان من خلال غيابه كائنا مرئيا. “ليس كل ما يُرى يُرسم” تلك حقيقة تقابلها حقيقة أن ليس كل ما لا يُرى هو عصي على الرسم. على الأقل في ظل التقنيات الحديثة التي سبقها الرسم إلى هدفه. رؤية ما لا يُرى باعتباره موضوعا.

رسام الأثر العابر

العنف تعلم منه بلامين ما تعلمه من الهدوء، فلم يعد ابنا لمدرسة باريس التي تركها وراءه

يركز البعض على العمارة باعتبارها مصدر إلهام خطي تنطلق من خلاله حساسية الفنان لا من أجل الوصول إلى جماليات المكان المندثرة بل إلى سعادة النظر المفقودة. تلك حيلة أفرغ من خلالها ابن فاس محتويات ذاكرته البصرية. غير أن ذلك لم يكن إلا سلوكا تجميليا لم يشأ الرسام الاستمرار فيه لتعارضه مع رغبته المستمرة في التنقيب داخل السطح، كما لو أنه الجسد الحي الذي يخترقه وصولا إلى لحظة الألم المتأنية.

في واحدة من تجاربه المتأخرة حاول بلامين أن يزاوج بين الصورة الفوتوغرافية والرسم ليثبت أن ما لا يُرى يمكن رؤيته، من خلال اللجوء إلى الفضاء المجرد. تلك محاولة تزاوج بين التذكر والنسيان كما لو أنهما الشيء نفسه.     

رسوم بلامين لا تنهل مادتها من رغبة في الحنين إلى ما لا يمكن تذكره. فالرسم من غير عاطفة يمكنه من الجانب المهمل في النفس البشرية. وبهذا لن يكون الرسم واجهة لشيء سواه.

لا يتكئ بلامين على ذاكرته أو عاطفته بقدر ما يسعى إلى أن يقاومهما بقوة ثقته بالرسم. الرسم باعتباره حدثا خالصا لا يمكن إلحاقه بالواقع.

يمكن النظر إلى بلامين باعتباره رساما تجريديا يضع الإنسان في مرتبة أعلى من وجوده الواقعي.

بلامين يقترب من خلال تجريديته من لحظة التصريح بأن فنه لا يرى من حضور الإنسان الواقعي إلا لحظة الألم التي هي أكثر اللحظات التعبيرية تمنعا على الوصف

ولد بلامين في فاس عام 1950. ودرس في مدرسة الفنون التطبيقية بالدار البيضاء. أقام أول معارضه الشخصية عام 1972 بالرباط. أقام عشرة أعوام في باريس بدأها بمعرض شخصي عام 1980 بعده انهمك في الدراسة والرسم ليحصل على شهادة الدراسات التطبيقية في التاريخ ونظرية الفن من جامعة السوربون. عاد إلى المغرب عام 1990 ليدرس بالمركز التربوي الجهوي بالرباط.

ينتمي بلامين إلى الجيل الثاني من رسامي الحداثة الفنية في المغرب.

حين ظهوره كان عليه أن يقف أمام حاجز الهوية الذي شيده أبناء الجيل الأول الذين اعتقدوا أنهم من خلال استعمال المواد المحلية والعودة إلى تقاليد وجماليات الفنون اليدوية التي لم تنقطع منذ قرون سيتمكنون من التوصل إلى العناصر الوطنية في إنجازهم الفني، بحيث تقود معاصرتهم إلى ولادة فن حديث بملامح مغربية. ولأن بلامين قد اختبر التجربة بعيدا عن أي نزعة تأصيلية فقد صعق الوسط الفني باعترافه الجريء “ليس هناك فن مغربي بل هناك فنانون مغاربة”، وهو ما حمله معه إلى باريس ليكون ابنا للتجربة الفنية المعاصرة المفتوحة على العالم، من غير أن يحمل معه عقدا فلكلورية، اكتشف في وقت مبكر أنها تلحق الفن بالهامش الثقافي ولا تغنيه في شيء.

صحيح أن بلامين تأثر كثيرا بالصور التي تخزنها ذاكرته البصرية وهي صور فيها الشيء الكثير من الثناء على عناصر العمارة التقليدية كالقبة والقوس والأسقف، غير أنه لم يعول على تلك العناصر في بناء لوحته، بقدر ما اعتبرها جزءا من عالمه الذي يتعرض للمحو.

وإذا كان لا بد من العودة إلى فكرة “الهوية” فإن بلامين لم يتوقف كثيرا أمام شواخص ميتة ولم يتبق شيء من نضارتها بل صار يبحث عما تبقى من أثر، يشير إلى حياة صاخبة. كان في ذلك قريبا من أفكار الرسام العراقي شاكر حسن آل سعيد في بحثه عن الأثر والمحيط.

كانت هويته تتشكل تدريجيا من عناصر تجربته الشخصية في الانتقال ما بين ذاكرته البصرية وما كان يراه من أثر عابر.

من الهدوء إلى العنف

ذاكرته أو عاطفته لا يتكئ بلامين عليهما، بقدر ما يسعى إلى أن يقاومهما بقوة ثقته بالرسم. الرسم باعتباره حدثا خالصا لا يمكن إلحاقه بالواقع

يفاجئك بلامين بسعة عالمه الجمالي، لكي لا أقول تعدد أساليبه عبر أربعة عقود من الرسم. غير أنه وإن كان لا يشبه نفسه دائما فإنه لا يتخلى في كل ما يفعل عن المفاتيح التي تعين متلقي أعماله على الوصول إليه. خبرته في الرسم أهلته للوصول إلى القوانين الكلاسيكية للرسم بالرغم من أن لوحته كانت تجريدية خالصة.

لقد استفاد في ذلك من رسامي مدرسة باريس “بعد الحرب العالمية الثانية” وفي مقدمتهم فوترييه ونيكولاس دو ستايل. إنه يبني مشاهده كما لو أنه يؤسس في الهواء أماكن لا تشبه الأماكن الطبيعية إلا من جهة صلابتها ورسوخها وانسجامها وقوة مقاومتها. يستفز بلامين حدسه ليبقيه يقظا إلى جانب حواسه. هناك عالم جمالي مجاور يتشكل من مواد بصرية هي نوع مزاج تلهمه الطبيعة صرامته.

بلامين رسام لقى بصرية. فهو يهبنا مشاهد ما كان في إمكاننا أن نصل إليها. لا لشيء إلا لأنها من اختراعه. “هل هي كذلك حقا؟”. اعتقد أن التفكير في الرسم باعتباره حلا وجوديا يمكنه أن يفك صلتنا بالعالم الواقعي باعتباره مرجعية بصرية وحيدة. هذا الرسام جرب أن يكون هادئا غير أن العنف الذي يحيط به من كل جانب دفعه إلى أن ينقب في سطوح لوحاته بحثا عن انفجارات متوقعة. وهو ما أدهشه أكثر مما أدهش الآخرين.

يمكن النظر إلى بلامين باعتباره رساما تجريديا يضع الإنسان في مرتبة أعلى من وجوده الواقعي

في معرضه الذي أقامه بالرباط عام 2004 قدم خلاصة ألمه وهو يرى العراق محتلا ومدمرا وممزقا. لم يكن الرسام وحده هناك بل الإنسان الذي فقد القدرة على صياغة مصيره.

وكان لا بد للرسم من أن يجد له موقعا لا في ظل تلك المأساة بل في مواجهتها. وكما أرى فإن بلامين رسم بقوة انفعاله ما كان يحدث على الأرض من غير أن يصور مشاهد الخراب.

لقد أخذه الرسم إلى الوجع. فكان عليه أن يصف ما لا يوصف. يومها اكتشف بلامين أن حزنه الرقيق القديم لم يكن مجرد تعبير عن عاطفة عابرة. كان ذلك الحزن نبوءة لما ستشهده الملايين من البشر. وهو ما دفعه إلى الثقة أكثر بالرسم الذي لا يحل مشكلات الواقع بقدر ما يتصدى لمستقبلها. رسوم بلامين عن العراق بعد احتلاله كانت نبوءة لما شهده من فوضى.

وإذا كان من الصعب أن ترسم وأنت محاصر بالألم فإن بلامين سعى إلى التنقيب في سطوح لوحاته بحثا عن ذلك الألم. كان مقدرا عليه أن يرى الفجيعة كما لو أنها جزء من خياراته الجمالية.

تعلم بلامين من العنف ما تعلمه من الهدوء فلم يعد ابنا لمدرسة باريس التي تركها وراءه. أثره في الرسامين المغاربة الشباب يمكن أن يجسد حالة صحية. ذلك لأنه قدم وصفة لهوية، سيكون الفنانون المغاربة من خلالها مرتاحين لعالميتهم.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: