مكانة المرأة في الإسلام.. مبحث فكري جدالي لا نهاية له

لا يزال مبحث “المرأة في الإسلام” مثيرا للجدل وبامتياز، فرغم كثرة البحوث الفكرية الناقدة لعدة تفسيرات فقهية شرحت وأوّلت مكانة النساء في الإسلام بصفة حرفية جعلتها مكمّلة للرجل لا متساوية معه في الحقوق والواجبات، فإن العديد من المسائل كالمواريث واللباس أو حق المرأة في المشاركة في الحياة العامة لم تحسم بعد بفضل ما تعمّدت إعادة إشاعته أدبيات الإسلام السياسي من تأويلات قرآنية غير مواكبة لتطورات العصر الراهن. وإن تُعد مدونات الكثير من المفكرين من الرجال بالعشرات في هذا الشأن، فإن العقود الأخيرة حملت في طياتها ميلاد الكثير من النساء اللاّتي اخترن التحرر من براثن التفسيرات الفقهية غير المنصفة للمرأة ومنهن الباحثة المغربية أسماء المرابط التي أثرت فيها تجارب خاضتها في دول الغرب، فدوّنت مؤلفات عديدة طرحت فيها القضايا النسائية من خلال إعادة قراءة النصوص الدينية برؤية إصلاحية.

مازال الكثير من المراهنين، على إعادة ترويج أدبيات الإسلام السياسي في المنطقة العربية والإسلامية أو دول الغرب، يتسلحون لدى حديثهم عن مكانة المرأة في الإسلام بالاستناد على تفسيرات فقهية حرفية وردت في عصر مغاير وغير متسق مع ما تفرضه متطلبات العصر الراهن خاصة عند طرح ملفات مجتمعية حارقة ما دفع بالكثير من المفكرين المتنورين إلى معالجاتها.

تنحصر مختلف الموضوعات المثيرة للجدل بخصوص مكانة المرأة في الإسلام خاصة حول ما أشاعته مدونات فقهية بشأن ما يعرف بـ”الآيات القرآنية التمييزية” التي تمنح أفضلية الرجل عن المرأة في مستويات عدة كالميراث أو الدرجة والمكانة في المجتمع وفي الحياة العامة والسياسية.

الوسطية والاعتدال
الوسطية والاعتدال

طرح جديد

في العقود الأخيرة، ظهرت عدة محاولات تفكير قادها ثلة من الباحثين المتنورين، ساعية لوجوب معالجة المشكل وجعل القراءات الفقهية معاصرة ومتطابقة مع تغير الزمن استنادا على مقولة ” القرآن صالح لكل زمان ومكان”. ومن بين من تميزوا في هذا المبحث الفكري الشائك، نجد الباحثة والدكتورة المغربية أسماء المرابط، التي تشتغل منذ سنوات في موضوع “المرأة في الإسلام” من وجهة نظر تحررية أساسها الانطلاق من المرجعية الإسلامية في تناول القضايا النسائية، من خلال إعادة قراءة النصوص الدينية برؤية إصلاحية. لها العديد من المؤلفات منها: “عائشة أو الإسلام المؤنث”. “القرآن والنساء: قراءة للتحرر”. “الإسلام، المرأة والغرب”. “الإسلام والمرأة: الطريق الثالث”. “الإسلام والنساء: الأسئلة المزعجة”.

الطرح الفكري البديل الذي تطرحه الباحثة المغربية، جاء متفاعلا مع محاولات نسوية أو رجالية عربية أخرى، لكنه كان متأثرا أيضا بتجربتها في بلاد الغرب، حيث تعمل أسماء المرابط طبيبة بالمستشفى الجامعي بالرباط منذ سنة 1995 وحتى اليوم، لكنها قضت بالتوازي مع ذلك سنوات من عمرها كطبيبة متطوعة بمستشفيات عامة بإسبانيا وأميركا اللاتينية.

وفي حوار صحفي ، تقول المرابط، ” لقد جاء اهتمامي بمبحث المرأة في الإسلام من خلال حياتي الشخصية؛ حيث إنني عشت في سن المراهقة ما عاشته ولا تزال تعيشه العديد من النساء في العالم العربي؛ وهو نوع من الازدواجية في الفكر والثقافة، التي تدفعنا إلى خيارين اثنين لا ثالث لهما، إما القبول والصبر على التقاليد الذكورية وإما الانسياق مع إغراء التحرر في ظل الحداثة.

وتضيف أن المرأة ترى نفسها في مجتمعاتنا مضطرة لأن تنتقي بين الخضوع للأعراف الاجتماعية باسم الدين أو الخضوع للحداثة المبهمة، مشيرة إلى أنه لا وجود لخيار آخر أمامها وأنه في كلتا الحالتين يبقى في آخر المطاف مفهوم “الخضوع” هو المطلوب بالنسبة للمرأة وأن هذا النوع من الاختيار مازال صعبا، حيث
يجعلنا مضطرين للتخلي إما عن هويتنا وديننا وإما عن الحرية واستقلالية الذات.

وتؤكد أسماء المرابط أنها لم تكن مستعدة لا للتخلي عن دينها ولا للتخلي عن حريتها، وأنها كانت لا تستوعب ولا تفهم لماذا عليها أن تختار ما بينهما؟ ولماذا هناك أصلا تناقض بينهما؟ مؤكدة أنه لم يكن لديها في ذلك الوقت حجج ولم تكن لها إمكانية التعبير عن تلك القناعات أن الإجابة التي وجدتها عند طرح هذه الأسئلة المحرجة في الخطاب الديني أو الحداثي غير مقنعة.

وتقول إنها قررت، منذ 20 عاما تقريبا، البحث في موضوع المرأة لكي تتمكن من فهم وإدراك ما يقوله حقا الوحي والنصوص الدينية وما تم تأويله من منظور بشري وما يقوله الفكر الحداثي أيضا، وهل هنالك حقا تعارض ما بين الدين والحداثة؟

حين تفكر المرأة بمثل هذه الأطروحات، عادة ما يطلق عليها مصطلح “نسوية”، في إشارة إلى اعتناقها لمبادئ تحرير المرأة، لكن البعض من المفكرين المرتدين على هذا المصطلح يعتقدون أن في إطلاقه أصلا منذ البداية توجد نزعة تمييزية تقلل من درجة المرأة مقارنة بالرجل.

أسماء المرابط: لست مستعدة لا للتخلي عن ديني ولا للتخلي عن حريتي، لا أستوعب لماذا عليّ أن أختار بينهما
أسماء المرابط: لست مستعدة لا للتخلي عن ديني ولا للتخلي عن حريتي، لا أستوعب لماذا عليّ أن أختار بينهما

وفي هذا الصدد، تقول أسماء المرابط “لا يمكننا الإجابة عن السؤال المتعلق بمصطلح النسوية دون توضيحه”، لأنه بحسب رأيها مفهوم “ملغوم” وسلبي في غالب الأحيان، والتبس فهمه عند معظم الناس.

وتشدد على أنها لا ترتاح لمصطلح “النسوية”، بقولها “أُفضّل مصطلح نسائي”، كبديل وكمفهوم يرمز إلى حركة نسائية تناضل من أجل الدفاع عن حقوقها، وتؤمن بالمبادئ الكونية الإنسانية كالمساواة في الحقوق والعدل، ورفض التمييز، والكرامة الإنسانية للمرأة.

وتتمسك بأسس كونية تتقاسمها جميع الحركات النسائية في العالم، وعبر التاريخ، وتؤكد “أنا شخصيا أؤمن بها، ولكن لا أؤمن بنموذج ‘نسائي’ موحد أو كوني. فلكل سياق نموذجه ومنهجه الخاص، فبصفتي امرأة مغربية ومسلمة لدي سياقي الخاص، وإيماني بالمبادئ الكونية يكون نابعا من مرجعيتي الثقافية والتاريخية الخاصة، فهي إذن قناعة نسائية بمبادئ كونية ضمن نموذج ثقافي نسائي مرتبط بمرجعيتي الثقافية والدينية التي لها خصوصيتها”.

لقد ظلت مختلف القراءات الفقهية للنص القرآني في علاقة بمكانة المرأة في الإسلام تمييزية وتستند على تأويل الآيات القرآنية بصفة حرفية غير منتهجة لمفهومي الاجتهاد والقياس، لكن الكثير من المفكرين العرب يشددون على أن ما دوّن من تفسيرات تخص تمييز الرجل عن المرأة لم يكن خاضعا إلى منطق مراعاة المقاصد الكبرى للوحي فظلت جل التأويلات ذكورية وتقليدية وحبيسة زمن قد ولى.

وتقول أسماء مرابط، “هناك آيات تبدو وكأنها تمييزية مثل الشهادة، التعدد، الميراث، أو الدرجة، وهذا إذا تمت قراءتها قراءة حرفية، أو تم تأويلها خارج السياق التاريخي، ودون مراعاة للمقاصد الكبرى للوحي. وهذا بالضبط هو ما فعلته التأويلات والتفاسير الذكورية التقليدية التي نزعت بعض المفاهيم من سياقها ومن المنظور الشمولي لرسالة الوحي، وأوّلتها ضمن الإطار المعرفي لذلك الزمان، وحسب البيئة الثقافية والعرف السائد للمفسرين”.

وتؤكد أن الإشكالية لا تكمن أبدا في النصوص بذاتها، ولكن في كيفية مقاربة تلك النصوص، فإذا قمنا بقراءة تلك الآيات حسب المقاربة السياقية والمقاصدية، سنرى بالعكس، أن أغلب تلك الآيات كانت تأخذ بعين الاعتبار مصلحة المرأة وكان مقصدها العدل والإنصاف وتحسين وضعيتها في ذلك الوقت.

تفسيرات حرفية

Thumbnail

حول عدم إنصاف التفسيرات القديمة للمرأة تقدم الباحثة المغربية، طرحا تسنتد فيه إلى البيئة الثقافية والحضارية بقولها “في اعتقادي، يرجع ذلك أولا إلى البيئة الثقافية العامة السائدة آنذاك، والتي في أغلب الأحيان، كانت أبوية، أي تخضع إلى تلك النظرة الدونية للمرأة، والتي نجدها في جميع الديانات والثقافات، وأساسها هو علاقة الهيمنة الذكورية الأزلية”.

وتضيف “ثانيا نرى أن الرسالة الروحية التحررية للإسلام قد تم اختطافها تدريجيا بعد موت النبي (صلى الله عليه وسلم) من لدن الفقه السياسي، حيث تم تدريجيا تغييب مفهوم العدل القرآني كمفهوم كوني يلزم تحقيقه، وتم استبداله بمفهوم الطاعة العمياء للحاكم في الفضاء العام، ومن هنا وقع انزلاق مفهوم الطاعة من الفضاء السياسي العام إلى الفضاء الخاص الأسري، وأصبحت طاعة الزوجة من أركان الإسلام والإيمان، ومن ثم غرست منابع الاستبداد الأسري، لكي تنمي وتحمي الاستبداد السياسي عبر التربية والبيئة الأسرية”.

للتخلّص من كل هذه الأعباء التي خلفتها القراءات والتفسيرات الحرفية المميزة للرجل تختار الباحثة أسماء مرابط، طريقا ثالثا رسمت ملامحه في أهم مؤلفاتها “الإسلام والمرأة / الطريق الثالث”.

وتقول المرابط ، إن الطريق الثالث هو منهج الوسطية والعدل، بين المقاربة “التقليدية”، التي تركن إلى التقليد الأعمى للسلف، دون مراعاة تطور الفكر الإنساني، وترفض أي تجديد، وبين المقاربة التي ترى في الحداثة المنفذ الوحيد لأزمتنا، وتريد إقصاء المرجعية الدينية، معتبرة إياها أساس مشكلتنا وتأخرنا الحضاري.

القراءات الفقهية والتفسيرية للنص القرآني ظلت في علاقة بمكانة المرأة في الإسلام تمييزية وتستند على تأويلات حرفية غير متسقة مع الواقع ومع مفهوم الاجتهاد

وتضيف، أن “الطريق الثالث هو طريق الرؤية الإصلاحية لتراثنا، التي تأخذ بعين الاعتبار لب الرسالة القرآنية وبُعدها الكوني والإنساني، والذي يعتبر إقامة العدل من أهم المبادئ الإسلامية، وأهم مقصد جاء به الوحي. الطريق الثالث هو محاولة الملاءمة – وليس الخضوع – بين تراثنا والمعرفة الإنسانية المعاصرة وكل ما قدمه الفكر العالمي للإنسان. فالمساواة في الحقوق بين النساء والرجال أصبحت اليوم من أسس منظومة حقوق الإنسان، ولا نرى أي تعارض بين المساواة في الحقوق والكرامة ومبادئ الإسلام، طبعا هنا مفهوم المساواة يعني المساواة والعدل في الحقوق والواجبات في نطاق الفطرة التي فطر الله عليها كلا من المرأة والرجل في الخلق”.

لكن بالتوازي مع هذه التصورات التي تتبناها المرابط وغيرها من الباحثين والباحثات، مازالت الكثير من التوجهات الدينية المنحدرة من الإسلام السياسي كجماعة الإخوان أو السلفيين تصر على ترويج خطابات مفادها أنه لا يمكن تحقيق مساواة حقيقية بين المسلمة والمسلم في إطار الدين الإسلامي.

هنا، تشدد المرابط على أن الدين الإسلامي يعطينا إطارا ومنهجا للحياة العادلة والمنصفة والرافضة لأي ظلم أو تمييز ضد أي إنسان كيفما كان امرأة أو رجلا.

Thumbnail

وتؤكد أن “مقياس الأفضلية ليس الذكورة أو المال أو الأصل أو الجاه، بل التقوى والعلم والعمل الصالح. ولهذا فتحقيق المساواة ممكن في ظل الرؤية الإسلامية، والإشكالية لا تكمن في النص، بل في تنزيل هذه المساواة على أرض الواقع، وتجاوز الفكر الذكوري المهيمن الذي اتخذ الدين كذريعة لفرض سلطته على المرأة وعلى كل المستضعفين في الأرض”.

وتستشهد لدى سردها بعض التجارب المستندة إلى المنطق الذكوري بإبراز أن “المرأة تعاني من النظرة الذكورية المتجذرة في الأعراف والذهنيات، والتي تأثر بها مفسرون وفقهاء التراث الديني. وبالتالي تعطلت المساواة بسبب تعطل الإصلاح السياسي والديني والثقافي في مجتمعاتنا. فليست الإشكالية إشكالية مساواة بين الرجل والمرأة لوحدها، لأن المعضلة أكبر وأعقد، فهي متشابكة… وهي قبل كل شيء أزمة مجتمع برمته وفي جميع المجالات. وهي نتاج تراكم للتراجع الحضاري، والفكري، والعلمي، وتعطيل المساواة هو حصيلة لكل هذه الأزمات التي لازلنا نتخبط فيها في عالمنا العربي”.

يُتهم الكثير من الباحثين المعاصرين لدى التطرق إلى مبحث مكانة المرأة في الإسلام بأن ارتدادهم على التفسيرات والتأويلات القديمة لا يقدم أطروحات جديدة تمثل الإسلام وإنما هي دين جديد.

وفي ردها على هذه الاتهامات، تقول الباحثة المغربية “كان دائما هناك عبر تاريخ الإسلام تيار تقليدي محافظ، مسمى بأهل الأثر في مقابل أهل الرأي، يحارب أهل الرأي، ويمثل الأغلبية، لأنه كان ولا يزال دائما خاضعا للمصالح السياسية وقوة السلطة والنفوذ والامتيازات، يخاف من التجديد لأنه يهدد مصالحه، أما التأويلات الجديدة فهي ليست بمثابة دين جديد، بل هي تجديد لفهم الدين، بهدف البحث في إمكانية تفعيله مع مقتضيات المجتمع المتغير، ولكي يبقى صالحا لكل زمان ومكان… وهذا مبدأ نابع من قلب الدين الإسلامي”.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: