محمد قايدي خليفة غامض للجنرال السجين “توفيق”

حين تُصنع الأسطورة فإنها تُصنع بقدر عال من الغموض والأسرار. حتى أنك لا تعرف من صنعها؟ ولا كيف تم ذلك؟ ولا في أي مخبر؟ ولا بأي طريقة؟. ذلك ما درجت عليه مخيلة الجزائري حينما تعود إليها صورة قادة الأجهزة الأمنية في البلاد. فعالمها ما زال مستعص ومستتر وغير مكتوب بالقدر الكاف، والذي كتب عنه لا يفي بالغرض، ولا يعطي رؤية كاملة عن هؤلاء الذين تربوا وتدربوا وتعلموا في كنف السرية التامة والخفاء.

ورئيس المخابرات الجزائرية الحالي الجنرال محمد قايدي الشهير بـ”المنجل” حالة مثالية لافتة ضمن هذا المشهد الذي يفترض أن التغييرات تعصف به الآن، لكن يبدو أن المخابرات هي آخر من يتغير على الدوام.

تاريخ مكتوم

خرج من طينة قائد المخابرات الجزائرية الأسبق الجنرال الشهير توفيق جنرال آخر هو قايدي الذي لا تقول عنه الألسن سوى إنه مهندس دولة في الإعلام الآلي، ولكي تتخذ شخصيته الكاريزما اللازمة فهو يتقن 7 لغات مختلفة كتابة وقراءة، حافظ للقرآن الكريم، لا يكاد يعرف عنه شيء. وكعادة هذا النوع من الرجال الذين خبروا الصمت والتخفي والتواري عن الأضواء، غير أن ما رشح عن بطولاته مكثفة وقليلة جدا جدا، فيوصف بقاهر الإرهاب وقائد كتيبة تدعى “المرسيدس” بل كان هو الوحيد الذي يدعى بهذا اللقب، وهي ماركة السيارات الألمانية المعروفة التي ترمز للقوة والمتانة والصمود، وهي خصال يقال إنه يتحلى بها، وقد كان في الصفوف الأمامية للمعارك الدامية مع الجماعات الإرهابية في الجبال والوديان والشعاب الوعرة التي كان الإرهابيون يتخذونها مأوى لهم.

التصريح الوحيد المتوفر في الإنترنت والذي شاهده الملايين عندما أعلن اسمه كقائد لجهاز المخابرات، هو تساؤله عن الحق والباطل وهو يقاتل الطرف الثاني الذي يقول أيضا إنه على حق. يقول الجنرال قايدي “حتى أنا كنت أتساءل، هل نحن على حق أم على باطل؟، هم يقولون الله أكبر ونحن نقول الله أكبر، وقد تبين الحق في ما بعد”.

تركيبة الجنرال توفيق تستولد نسخة الجنرال قايدي الذي لا تقول عنه الألسن سوى أنه مهندس دولة في الإعلام الآلي، ولكي تتخذ شخصيته الكاريزما اللازمة فهو يتقن 7 لغات مختلفة كتابة وقراءة، كما أنه حافظ للقرآن الكريم

كان عدد قادة أجهزة المخابرات الجزائرية 9، وقد تأسست الإدارة كمؤسسة عام 1957 على يد عبدالحفيظ بوصوف أحد قادة الثورة الجزائرية الذي يلقب بالأب الروحي للمخابرات، فقد كان هذا الأخير قويا وصاحب سلطة نافذة حتى أنه جند بعض وزراء الحكومة الفرنسية إبان الثورة وعمل على تطوير الكفاءات والقدرات من خلال التكوين والتدريب والتدريس في أعرق مدارس الجوسسة خاصة السوفييتية منها، حيث لا تخلو الدراسات المخصصة لهذا الجانب على قلتها من الإشارة إلى التأثيرات العميقة المتغلغلة في أساليب عمل المخابرات الجزائرية والمرتبطة مباشرة بالمدرسة الروسية.

خضع الجهاز في مساره إلى العديد من التحولات وإعادة الهيكلة وفق متطلبات المراحل الصعبة التي كانت تمر بها الجزائر منذ الاستقلال، حيث كانت تحت نظر العالم وجواسيس دول عدة تنظر إليها كقوة إقليمية فاعلة، وخاضت المخابرات الجزائرية العديد من العمليات سواء هنا أو هناك وكانت بمثابة العين الساهرة واليقظة على الحدود في قلب القرارات وفي أصعب المواقف.

كانت المخابرات الجزائرية بعد الاستقلال مخيفة ومرعبة، فبمجرد ذكر “الأمن العسكري” تدور الأعين وتخفت الأصوات وتدخل الطيور إلى أعشاشها. والمرحلة حسب المؤرخين كانت تتطلب هذا النوع من التخويف والترهيب، فالجزائر كانت محط أطماع وبؤرة استقطاب بما تمتلكه من موارد وطاقات ثرية.. لذا عمد الجهاز إلى انتهاج هذا الأسلوب مع الكل، ولم يسلم من الأمر أي أحد من الشيوعيين إلى الإسلاميين إلى معارضي النظام من داخل النظام نفسه.

وبات الجهاز مرادفا لسلطة خفية تعمل على كسر أي رأي مخالف أو أي محاولة للوقوف أمام طموحات السلطة التي أحكمت قبضتها على دواليب الحكم والقرار، ولم يتخذ أي قرار مهم أو مصيري إلا إذا أذنت بذلك المخابرات. حتى في زواج الرئيس الراحل بومدين اعترض الجهاز الذي كان تحت قيادة المرعب قاصدي مرباح الذي اغتيل في سنوات الإرهاب حاملا معه الكثير من الحقائق والخفايا عن النظام والحكم ورجالاته.

ترسخ في ذهن الكثيرين أن المخابرات هي فرع خارج مؤسسة الجيش، وقد تعززت هذه القناعة واليقين خاصة في سنوات الإرهاب والدم، أين تعاظم دوره وتفاقم وتجاوز في الكثير من المرات مهامه المنوطة به، ويتحجج البعض بخطورة الوضع الذي كانت تمر به الجزائر مما حتم على رجالات المخابرات التغلغل أكثر في مفاصل الدولة الجزائرية حيث لم تخلُ إدارة من عون للجهاز مما سمح لبعضهم بالاستفادة وشد الحبل، وللبعض الآخر من إعداد تقارير عن المسؤولين وتبين أنها مغلوطة ومفبركة.

في المقابل كان الكثير من رجالات المخابرات يتقدمون الصفوف الأمامية في الحرب ضد الإرهاب وسقط الكثير منهم وتم نسيانهم وعندما تزور المقابر ستقف على شواهد لأسماء مجهولة من خيرة هؤلاء الضباط والعسكريين.

أسطورتان

شخصية قايدي ذات سمعة رهيبة، ومما يُعرف عن أنه فقد صوابه أثناء أداء مهماته ذات مرة، وكاد أن يذبح بخنجره الإرهابي الجزائري جيلالي البحري الملقّب بـ”الذئب الجائع” في منطقة عين آذان، بعد أن سلّم الأخير نفسه لقوات الأمن
شخصية قايدي ذات سمعة رهيبة، ومما يُعرف عن أنه فقد صوابه أثناء أداء مهماته ذات مرة، وكاد أن يذبح بخنجره الإرهابي الجزائري جيلالي البحري الملقّب بـ”الذئب الجائع” في منطقة عين آذان، بعد أن سلّم الأخير نفسه لقوات الأمن

لا يعرف الجزائريون عن الجنرال “توفيق” أي معلومات وافية ودقيقة وموثقة، فالنتف القليلة مما تم تسريبه عن حياته ومساره مبثوثة في المصادر، كأي سيرة عامة، اسمه الحقيقي محمد الأمين مدين ولد سنة 1939 في قنزات بولاية سطيف شرق الجزائر، نشأ في حي شعبي بالجزائر العاصمة، انضم إلى صفوف جيش التحرير الوطني بعد إضراب الطلبة سنة 1957، وبفضل شخصيته الكتومة اختاره بوصوف لينضم إلى المخابرات والتسليح.

تربص بعد الاستقلال بمدرسة المخابرات الروسية بموسكو حيث تلقى تكوينا عسكريا مختصا في مجال الاستخبارات وتخرج من دفعة سميت “السجادة الحمراء”، ثم عُيّن مسؤولا للأمن الوطني بمديرية وهران مع العقيد الشاذلي بن جديد مسؤول الناحية العسكرية الثانية تعرف على الراحل العربي بلخير. ثم عين قائدا للمعهد العسكري للهندسة ثم مديرا للمديرية الوطنية للأمن العسكري وبعد 6 سنوات قضاها مديرا للأمن الوطني عين قائدًا للأمن الرئاسي، ثم عين على رأس جهاز المخابرات من سنة 1990 إلى غاية 2015 حين أحيل على التقاعد.

وقد شهد “توفيق” أصعب مرحلة مرت بها الجزائر التي عاشت سنوات من الدم والقتل والتخريب نتيجة توقيف المسار الانتخابي، وبرز دوره في مكافحة الإرهاب، وأسهم في نزول الآلاف من المقاتلين الإسلاميين من الجبال بفضل قانون الرحمة 2001، ومما تردد أنه صعد إلى الجبل بنفسه وحاور المسلحين وأقنعهم بضرورة وقف القتال، ولم يتعرف عليه أحد إلا لاحقا بعدما تم تداول بعض صوره النادرة.

كانت الدنيا تقام ولا تقعد، كما يقال في الجزائر، حين تظهر ولو لثانية صورته بالخطأ في وسائل الإعلام العمومية، وقد حاول بعض المصورين أن يتلقطوا له صورة ولو من بعيد في الجنازات الرسمية التي كان يحضرها ولكن دون جدوى ومن حالفه الحظ في ذلك يجد نفسه محاطا برجال أمنه اليقظين دوما وكأنهم تلقوا فقط هذا النوع من التدريب كي ينزعوا الفيلم أو غيره من الوسائل اللاقطة للصور.

يقول الجزائريون اليوم “أخيرا لمحنا من يدير جهاز المخابرات، وصرنا نعرفه بشحمه ولحمه”. الأول ماكر وذكي ومتفرنس، والثاني داهية ونخبوي ومتعدد اللغات

يروي أحد المصورين الذين يحتفظون بصورة وحيدة نادرة له لم ينشرها إلى الآن أنه التقط صورا له بمحض الصدفة وفي غفلة عين أمنه. وهو يقول “كنت أنام وأنا خائف من اقتحام عناصر الأمن بيتي. فأنا أملك صورة قنبلة قد تنفجر علي في أي لحظة”. ذلك هو الفريق توفيق بشخصيته الغامضة والهادئة والمجهولة، بناها بصمت، وأحاطها بالكثير من الهالة المرعبة، ونحتها على طول السنوات التي قضاها حاكما وآمرا ومتنفذا وعميقا حتى يراودك الشك أنها كانت موجودة لحما وعظما ودما.

هكذا غذّيت صورة الفريق توفيق في مخيلة الجزائري، صورة مرادفة للمقدس الذي لا يدنس، لا يمس ولو بالهمس، رمز اجترح لنفسه القوة والمهابة والسيطرة وتعلمها من الجزائري الضعيف المنهوك بفعل الموت والقهر والإرهاب وسنوات الحيرة. وحين كان يجري الحديث آنذاك عن توفيق أو عن جهاز المخابرات ترى المتحدث ينظر إليك مستجديا أن لا تخرب عليه حياته القنوعة.

لقد لعبت الدوائر والإعلام دورا خطيرا في أسطرة بل في تأليه الفريق توفيق حتى صرخ أحدهم يوما ونعته بلكنة الشارع بـ”رب الدزاير”، كان ذلك حينما بدأ الصراع في عرين السلطة بالخروج علنا إلى السطح، وجاء اليوم الذي أنزل فيه الفريق توفيق من عليائه، وبدأت التصريحات النارية ضده تتوالى، وقصت أجنحة محيطه بعد أن أنهيت مهام العديد من جنرالاته المقربين، وقادت بعض الشخصيات السياسية بإيعاز سري حربا علنية عليه وحملوه مسؤوليات عظام في ما حدث للبلاد.

وفي كل هذا بقي صامتا مكابرا يتلقى الضربات تحت الحزام وفوقه، مقتنعا كما هي عادته أنها عاصفة وتمر فهو يعرف الجميع والكل، ويعلم أدق التفاصيل، وصاحب ملفات وهو صديق لفرنسا وأميركا وغيرها من الدول.. وتبين بعد كل هذا أن لا أحد يبالي، وانتهى به الأمر سجينا ووحيدا مع العصابة التي كانت تأخذ شرعيتها منه من قوته وسطوته وحضوره المقدس في الأرواح والنفوس بعدما أسس لها دولة عميقة تمفصلت في أركان الدولة من شرقها إلى غربها، وهي الآن تتفكك ببطء وتنحل تحت قيادة رجال آخرين من طينة أخرى.

التصريح الوحيد المتوفر للجنرال قايدي والذي شاهده الملايين كان عندما أعلن اسمه كقائد لجهاز المخابرات، حينها قال “حتى أنا كنت أتساءل، هل نحن على حق أم على باطل؟، هم يقولون الله أكبر ونحن نقول الله أكبر، وقد تبين الحق في ما بعد"
التصريح الوحيد المتوفر للجنرال قايدي والذي شاهده الملايين كان عندما أعلن اسمه كقائد لجهاز المخابرات، حينها قال “حتى أنا كنت أتساءل، هل نحن على حق أم على باطل؟، هم يقولون الله أكبر ونحن نقول الله أكبر، وقد تبين الحق في ما بعد”

هكذا ترسم صورتان في المخيلة مختلفتين بين قائدين، إحداهما لمجاهد حكم المخابرات مدة طويلة بيد من حديد ثم ها هو اليوم خائن، والآخر شاب مقبل من عرين الإرهاب معترك بتراب الدم والدموع. الأول غامض ومريب كان يتخفى عن الأعين ويحرك الخيوط من وراء الستار، والثاني واضح وهو متوفر بالصورة المتحركة ينطق ويتكلم. صحيح أنها واحدة فقط ولكنها تفي بالغرض وتعطي للمخيلة زمنا ولحظة تدوم.

كابوس الإرهابيين

يقول الجزائريون اليوم “أخيرا لمحنا من يدير جهاز المخابرات، وصرنا نعرفه بشحمه ولحمه”. الأول ماكر وذكي ومتفرنس، والثاني داهية ونخبوي ومتعدد اللغات.. لا يعرف الأول أي شيء في الكمبيوتر ولا يعرف كيف يستعمل النت، والثاني خبير في المعلومات والبرمجية، الأول خنق بسيجارته النفوس ووضعها بين سبابته وإبهامه يديرها كيف شاء ومتى شاء، والثاني منجل يحصد النفوس التي أفسدت البلاد والعباد.

مما يُعرف عن قايدي أنه فقد صوابه أثناء أداء مهماته ذات مرة، وكاد أن يذبح بخنجره الإرهابي الجزائري جيلالي البحري الملقّب بـ”الذئب الجائع” في منطقة عين آذان، بعد أن سلم نفسه لقوات الأمن. وقيل وقتها إنه تم نقل البحري ليدلّ القوات الأمنية على المخابئ السرية والطرق التي يسلكها الإرهابيون في أعالي الجبال. وحين أخذ يروي لهم كيفية إقدامه على ذبح مدرسات جزائريات بكل برودة دم، انفعل قايدي وهاجم الإرهابي وطرحه أرضا وأخرج خنجره، وكاد أن يذبحه لولا تدخل الحاضرين.

تلك القضية التي نظرت فيها محكمة الجنايات لدى مجلس قضاء سيدي بلعباس غرب الجزائر، في أواخر العام 2007 حين جرى ذبح 11 مدرّسة ومدرسا على يد حاجز مزيف أقامته جماعة إرهابية كان الجيلالي من بين أعضائها.

بعدها ظهر قايدي في أكثر من مناسبة في مقر وزارة الدفاع بمناسبات وطنية، وكانت الكاميرا تدور وتلتقط صورا عامة للجميع. كان من بينهم ألوية وعقداء وضباط بمختلف الرتب، لم تركز الكاميرا على أي منهم. فالكل متشابهون. ولكن كانت صورة واحدة فقط تعود مرات ومرات هي صورة الجنرال المتخفي وراء الجميع. ويبدو للوهلة الأولى أن صورة الأسطورة بدأت تتشكل من هذه اللقطات السريعة المقتضبة من هنا، ناهيك عما يكتب في صفحات الفيسبوك أو في بعض المواقع عنه، حيث الأمنيات والتنويهات والتحيات لما يقوم به حتى ولو لم يكن لوحده من يقوم بذلك، يبقى فقط عليه أن يحرر الجهاز العسكري وأن يعرفه الجميع بعيدا عن وهم الأساطير التي غلفت مساره منذ أن نشأ إلى اليوم، وهو ما يمكن أن يقوم به الجنرال محمد قايدي حتى لا يتحول إلى أسطورة أخرى تدوم وتسيطر على النفوس والعقول.

مهندس دولة في الإعلام الآلي

 

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: