تونس: إرث دبلوماسي ثقيل أمام الورثة المتهافتين

دون عظيم تقديس يأباه التأريخ، ودون قليل تبخيس ترفضه السياسة بما هي فن للممكن، فإنّ الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي، أعاد خلال فترة رئاسته اليتيمة، إلى الدبلوماسية التونسية روحها ومنطقها ومنطوقها، بعد أن كادت تضيع على رُقعة لعبة الأمم.

فأن تجتمع العواصم الإقليمية المتضادة على نعيه، وإن بخطابات متباينة، وأن تتقاطع الدول المتناحرة على تأبينه، وإن بصيغ مختلفة، دليل على أنّ الرجل كان يُتقن المشي بين حقول الألغام الدبلوماسية والسياسية، وأنّ الراحل أمّن لتونس التوازن المطلوب والحياد الإيجابيّ في إقليم هادر لا يعترف بالرمادية السياسيّة.

وأن تُفرد الجمعية العامة للأمم جلسة خاصة لتأبين الراحل لدليل على أنّه نجح في تسجيل اسمه ورسمه ضمن المدونة الدبلوماسية الدوليّة، وأنّه ترك لمن سيلحقه تركة دبلوماسية جدّ ثقيلة.

لا شكّ أنّ الراحل سيُتعب كل من سيخلفه، من المتسابقين اليوم واللاهثين على جمع التزكيات للترشح للانتخابات الرئاسيّة، لا فقط لأنّه من السياسيين المخضرمين الذين عايشوا العصور الثلاثة في تونس، أي مرحلة البايات ومرحلة الاستقلال والثورة، بل أيضا لأنّ الرجل عجنته التجارب الدبلوماسية والخبرات السياسية الأمر الذي مكنه من إنقاذ تونس من عشّ الدبابير الإقليمية والدوليّة.

وصل السبسي إلى سدّة الحُكم في قرطاج، والدبلوماسية التونسية تعيش واحدة من أحلك فتراتها على الإطلاق، فالعلاقات مع الجزائر لم تكن على يُرام، وكذلك مع مصر ومع معظم دول الخليج العربي، أما مع سوريا فلأول مرة تقطع تونس علاقاتها التاريخية والاستراتيجية والثقافية والاقتصادية مع دولة عربية لها جميل المكان والمكانة في وجدان الراحل الحبيب بورقيبة.

ورث السبسي، “عمقا عربيا معطّلا في الواقع ودبلوماسية مشيدة في الماضي”، ذلك أنّ الدبلوماسية فلسفتها تحييد الأعداء واستجلاب المصالح، وجوهرها تأمين الجوار بأحسن العلاقات والروابط، وكينونتها صناعة قوّة ناعمة عبر تجويد النموذج المحليّ لا التنديد براهن الآخرين.

استطاع الراحل أن يستثمر علاقاته التاريخية مع القادة الجزائريين من أبناء جيله، ليتجاوز منغصات الدعوات التونسية إلى إعادة استيعاب “جبهة الإنقاذ الإسلامية” في العملية السياسية، كما تمكن من تحويل الاستعصاء الليبي إلى فرصة للعمل الجماعي مع الجزائر ومصر قصد كسر جبل الجليد مع القاهرة التي لم تستسغ مسلكية وأداء الرئيس السابق المنصف المرزوقي حيالها منذ أحداث 30 يونيو 2013.

وعلى غرار الجزائر ومصر، تمكن السبسي خلال ولايته الرئاسية من ردم الهوّة السياسية والدبلوماسية مع الرياض وأبوظبي والمنامة، مستثمرا لا فقط في خزان رمزي من تأصيل الزعيم بورقيبة، بل أيضا موظّفا خطابا سياسيا عقلانيا قوامه “تونسة الثورة” وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، والتمسك بالسيادة الوطنية.

الملاحظ أنّ استعادة الحضن العربي لم يكن بعنوان استعداء العواصم الأخرى، بل كان بشعار استعادة العلاقات الطبيعية مع العمق العربي، وتأمين تصفير المشاكل مع الجوار إن لم يتأت استحصال المصالح، وهذا هو جوهر الفرق بين الدبلوماسية التونسية في عهد السبسي وفي عهد الترويكا.

وعلى الرغم من كافة العواصف الإقليمية التي ضربت الخليج العربي، وهزّت الجارة الجنوبية، إلا أنّ الدبلوماسية التونسية حافظت على حيادها الإيجابي من الجميع، دون أن يتحوّل “الحياد الاستراتيجيّ” إلى رماديّة مبدئية أو مصلحية تكتيكية.

اليوم، يفرض الراهن والرهان، على القادم عبر الأصوات الانتخابية إلى قصر قرطاج، استكناه حقيقة أنّ الباجي استعاد الدبلوماسية التونسية من هوّاة الحكم، وأنّ من أوكد الاستحقاقات الخارجية المحافظة على “إرث السبسي”، في التعامل مع الأزمات الإقليمية والدولية.

أن يجمع الدستور التونسي للرئيس، صلاحيات “الدفاع” و”الخارجية”، فهي قرينة تلازميّة بأنّ الأمن القومي لا يتأتّى إلا عبر دبلوماسية “الجوار الدافئ”، وتصفير المشاكل مع الأصدقاء، وأنّ الدبلوماسية الناجحة قائمة على احترام السيادات والشؤون الداخلية والشرعية الأممية.

على هذه الشاكلة، من الضروري لكلّ من تراوده أفكار الرئاسة، استبطان واستجلاء، فكرة أن لا مُغامرات ولا مقامرات في العلاقات الدوليّة، وأنّ تونس التي اكتوت بجمار اللهاث وراء الاصطفافات زمن الترويكا هي اليوم أقلّ من تحمّل لعبة التجيير والتوظيف صلب لعبة الأمم.

أمام القادم إلى قصر قرطاج، أن يدرك أن حياله، استحقاقين اثنين، الأوّل المحافظة على إرث السبسي في العلاقات الإقليمية والدولية، والثاني المواصلة في الملفات التي لم يسعف الزمن الرئيس الراحل في حلحلتها جزئيا أو كليا…

وعلى رأس هذه الملفات، المُكاسرة الليبية المستعصية منذ 2011، والانخراط الفعلي في المجال الأفريقي، وتفعيل العلاقات مع القوى الاقتصادية الدولية الجديدة، واستعادة الزخم المطلوب في العلاقات التونسية السورية وتقوية الحضور التونسي في المحافل الدولية لاسيما وأن تونس ستحظى بعضوية في مجلس الأمن الدولي.

صحيح أنّ النجاح والفشل في الدبلوماسية نسبيّ، وصحيح أيضا أنّ الكثير من نقاط التحفظ لا تزال تُطرح على دبلوماسية السبسي، وعلى رأسها ما يطرحه العروبيون من استفسارات حول عدم إعادة العلاقات مع سوريا، ولكنّ الصحيح أيضا أنّ الراحل وضع الدبلوماسية التونسية على السكّة الصحيحة وفي الاتجاه القويم حتّى وإن كان الطريق لمن سيأتي به “وعرا” و”شائكا” وطويلا، وهي الرسالة التي لا بد لرئيس الجمهورية المنتخب الجديد أن يعرف معناها ومبناها ومقتضاياتها.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: