فاروق الفيشاوي يرحل تاركا خلفه لغطا سياسيا وإرثا فنياً متنوعا

حظيت الحالة الصحية للفنان الراحل فاروق الفيشاوي باهتمام واسع من الجمهور الذي تابع تطورات إصابته بسرطان العظم منذ أن أفصح عن ذلك بشكل علني أثناء تكريمه في افتتاح مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط العام الماضي، ما انعكس على مشهد رحيله الذي امتلأ برسائل الرثاء من الفنانين والمثقفين، بل والجمهور الذي راقب تحديه للمرض.

شيعت جنازة الممثل المصري فاروق الفيشاوي من مسجد مصطفى محمود في القاهرة الخميس، حيث وافته المنيّة عن عمر ناهز 67 عاما، متأثرا بغيبوبة كبدية دخل على إثرها أحد المستشفيات الخاصة قبل ثلاثة أيام من رحيله، تاركا خلفه إرثا فنيا حافلا بالأعمال المتنوعة، في السينما والمسرح والتلفزيون، منذ أن احترف التمثيل في منتصف السبعينات من القرن الماضي.

ونعى عدد كبير من الفنانين رحيل الفيشاوي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، منهم صلاح عبدالله وأحمد السقا ومحمد عادل إمام وعمرو عبدالجليل ورانيا يوسف وإلهام شاهين وفيفي عبده ودنيا سمير غانم وإيمان العاصي.

عشق التمثيل

نشر الفنان عادل إمام على صفحته الرسمية على “فيسبوك” صورة جمعته بالنجم الراحل، مع تعليق “البقاء لله في وفاة الفنان الكبير فاروق الفيشاوي”، فيما نعت نقابة المهن التمثيلية الفنان الراحل في بيان قالت فيه إنه “كان رمزا من رموز الفن المصري.. وسيظل”.

وقالت الفنانة المصرية إلهام شاهين في تصريح له “كان حريصا على أن يظهر قوته في مواجهة المرض، ورفض فكرة الاستسلام له حتى قبل وفاته بأيام قليلة، كما أن حبه للفن دفعه للاستمرار في تقديم الأعمال بما فيها المسرحية التي تتطلب مجهودا كبيرا”.

وشارك الفيشاوي في بطولة مسرحية “الملك لير” مع الفنان يحيى الفخراني، التي جرى عرضها بالقاهرة في شهر مارس الماضي، قبل أن تجبره حالته الصحية على عدم السفر مع طاقم المسرحية إلى السعودية للمشاركة في عرضها بمدينة جدة منتصف الشهر الجاري.

وكان من المقرر أن يبدأ تصوير مشروع أحد الأفلام التي اتفق على بطولتها مع المخرج عمر عبدالعزيز ويحمل اسم “شاي بالقرنفل”، عن قصة الروائي إبراهيم عبدالمجيد، غير أن طاقم العمل أجل التصوير أكثر من مرة إلى حين استقرار أوضاعه الصحية.

وأضافت شاهين  “كان الفيشاوي يستطيع أن يقدم الأفضل خلال مشواره الفني، لما يمتلكه من موهبة فنية ومدرسة يتعلم منها العديد من الأجيال، وانضباطه في أثناء عملية التصوير وإعداده الجيد للشخصية منحاه دوما تفوقا عمن يتواجدون معه في العمل، وهو ما ساعدها شخصيا على التناغم معه خلال المشاهد المشتركة بينهما في العديد من الأعمال التي كان آخرها فيلم (يوم للستات)، وحصدا بسببه الكثير من الجوائز المحلية والدولية”.

وأكدت الفنانة نبيلة عبيد أن الفيشاوي عشق التمثيل كهواية، وليس كعمل مفروض عليه، وهو ما انعكس على تعامله بتلقائية مع جميع أفرد العمل، بل كان يسعى لأن تكون هناك مساحات أكبر للشباب، وتعاونت معه في أعمال فنية عديدة، منها “ديك البرابر” الذي أبدع من خلاله في تجسيد شخصية المعاق ذهنيا، وحرص على تقديمها بأفضل شكل مما جعلنا نعيد تصوير المشاهد أكثر من مرة.

بعكس النجوم الذين تركزت أعمالهم على الأوضاع الاجتماعية كان فاروق الفيشاوي أكثر ارتباطا بفئات الشباب

وأشارت في تصريح خاص  إلى أنه حاول التغلب على المرض كثيرا وامتلك إرادة فولاذية وعزيمة وإصرارا على الشفاء، وعدم المبالاة بالمرض الخبيث، واستئنافا لحياته بشكل طبيعي، حتى خاض تجربته المسرحية “الملك لير” كي لا يشعر بأنه ابتعد عن جمهوره.

وحرص الفيشاوي خلال مشواره الفني على أن تكون حياته الشخصية ممتلئة بالدراما وحاضرة وبقوة بين جمهوره، فخلال توهجه الفني في منتصف الثمانينات اختار أن يفصح عن تجربته مع المخدرات، وصارح الجمهور بتفاصيل رحلته مع الإدمان وطريقة الشفاء عبر حوار صحافي أجراه في ذلك التوقيت معه الكاتب صلاح منتصر ونشر في مجلة “أكتوبر” الحكومية، وجاء بعنوان “كنت عبدا للهروين”.

كما أن تجارب زيجاته المختلفة، ومن أشهرها من الفنانة سمية الألفي وأنجب منها نجله الممثل المعروف ​أحمد الفيشاوي​، وانتهى زواجهما بالانفصال منذ نحو عقدين، وعلاقاته النسائية المتعددة كانت حاضرة في لقاءاته الإعلامية، وانجذب الجمهور إلى مواقفه الصادمة التي رأى فيها مثلا أن “الرجل المخلص خيال علمي، ويجب على النساء أن يقتنعن بأن امرأة واحدة لا تكفي”.

دخول ابنه أحمد مجال الفن ووقوعه في مشكلات عدة أبرزها قضية إثبات نسب الطفلة لينا حفيدته، شغلا حيزا كبيرا من الرأي العام المصري مطلع الألفية الجديدة، وعبر الفيشاوي كثيرا عن ندمه بسبب موقفه الذي نفى فيه علاقة “الفيشاوي الصغير” بالطفلة، وقال في أحد تصريحاته “أشعر بالأسى تجاه كل ما حدث بيننا وبين لينا، فحص الـDNA أثبت أن لينا ابنة أحمد، لكننا أجبرنا في البداية على أن نسلك طريقا كنا غير راضين عنه”.

وفي جميع الأزمات التي مر بها كانت الصراحة والوضوح من السمات الأساسية التي تسود في النهاية، وقد يكون ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى دخوله في مشكلات وصراعات كان من الممكن أن يتجنبها، داخل الوسط الفني أو خارجه.

غير أن مقربين منه أكدوا على أن زهده في الحياة وتحوله من شخص فقير كان يعمل كومبارس في المسرح إلى فنان كبير له أعطاه المزيد من شجاعة المواجهة.

وسط خارطة الفن

Thumbnail

ولد الفنان الراحل في إحدى قرى مركز سرس الليان بمحافظة المنوفية في شمال القاهرة، والتحق بكلية الآداب جامعة عين شمس، غير أن حبه للفن دفعه لدراسة المسرح بالمعهد العالي للفنون المسرحية، بعد حصوله على درجة الليسانس.

قدم الفيشاوي 230 عملا متنوعا على مدار تاريخه الفني، ولمع في مسلسل (أبنائي الأعزاء.. شكرا) مع الممثل القدير عبدالمنعم مدبولي والمخرج محمد فاضل بداية الثمانينات وكان بمثابة انطلاقته الفنية ليشارك في جملة من الأعمال الدرامية الهامة منها “ليلة القبض على فاطمة” و“على الزيبق” و“زينات والثلاث بنات” و“ألف ليلة وليلة” و“دموع صاحبة الجلالة”.

ومن أبرز أعماله السينمائية “الحب في طريق مسدود” و”الباطنية” و”المشـبوه” و”أرجوك أعطني هذا الدواء” و“لا تسألني من أنا” و“القرداتي” و“الجاسوسة حكمت فهمي”، بالإضافة إلى عدد من المسرحيات الناجحة منها “البرنسيسة” و“أعقل يا دكتور” و“الأيدي الناعمة” و“الناس اللي في التالت” و“شباب امرأة”، و“مسيلمة الكذاب” و“بداية ونهاية”، وأخيرا “الملك لير”.

وأكدت الناقدة الفنية خيرية البشلاوي في تصريح له، أن الفيشاوي من العناصر البارزة في خارطة الفن المصري، واستطاع أن يلقي الضوء بأعماله على جملة من الأزمات الاجتماعية والسياسية والأمنية خلال الثلاثة عقود الماضية، وأن تكوينه الجسماني والشكلي مكناه من تأدية جميع الأدوار وعدم حصره في منطقة محددة.

وأضافت أنه ظهر في فترة تعد الأكثر تألقا لعدد كبير من النجوم الذين سبقوه، وعلى رأسهم فريد شوقي وعادل إمام ومحمود ياسين ومحمود عبدالعزيز، غير أنه استطاع أن يحجز لنفسه مكانا من خلال شباك التذاكر وعبر متابعة أعماله الدرامية والمسرحية، ونجح في أن تكون له شخصيته الإنسانية والفنية التي تميزه عن غيره.

وبعكس النجوم الذين تركزت أعمالهم على الأوضاع الاجتماعية والغوص فيها كان الفيشاوي أكثر ارتباطا بفئات الشباب الذين انجذبوا إليه بفعل إفصاحه عن تجاربه الحياتية الغريبة عن الكثير منهم، واقتحامه نقاطا لم يكن الاقتراب منها مسموحا، بعد أن تحدث عن تفاصيل علاقاته الغرامية مع النساء، وظهوره في صورة البطل الذي استطاع أن ينتصر على الإدمان.

ولم يكن الفيشاوي نموذجا مقربا من الشباب من أبناء جيله فقط، بل إن مواقفه السياسية المؤيدة لثورة 25 يناير 2011، وحضوره التظاهرات في ميدان التحرير بوسط القاهرة، وإعلانه صراحة عن مواقفه المعارضة من نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، دفعت العديد من شباب هذا الجيل للاقتراب منه، واستطاع أن يصحح الصور المشوشة التي أخذت عنه.

وفي تجربة السرطان الأخيرة حاول أن يغير أفكار الشباب والمجتمع بشأن النظرة السلبية للمريض الذي يخترقه المرض الخبيث، وأكد أن مواجهته للمرض ستكون مثلما يواجه “نزلة برد”، غير أن تجربته الدرامية مع السرطان لم تدم طويلا.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: