“سيدي عبدالرحمن المجذوب” تنصح مشاهديها بألا يصاحبوا الصوفيين

العودة إلى الصوفيين باتت مؤخرا سمة فنية بارزة في الإبداع العربي سواء منه الأدبي أو الموسيقي أو الفنون البصرية ولا يشذ الفن المسرحي عن هذا التوجه. استقدام الصوفيين ليس مرده نكوصا إلى الماضي، بقدر ما هو محاولة لاستجلاء مواضيع روحية، لا نجد لها شخصيات مماثلة للصوفيين، الذين خلد حكمهم التاريخ.

تحولت محكيات حلقات جامع الفنا بمراكش، وأقوال قصاصيه إلى مشاهد في مسرحية “سيدي عبدالرحمن المجذوب” التي قدمتها فرقة الناس على مسرح محمد الخامس بالرباط، وعرضت كذلك في مدن مغربية أخرى واستقبلت في كل مدينة بحفاوة. وقدمت كذلك في دول أخرى، كالإمارات العربية المتحدة وفرنسا وإيطاليا بحضور جماهيري مميز. وقد أعدَّ المسرحية وأخرجها محمد مفتاح، عن مسرحية قديمة للطيب الصديقي عرضت العام 1966، لتقدمها مؤخرا فرقة الناس برؤية عصرية.

نقلت مشاهد المسرحية سيرة الصوفي سيدي عبدالرحمن المجذوب، الذي عاش في القرن السادس عشر، والمجذوب عرف من عدة قرون بين المغاربة، كحكيم وعارف، وزجال، وشيخ صوفي عظيم الحال، فهم الحياة وزهد بمباهجها وعاشها كفقير. درس سيرة من سبقه من المتصوفة بفاس، واتبع آثارهم في التقوى والفضل، والحكمة، كالشيخ علي الصنهاجي وأبوالرواين وأبوالعباس أحمد بن عبدالواحد، وأبومحمد عبدالحق الزليجي، وعمر الخطابي الزرهوني وسيدي أبي رعين.

والمجذوب حسب سيرته التاريخية (1503ــ 1568م) عرف الأخبار قبل وقوعها، وروى الرواة عنه من خوارق، وأفعال عجيبة، وأمثال تداولها الناس، وحفظوها كمسلمات حياتية، وله زاوية أوقفت على الفقراء، وأصحاب الحاجات، وكان شيخا لطريقة الشاذلية الصوفية.

المسرحية نقلت إلى الخشبة سيرة المتصوف، وما قاله أثناء تنقله بين المدن المغربية المختلفة في زمن الدولة السعدية، التي حكمت المغرب بين (1554ــ1659م) وصورته وهو يحث المغاربة على تحرير بلادهم من المستعمر البرتغالي، الذي احتل أجزاء من بلادهم وهدد الأخرى بالاحتلال، وأشاع المجذوب فيهم روح التقوى والصلاح، ما أدهش المشاهد المعاصر، ورسم له أحوال وتفكير المغاربة وأفعالهم قبل قرون. وجعلهم على معرفة بحالهم كيف كانوا يعتقدون بشيوخهم من أهل الدين والتصوف والصلاح. ونقل مُعدّ المسرحية الأخبار والحكايات على لسان الراوي -مثل دوره الصديق مكوار-  وما رددته ألسنة الكورس.

المخرج اتبع أسلوب مسرح المجاميع بتقديم المسرحية بطريقة المسرح اليوناني القديم
المخرج اتبع أسلوب مسرح المجاميع بتقديم المسرحية بطريقة المسرح اليوناني القديم

لوحات المسرحية نقلت حكاية الشاب، الذي حاول أن يتعلم فنون حكاية الرواية الشفهية في إحدى حلقات جامع الفنا بمراكش، فسمع سيرة سيدي عبدالرحمن المجذوب، وأشعاره المملوءة بالحكم تتردد على ألسنة “الحلايقية” في الساحة. فأعجبته سيرة المجذوب حَدَّ التَوَلَّه والهُيَام بشخصه، فجذبه ولعه بالشيخ للانتقال إلى عصره.

انتقال الشاب من عصرنا إلى عصر المجذوب جعل المشاهدين يرون ما حدث لهذا المتصوف والمصلح الاجتماعي الكبير، وما كان يحدث في تلك المدن، وأحوال الناس وعلاقاتهم الاجتماعية فيها واعتقاداتهم من خلال الرقص والموسيقى، وترديد أشعار المجذوب الزجلية. نقل كل ذلك عبر سرد سيرة المجذوب، التي وردت كمقاطع غنائية بالدارجة في رباعياته الزجلية المعروفة في التراث الشعبي المغربي بحكمها ومعارفها، والتي لا يزال المغاربة يرددونها منذ قرون وإلى يومنا هذا.

ومن المشاهد التي تروى عن محكيات سيدي عبدالرحمن المجذوب، أنه كان مع عدد من مريديه يزورون مدينة مغربية، يعلمون الناس فيها، ويحثونهم على طرد الغزاة البرتغاليين من مراكش وفاس وأغادير التي احتلوها، ومروا بقطيع من البقر، فطلب منهم أن يأخذوا فحلاً من بينها، ليذبحوه، ويولموا منه لمريديه وتابعيه. وتعجب التابعون، فهذا الفعل في اعتقادهم حرام ولا يجوز أخذ مال الغير من دون إذنه، ولكن لم يمض وقت طويل حتى وفدتْ صاحبة الفحل تبحث عنه، وأخبرتهم أنها تبحث عن فحل نذرته للمجذوب، فقالوا لها، وصل نذرك لصاحبه، وأخبروها بالقصة، ومن أخباره التي وردت في سيرته، أنه عرف بمكان دفنه بمكناس إذْ مر من هناك، وغرس وتدا وقال، هنا المنتهى يا سيدي عمران.

وردت أقوال المتصوف أيضا في مشاهد المسرحية كـ”الهم يستهل الغم والسترة ليه مليحة، رد الجلدة على الجرح تبرا وتولي صحيحة” (بمعنى لا تفكر ولا تهتم فالهم يجلب الغم، أرجع الجلد على الجرح يبرأ ويختفي أثره)، وقوله “الصمت حكمة ومنه تتفرق الحكايم، لو ما نطق ولد اليمامة ما يجيه وليد الحنش هايم” (أي الصمت رأس الحكمة، ولو صمت فرخ الحمام ما هاجمته الأفعى) و”راح ذاك الزمان وناسه وجاء ذا الزمان وفلسه، وكل من يتكلم بالحق كسروا له راسه” (ذهب زمن الطيبين وجاء زمن المال، وكل من يقول الحق يُكسر رأسه) و “كسبت في الدهر معزة وجبت كلام رباعي، كاذا من عطاه ربي ويقول عطاني دراعي” (رزقني ربي عزًا وألهمني زجلًا رباعيًا وكل من أعطاه ربه يقول أعطاني ذراعي).

المسرحية نقلت إلى الخشبة سيرة المتصوف، وما قاله أثناء تنقله بين المدن المغربية المختلفة في زمن الدولة السعدية

وظفت مشاهد المسرحية ما عرف بفن البسطة -جمعها البسط- وهو فن المشهد القصير جدا، الذي يستمر لأقل من دقيقة وفيه تمثل حادثة فكاهية واحدة أو يقال خلال المشهد القصير قول مأثور واحد أو حكمة غناءً ورقصًا مع مصاحبة آلات موسيقية، كالطبل والمزمار والصنوج والآلات الوترية التراثية. ويتألف المشهد الواحد من عدة بسط، يحكيها الراوي ويشاركه الكورس بترديد الأهازيج الشعبية برفقة الطبل والصنوج والرقص والألعاب البهلوانية، وحركات المهرجين ومربي القردة، ومرتدي الأقنعة لحيوانات ومخلوقات أسطورية، ولنافخي النار، وتنويع حركات الجسد.

ومن النصائح التي تقدمها الجوقة، أن لا تصاحب الصوفي، فهو يجعلك متيمًا بزهده تصمت ثلاثة شهور، وتتكلم ثلاثة شهور كالمجذوب، وينال منك الفقر والنصب والإعياء، وكذلك أن لا تبغض صوفيًا، فينالك منه ما نال صاحب القصر، الذي كان يبغض المجذوب وينعته بالمجذوم، بالميم، فجاءه في الحلم ونفخ في وجهه من قصبة، فحل الجذام في جسده في الصباح، فنبذه أهله وصار يُعطى الطعام بقصبة حتى هلك.

اتبع المخرج أسلوب مسرح المجاميع بتقديم المسرحية بطريقة المسرح اليوناني القديم، وذلك من خلال حكايات للراوية الأعمى “تريسياس” والجوقة المصاحبة له، التي تردد الأشعار، وترتدي الأزياء الفخمة، وتقدم الرقصات المعبرة عن الحوادث التي يرويها الراوية.

وبالرغم من صعوبة تحقيق ذات الأجواء في مسارحنا المعاصرة، التي تقدم فيها العروض، وفي العادة تكون صالات مسقفة، فلا يصل الصوت واضحا للجمهور، كما كان يجري في المسرح اليوناني، غير المسقف والمدور الشكل، الذي يسمح للجمهور بإحاطته على شكل دائرة، فيتاح للجمهور سماع ما يقال على المسرح بشكل واضح. ولولا شهرة “رباعيات سيدي عبدالرحمن المجذوب” وحفظ المشاهدين لمعظم حكمه وأقواله، لما وصل للمشاهد الكثير، مما قيل وتم ترديده على خشبة المسرح.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: