غياب التوازن بين الغرب والشرق يقوي شوكة الشعبويين في أوروبا

ليس شرق ألمانيا كغربها ولا غرب أوروبا كشرقها، حقيقة تقر بها مختلف الحساسيات السياسية في القارة العجوز، ويؤكدها توزيع المناصب العليا في الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يقوي حجة الشعبويين واليمين المتطرف في انتقادهم للوحدة الأوروبية، وفي مطالبهم الانفصالية ودعواتهم إلى إعادة فتح ملفات الماضي ومراجعة التاريخ.

كثيرا ما يُلقى باللوم على النظام الشيوعي الذي حكم ألمانيا الشرقية في تكريس التمايز والهوة مع ألمانيا الغربية الذي حكمها النظام الرأسمالي باعتباره أكثر قدرة على لتكوين الثروة، لكن بعد ثلاثة عقود على توحيد الألمانيتين مازالت الفوارق على حالها.

في الشرق تنخفض الرواتب وترتفع نسب البطالة ومتوسط الأعمار. ففي براندبورغ مثلا تبدو الأجور أقل بـ20 بالمئة في المتوسط مما هي في ولايات الغرب. وبراندبورغ هي الولاية التي تحيط ببرلين. هذا مع غياب الكثير من الخدمات في تلك المقاطعة التي هجرها الكثير من الشباب، إما نحو برلين وإما نحو بقية الولايات الغربية.

ودفعت هذه الهجرة إلى بروز ظاهرة أخرى وهي الفوارق السكانية بين الشرق والغرب. تقلص عدد السكان في ألمانيا الشرقية من 16 مليونا في عام 1989 إلى 12.5 مليون نسمة حاليا، في حين نما عدد سكان ألمانيا الغربية من نحو 60 مليون نسمة قبل 28 عاما إلى 64.6 مليون نسمة.

وجاء في أحدث تقرير حكومي حول أوضاع توحيد الألمانيتين أن نسبة البطالة في ألمانيا الشرقية تصل إلى 7.6 في المئة مقارنة مع 5.3 بالمئة في ألمانيا الغربية. أما نسبة البطالة الشبابية في ألمانيا الشرقية فتبلغ على 8.4 بالمئة، أي ضعف ما هي الحال عليه في ألمانيا الغربية. وفي ما يتعلق بالدخل السنوي الشخصي في ألمانيا الشرقية فهو يعادل 73 بالمئة من الدخل في ألمانيا الغربية.

المشكلة إذن بالنسبة لألمانيا ليست اقتصادية بالأساس بقدر ما هي سياسية، لأن توحيد ألمانيا حدث بعد سنوات عديدة من الانقسام، ومازال بعض المواطنين، إلى اليوم، يخشون من الآثار الجانبية للعيش في دولة يتفاوت فيها الإنتاج الاقتصادي بهذا الشكل.

ويحتج الناشطون في الجزء الغربي، الأكثر حيوية من الناحية الاقتصادية، على أن أموالهم الضريبية يتم استخدامها لدعم البرامج الحكومية ورفع مستويات المعيشة في الجزء الأقل حظا. وهذا يفسر لماذا تتجاوز شعبية اليمين المتطرف في ألمانيا الشرقية شعبية الائتلاف الحاكم. ويتمتع حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف بأغلبية ساحقة في براندنبورغ.

اليمين المتطرف ينبش التاريخ

مؤخرا، دعا حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف إلى تشكيل لجنة تحقيق في عملية خصخصة شركات ألمانيا الشرقية بين سنتي 1990 و1994. وتستهدف دعوة حزب البديل بالأساس صندوق تروهاند الذي تم إنشاءه سنة 1990، وهي سنة إعادة التوحيد التي ضمت فيها جمهورية ألمانيا الديمقراطية إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية.

كان الصندوق مكلّفا بخصخصة الشركات في ألمانيا الشرقية وامتد نشاطه إلى سنة 1994، لكنه أصبح اليوم محور اهتمام العديد من السياسيين في البلاد. ودعا يورغن بوهل، الذي ينتمي إلى الحزب اليميني البديل من أجل ألمانيا، إلى إنشاء لجنة تحقيق برلمانية للتدقيق في مهام تروهاند. وقال إن الجروح ما زالت مفتوحة والعديد منها موجودة بسبب تروهاند.

وأضاف “إذا أردنا أن نعرف مصادر عدم المساواة في التنمية بين الشرق والغرب، فعلينا أن ننظر إلى ما اقترفه تروهاند”.

يركز الشعبويون حملاتهم على الجزئيات المجتمعية المثيرة للخلاف من أجل كسب تعاطف الغاضبين الذين اتسعت دائرتهم داخل المجتمع الضيق، وفي القارة الأوروبية عموما

ويستهدف خطاب الشعبويين الناخبين الذين يشعرون أنهم مازالوا يدفعون ثمن فشل إعادة التوحيد، بعد ثلاثين عاما. ويقول الباحث في معهد “إيفو” للأبحاث الاقتصادية في ميونيخ، فيليكس روسل “قد يكون لانخفاض عدد السكان الذي بدأ منذ سنة 1949 تأثير على الألمان الشرقيين، ويعدّ هذا التأثير أكبر مما كان متوقعا في السابق”.

ويضيف “يتفاقم الوضع أكثر بسبب تراكم العوامل المثيرة للإحباط، ونذكر خيبة الأمل الأخيرة بسبب نتائج التحول الديمقراطي والاقتصادي التي انتظرها سكان الشرق منذ سنة 1990، والتي لم تغير مدى اتساع الفجوة بين الشرق والغرب”.

ويركز الشعبويون حملاتهم على الجزئيات المجتمعية المثيرة للخلاف من أجل كسب تعاطف الغاضبين الذين اتسعت دائرتهم داخل المجتمع الضيق، وفي القارة الأوروبية عموما.

وتتعدى قاعدة شرق- غرب المجتمع الألماني إلى دائرة أكثر اتساعا وشمولا، حيث تنطبق على غرب القارة وشرقها. فدول أوروبا الشرقية ليست كنظيرتها الغربية، بل هي تابع لسياسات لا تشارك في وضعها بل تتحمل تداعياتها.

من هنا، لا غرابة في الانقسامات التي تعصف بالاتحاد الأوروبي في قضية الهجرة واللجوء. فدول أوروبا الغربية تسطر سياسات الهجرة ودول الشرق مضطرة للتقيّد بها وتنفيذها استجابة لقوانين التكتل. وحتى على مستوى المؤسسات الأوروبية ومناصبها العليا يستأثر الغرب بثلاثة مناصب العليا، وهي رئاسة المفوضية الأوروبية ورئاسة البنك الأوروبي ورئاسة المجلس الأوروبي أيضا.

الشرق خارج رسم السياسات

كرّست التوافقات بشأن التعيينات في المناصب العليا الأهم في الاتحاد الأوروبي سياسة أوروبية قديمة محورها الغرب وهامشها الشرق، بعد أن تّم التوافق على تعيين ألمانية وفرنسية وإيطالي في المناصب الثلاثة الأهمّ داخل التكتل، فيما تم إهمال التوازن مع دول الشرق التي لم تفز مجتمعة بأي منصب قيادي صلب تكتل مليء بالانقسامات يشكك الكثير من منتسبيه في جدوى مؤسساته.

وانتخب البرلمان الأوروبي مؤخرا الإيطالي الاشتراكي الديمقراطي ديفيد ساسولي رئيسا في آخر منصب رفيع شاغر في الاتحاد الأوروبي بعد تعيين امرأتين بمنصبين رئيسيين في خطوة غير مسبوقة. واختار القادة الأوروبيون وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير لايين لرئاسة المفوضية الأوروبية ورئيسة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد كرئيسة للبنك المركزي الأوروبي.

وبينما تم الحفاظ على التوازن بين الجنسين عند اختيار المناصب العليا في الاتحاد الأوروبي، مع اختيار امرأتين من بين أربعة ترشيحات، تمّ إهمال التوازن بين الشرق والغرب ولم يجر اختيار أي سياسي من شرق أوروبا لتولّي منصب كبير.

وبالرجوع إلى قضية الهجرة واللجوء أكثر المسائل خلافا داخل التكتل الأوروبي، ترفض دول الشرق التقيّد بنظام دبلن الذي يتم بموجبه توزيع حصص كل دولة في استقبال المهاجرين وحجهم في ذلك “نحن لسنا دولا استعمارية ولن نتحمل نتائج قوى غرب أوروبا الاستعماري”.

واعتادت دول غرب أوروبا أيضا على المحور الفرنسي الألماني، فإذا ما اتفقت باريس وبرلين على شيء ما، فإن الاتحاد الأوروبي يمضي قدما بشأن هذا الاتفاق، أما إذا لم تتفقا، فلا يحدث شيء. لكن، اليوم تظهر العديد من الدول الأعضاء، خصوصا الجديدة، تمرّدا على القوة المركزية.

ويفضي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى تفاقم هذه التصورات، ولهذا السبب ينبغي على برلين وباريس وغيرهما أن تحاول دمج مجموعة فيسغراد (التشيك وهنغاريا وبولندا وسلوفاكيا) في مشاريع وأفكار حول مستقبل الاتحاد الأوروبي، لتعزيز وحدة الصف الأوروبي أولا وثانيا قطع الطريق أمام الشعبويين التي تعزّز مثل هذه الفوارق شعبيتهم.

وعلى الرغم من تقليل القادة الأوروبيين من شأن الحركات اليمينية وإمكانية وصولهم إلى مراكز السلطة في غرب أوروبا تحديدا، فإنّ أول الغيث قطرة، ولا أدل على ذلك من تعزيز مكاسبهم في البرلمان الأوروبي الجديد ومشاركتهم في الحكم في إيطاليا وغيرها.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: