منتدى أصيلة: دعم الثقافة والإبداع في أفريقيا لم يعد ترفا

تعود أفريقيا بقوة إلى دائرة الاهتمام العالمي، لكن هذه المرة بصورة مختلفة عن تلك الصورة الراسخة منذ العهد الاستعماري. أفريقيا اليوم تتحول إلى قارة صناعية سيكون لها مستقبل في التنمية العالمية. لكن، هناك قلق من أن تكون لهذا المستقبل الواعد تداعيات تذكّر الأفارقة بما حدث عندما جاء المستعمر واستحوذ على القارة بكل ما فيها. ووفق الخبراء ليس هناك أفضل من التعاون في مختلف المجالات لصنع شبكة وقاية تحول العلاقة بين القارة الأفريقية والدول الغربية إلى علاقة مصالح.

وإلى جانب التعاون السياسي والاقتصادي، يفتح الخبراء مجالا آخر لا يلقى أهمية وهو المجال الثقافي والإبداعي، بل هو من أكثر المجالات تأثيرا وقدرة على نسج قصة التنمية والتغيير المنشود بأفريقيا. وأكّد الخبراء ذلك خلال ندوة انعقدت ضمن فعاليات منتدى أصيلة في نسخته الواحدة والأربعين أيام 7 و8 و9 يوليو الجاري.

أمادو لامين صال: الطرح الغربي للتنمية ما يهدد ثقافات الغير
أمادو لامين صال: الطرح الغربي للتنمية ما يهدد ثقافات الغير

حملت الندوة عنوان “الإبداع الأفريقي في أفريقيا والمهجر”، لكنها كانت في حيثياتها ندوة سياسية وتنموية بأبعاد ثقافية وإبداعية، لخصت العلاقة المتداخلة بين كل هذه المجالات كمؤشر للتغيير والتقدم المنشود في القارة.

كان من بين المتحدثين الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، محمد بن عيسى، الذي أكد أن موسم أصيلة ظل وفيا منذ بدايته قبل أربعين سنة للثقافة الأفريقية، موضحا أن اختيار موضوع الإبداع في أفريقيا والمهجر يأتي استجابة لحاجة ملحة تفرضها التحديات التي تواجه القارة من جهة، ويؤكد الدور الذي تلعبه الطبقة المثقفة والمبدعة في النهوض بأوضاع المجتمعات وحمل همومها من جهة أخرى.

وفي السياق ذاته استعرض محمد بنعيسى جذور هذه المغامرة الثقافية منذ العام 1978، والتي نجحت في استقطاب الفعل الثقافي بفضل عناية العاهل المغربي الملك محمد السادس، الذي كان مظلته وحاميه والمتعاطف معه منذ أن كان وليا للعهد. والذي زار أصيلة في موسمها الأول ويترأس شرفيا منتداها الثقافي الذي أصبح راعيه عاما بعد عام.

وأبرز محمد بن عيسى، المساهمة الفعالة لشخصيات من القارة السمراء فكريا وسياسيا وثقافيا وفي كافة مجالات الإبداع في موسم أصيلة الثقافي، كاشفا عزم مؤسسة منتدى أصيلة على أن تحتفي  سنويا ابتداء من الدورة الحالية، بالقارة الأفريقية، من خلال لقاءات سنوية تهم مختلف قطاعات الإبداع الفني والثقافي والفكري.

ونظرا لكون منتدى أصيلة الثقافي أضحى رمزا حضاريا وثقافيا شدد الشاعر السنغالي أمادو لامين صال، والأمين العام للمؤسسة العالمية للنصب التذكاري والوقائي لجزيرة غوريه، على إعطاء هذا الصرح الحضاري مكانته الرمزية لدعمه الإبداع الأفريقي وأسمائه الشامخة، من خلال جائزة “تشيكايا أوتامسي” بصورة أساسية التي تضاهي في مكانتها جائزة نوبل في الجانب المتعلق بالشعر.

وقد حقق المغرب تقدما بارزا على عدة أصعدة وبعض المجالات تحتاج إلى تطوير ولا يجب السماح لأي كان بتمزيق هذا البلد وأفريقيا أيضا، والثقافة يمكنها أن تعمل أدواتها في ربط التواصل والتضامن. وفي هذا الصدد، أكد أمادو صال أن أصيلة بموسمها الثقافي تتحقق فيها كل مكونات التراث الإنساني، ويستوجب على اليونسكو الاعتراف بهذه المدينة كرافعة لحوار الثقافات والحضارات ومساهمة مختلف القيادات الثقافية في ترسيخ هذا المورد الثقافي.

الإبداع الإيجابي خدمة للتنمية

Thumbnail

ترتبط علاقة القدرات الإبداعية كمكون أساسي للثقافة بموضوع الابتكار والحكم الرشيد، وتطرق وزير الخارجية والتعاون والجاليات السابق بالرأس الأخضر، فكتور بورغيس، إلى التربية وحسن الإدارة كمرتكزات لتعزيز القدرات الإبداعية في ظل الظروف الراهنة التي تعيشها أفريقيا باعتبارها داعمة للأمن والسلام والاستقرار كأهم مقومات التنمية، وهي تدخل ضمن مسؤوليات الحاكمين لخلق البيئة الملائمة لممارسة جميع المهارات والمواهب لتعزيز الهوية والشخصية الأفريقية.

وشدد بورغيس على الدور الذي يمكن أن يلعبه المهاجر الأفريقي من خدمة للتنمية، فيما قال أمادو لامين صال إن المهاجر ظل إلى حد الآن منفصلا عن القارة الأم، معتبرا أن تنمية أفريقيا لن تنبني على موهبة وعبقرية الفنانين والمبدعين الأفارقة وحدهم، بل يتوجب على مؤسسات الدولة والقائمين عليها أن يتمتعوا بنصيب من الإبداع والعبقرية لإعطاء نفس جديد ثقافيا وفكريا لبناء مجتمع غير مُستَلب.

وأجمع كل المشاركين على أن أفريقيا في حاجة إلى تحولات حاسمة على المستوى الثقافي كبوابة لإحداث تغيير منشود. وأكد أمادو لامين صال أن القارة الأفريقية في حاجة إلى إعادة الاعتبار لها. ولهذا يستوجب الاهتمام بالشباب الأفريقي ودعم كل ملكاته ومواهبه كمستقبل لهذه القارة.

ويعتبر المثقف سواء داخل البلاد أو خارجها كحامل لقيم ثقافية تخدم المجتمع همزة وصل بين المجتمع والسلطات لتحقيق التغيير الإيجابي داخل بلده وناقلا لعناصر ثقافات أخرى. وقد قال عبدالرحمن نغايدي، عضو اللجنة التنفيذية بمجلس تنمية البحوث الاجتماعية في أفريقيا، في مداخلته، إنه علينا الانفتاح على مدارك أخرى لصناعة مفاهيم خاصة بنا.

وأوضح أن هناك أنماطا مستوردة من الخارج فرضت علينا التأقلم معها باعتبارها أنماطا ثابتة لا تتغير رغم أنها لا تتماشى مع ما يؤمن به الأفارقة، وهو ما يتطلب إبطال آثار النزعة الاستعمارية بالتحول إلى تشجيع الذكاء الإبداعي في الفنون واللغات والثقافة داخل البيئة الأفريقية.

ولنقل حزمة من القيم إلى الأجيال القادمة، أكد عبدالرحمن نغايدي ضرورة الوعي بأهمية الثقافة والإبداع وإعطائهما الأولوية في برامج التنمية، وهو ما يتطلب من المسؤولين السياسيين تطوير ذواتهم ثقافيا حتى يتم إحداث التغيير الإيجابي اقتصاديا واجتماعيا وتنمويا داخل القارة والاستفادة من الثروات الطبيعية التي تزخر بها القارة.

التحولات الثقافية

فكتور بورغيس: التغيير يجب أن يحدث دون فقدان الهوية الأفريقية
فكتور بورغيس: التغيير يجب أن يحدث دون فقدان الهوية الأفريقية

لفت المشاركون في الندوة أن احترام قيم ثقافية محلية والعناية بأنماط فكرية وإبداعية لها جذورها الضاربة في التاريخ الأفريقي رهين بإحداث التغيير المنشود وخدمة التنمية، وذلك لما تعرف القارة والعالم من تحولات قيمية واقتصادية وسياسية.

لكن، شدد فكتور بورغيس على أن التغيير يجب أن يحدث دون فقدان الهوية الأفريقية بل من خلال تحسين جودة الزعامة لتعزيز دور الثقافة والإبداع في كل تجلياته وفي خدمة السلام والتعايش وتكافؤ الفرص والرفع من خدمات التربية والتعليم.

وأوضحت نديورو نداي، المديرة العامة السابقة للمنظمة الدولية للهجرة، أن التنمية لا تعني بالضرورة القطيعة مع الماضي لإحداث التغيير. كما تحدث أشيل مبيمبي، أستاذ التاريخ والعلوم السياسية بجامعة ويتواترسراند، عن الإصلاحات باعتبارها محطة ضرورية لبناء فعل سياسي واجتماعي واقتصادي من منطلق ثقافي ضمن عمل مؤسساتي سليم، ولا يمكن التفكير في التنمية دون البحث في الثقافة كقيمة يجب ربطها بالتراث والمجتمع وكأولوية قصوى.

الثقافة وتعزيز الهوية

ناقش المتدخلون علاقة الهوية الأفريقية بالتنمية والإبداع مشيرين إلى أن عدم التفريط في الهوية يمكن ربطه بعصرنة التعليم والمراهنة على المواهب في كافة المجالات، وتطرق أمادو لامين صال إلى الطرح الغربي للتنمية باعتباره مرتكزا فقط على وجهة نظر أحادية ثابتة وهو ما يهدد ثقافات الغير كما حصل في أفريقيا وبعض دول آسيا.

وربطت نديورو نداي بين الهجرة والهوية وعلاقتها بالثقافة والتنمية من منطلق أن الهجرة تحقق إنتاجا ماديا ومعرفيا ينبغي أن يساعد بلدان الأصل. وأفريقيا كان بإمكانها أن تكون مختلفة لو لم تعتبر مستهلكة لثقافات الآخرين دون العمل على إحياء حضاراتها وثقافاتها الغنية، حسب أشيل مبيمبي، وهذا يعطي مجالا أكبر للصمود الأفريقي أمام الاكتساح العولمي وتعزيز الخصوصية.

وأشار إلى أن تحقيق التقدم يحتاج إلى إصلاحات وإبراز مظاهر الحكامة وحسن الإدارة وإشراك الجميع، فالمهارات والقدرات موجودة بالقارة الأفريقية ويجب ربطها بأهداف التنمية واستغلال الموارد الطبيعية بشكل حاسم.

العالم يزداد تعقيدا ويتطلب الأمر قدرات إبداعية على مستويات كثيرة، منها الثقافي والتكنولوجي تشجيعا للتنمية والتغيير على مستوى البنية الاجتماعية والاقتصادية، ولا بد لوزارة الثقافة من الانخراط في استرجاع أفريقيا لأصالتها من خلال دعم الثقافة وقطاعات التربية والتعليم والأبحاث العلمية، حسب أشيل مبيمبي، كما لا بد من إحياء التاريخ من خلال العناية بالمؤلفات التاريخية والعلوم الإنسانية والأنثروبولوجيا.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: