عشق الآباء حوّله الأبناء إلى كوميديا تعالج قضايا المرأة

تبقى الكوميديا لباسا سحريا لكل عمل مسرحي يحاول أن يقتحم عوالم النقد الاجتماعي، من خلالها تعبر الأفكار في مفارقات سلسة ولوحات مضحكة مبكية إلى عقول الجماهير، فالكوميديا ليست من وظيفتها الإضحاك فحسب، بل منوط بها النقد العميق والمؤثر وهو ما أثبتت نجاحها ونجاعتها فيه.

تناولت مسرحية “العشق الكادي” للمخرج عمر الجدلي، والتي عرضت مؤخراً بمدينة الرباط على مسرح محمد الخامس، قضية صراع الأجيال، وتغيّر المفاهيم، والتقاليد من جيل إلى آخر في المغرب.

وقدمت المسرحية هذا الصراع بسخرية مريرة، تنقد من خلالها ما عاشه الآباء من قصص حب خجولة، وفاشلة في الكثير من الأحيان بسبب التقاليد. وبدلا من أن تثير تلك القصص مشاعر الحزن في نفوس الجمهور، لما آلت إليه مصائر من عاشها، من نكبات أثارت الضحك المتواصل من قبل جمهور المسرح، تثير الضحك، في سخرية هدفها الأساسي هو النقد.

وصف “الكادي” باللهجة الدارجة المغربية، التي جاءت في تسمية المسرحية تعني “القُحُّ” أو الأصيل، والتسمية تحيلنا إلى ما لاقته “زهرة” في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي من معاناة، فالمرأة كانت مملوكة للرجل إن كان أبا أو أخا أو زوجا، في ذلك الزمن، وعليها أن تذعن لكل ما يمليه الذكور عليها من خيارات، حتى لو كانت تلك الخيارات مصيرية، وتفرض عليها نوع الحياة، التي ستعيشها لما تبقى لها من حياتها. وستكون بعصمة أحد الرجال، لم تختره، وكان قلبها يميل إلى رجل آخر قبله، وكانت أكبر أمنياتها أن تقضي حياتها مع ذلك الحبيب. ولكن شاءت إرادة الأب والعائلة أن تتزوج من حددوه زوجاً لها.

المواقف الدرامية في المسرحية مرسومة بذكاء، فمن الحرمان والحزن إلى تقبل الواقع، وما رسمه الأهل من مصير، لكنها تحوَّلت إلى كوميديا يرغب برؤيتها جمهور المسرح، ليضحك من آلام “زهرة” كلما أنَّتْ أو شكتْ، طالبة استعادة حياتها وشبابها السابق.

المسرحية من تقديم فرقة “مسرح أرلكان” المراكشية، ومن تأليف وإخراج عمر الجدلي

“زهرة” الأم كانت تعاني من الزهايمر، ورغم ذلك تحاول بين وقت وآخر أن تسترجع لأولادها الثلاثة، حكايات الزوجة الثانية لزوجها المتوفي، ولها ولد واحد فقط من صلبها. هؤلاء الأبناء تركوها لسنوات كثيرة ثم عادوا إليها بعد وفاة والدهم، ليحصلوا مع عمهم على الصندوق، الذي تركه المتوفي، وفيه كنز العائلة من المجوهرات والمال.

“زهرة” التي تعاني من مرض النسيان نسيت مكان الصندوق، وهي العقدة، التي تجعل الجمهور يتابع استرجاعات “زهرة” لماضيها البائس، فتروي ما تتذكره من حوادث مهمة في حياتها، ومعاناتها في فترة شبابها، حين عشقتْ شاباً، ولكن والدها أجبرها على الزواج من آخر أرمل كبير في السن وله ولد وهي لا تحبه.

فقالت للحاضرين عن ذلك الحب، إنه لم يكن معلناً بينها، وبين حبيبها بل كان على طريقة الآباء والأجداد من نوع الحب الكادي ــ الحب الأصيل ــ الذي من مظاهره، أنه كان عشقاً بريئاً لم يتجاوز النظرات، والآهات، والكلام المَرمُوز، الذي يدلُّ على الحب والهُيام، والقصائد المغناة.

بدلا من أن يحزن الجمهور لحزن “زهرة” وفراقها لحبيبها لتزويجها عنوة من شخص آخر، ينفجر ضاحكا من بدائية تلك العلاقة وغبائها، التي تسميها “زهرة” حبا. وما كان يربط بين الرجال والنساء، قياسا بما يعيشه الناس الآن من حرية في إعلان الفتيات لحبهن للشباب، وبالعكس بلا خوف، ولا تردد في مجتمع اليوم.

في مسرحية سابقة للمخرج عمرالجدلي بعنوان “شغل العيالات” تناول ذات الثيمة، وطرح بشكل ما، قضية الجندر ومعاناة النساء في عصرنا الحالي من تمييز اجتماعي بسبب جنسهن كإناث. عرض ذلك في مسرح اجتماعي من نوع الفودفيل الكوميدي الشعبي البسيط. الذي تناغم مع ما يحب الجمهور رؤيته، والتناغم معه، فهو يمس مسا من بعيد قضايا المرأة، ومعاناتها السابقة والحالية، ويدعو إلى الاهتمام بالآباء والأمهات، الذين عاشوا، ويعيشون الآن أفكار وتابوهات عصرهم السابق بعد أن بلغت أعمارهم سن العجز والشيخوخة.

يسعى العرض إلى عقد المقارنة بين العاطفة الجيّاشة لكل من المرأة والرجل في جيلين مختلفين، جيل الآباء وجيل الأبناء. الأول يرى أن الحب هو أهم ما يربط بين الجنسين، بينما يعتقد الثاني، أن هناك ما يربط بين الرجل والمرأة غير تلك العاطفة المشبوهة، التي تسمى حبا ووفاء وإخلاصا ومودة، كالمال والوجاهة والمناصب والتزلف إلى طبقة أعلى من خلال هذه العلاقة، وغير ذلك من المتطلبات المادية للحياة الحالية.

معالجة هذه الثنائية على خشبة المسرح وإبراز ما في الشكل الأخير من العلاقة من تنافس، وكراهية، وأنانية هو جوهر الكوميديا التي اعتمد المؤلف والمخرج والممثلون على إبرازها للجمهور.

مقارنة بين العاطفة الجيّاشة لكل من المرأة والرجل في جيلين مختلفين
مقارنة بين العاطفة الجيّاشة لكل من المرأة والرجل في جيلين مختلفين

في المسرحية يؤدي دور النَّمط الحالي من العلاقات بين البشر، الأبناء الثلاثة وعمهم في بحثهم المحموم عن الصندوق ــ الكنز ــ وبذلهم كل المحاولات لجعل “زهرة” تتذكر أين وضع الصندوق، لكي يتقاسموا ما فيه من غنائم، من دون الاهتمام بالمرأة المسنة التي أضحت بلا معين، وقد خسرت طفولتها، وشبابها مع أب ظالم وزوج لم تحبه، ولم تسعد في حياتها معه. وخرجت بعد كل ذلك الحرمان بمرض الزهايمر، الذي كاد أن يقضي على آخر ومضة ذكرى، لذلك الشاب، الذي أحبته، وظنت أنه سيأتيها على فرس أبيض، لينقذها مما تعانيه من ظلم، لكنه بعد أن عرف بتزويجها عنوة من رجل آخر. غادر إلى مدينة بعيدة لكي ينساها، وتركها لمصيرها البائس.

مسرحية “العشق الكادي” حوَّلت مأساة زهرة من دراما موجعة إلى كوميديا سوداء، أضحكت الجمهور، لكنها قالت أشياء كثيرة عن المرأة، التي لا تزال تعيش تابوهات الماضي وتقاليده، ومعاناة الأمهات والآباء مع جيل الأبناء.

ونذكر أن المسرحية من تقديم فرقة “مسرح أرلكان” المراكشية، ومن تأليف وإخراج عمر الجدلي، وتمثيل سعاد خويي، رشيدة نايت بلعيد، زاهية زاهيري، عبدالرحيم المنياري، عبداللطيف شوقي، وعادل لوشكي، وقد عُرضت أيضاً في العديد من المدن المغربية.

سينوغرافيا حسين الهوفي، موسيقى لنبيل البوستاوي وعبدالكريم شبوبة، والإنارة حسن بالكبير، وللفرقة خبرة جيدة بتقديم الكوميديا الشعبية الناجحة، منذ العام 2011.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: