الثانوية معبر إلى الجامعة لا يضمن العمل للشباب

أصبحت الشهادة الثانوية بالنسبة للشباب اليوم وأسرهم مشكلة مصيرية تؤرق حياتهم وتحدد مستقبلهم ومسيرتهم المهنية، بينما في الواقع لم تعد سوى بوابة لدخول الجامعة دون أن تحدد النجاح الحقيقي في سوق العمل، بينما استطاع الكثيرون تحقيق إنجازات كبيرة وسطع نجمهم في الحياة المهنية دون أن يتجاوزوا الثانوية.

قبل سنوات قليلة كان يوصف من لم يحصل على شهادة الثانوية العامة في المغرب بأنه أمي، ولا يحق له ارتياد الجامعة ولا المعاهد التقنية. وبالرغم من ذلك التحدي الخطير، الذي واجهه الطلاب، وهم في سن المراهقة، فهو لم يخفهم، وكذلك لم يدفع الكثيرين إلى بذل الجهد، وبقيت النسبة المئوية للنجاح مساوية لنسبة السقوط، وتراوحت بين 48 و53 بالمئة، وربما أعلى نسبة بلغتها كانت في العام الجاري 2019، إذ بلغت 65.55 بالمئة.

وبالرغم من فشل الكثيرين في الحصول على شهادة الثانوية إلا أن عددا منهم أظهروا موهبة استثنائية في مجالات أخرى عملية، كتطويع البرمجيات التكنولوجبة ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وتكنولوجيا السيارات والمجال السمعي/ البصري، وكانوا من أفضل المطورين.

وهؤلاء الطلاب (الفاشلون) الذين لم يستطيعوا تجاوز امتحانات الثانوية حرصوا على تنمية مواهبهم وميولهم، وبذلوا جهودا كبيرة لكي يبتكروا أشياء جديدة ويبدعوا في مجالات مختلفة في محاولة منهم لإثبات أنفسهم. فنبغ من بينهم خمسة من أبرز مبرمجي أجهزة الكمبيوتر في العالم أشهرهم زكريا العلوي الذي استطاع اختراق الموقع الإلكتروني للاستخبارات الأميركية، ووضع بصمته عليه باسم قريته “غفساي” ما أثار غضب الأميركيين، وبحثتْ عنه السلطات ليجدوا أن وراء ذلك الاختراق الخطير مراهقا مغربيا، فاشلا في دراسته، لم يستطع تجاوز مرحلة الثانوية. وقد تعلم بجهوده الذاتية التعامل مع برمجيات الحواسيب في مقهى صغير منزو للإنترنت في حي فقير بمدينة تاونات المغربية.

علماء بلا شهادات

في العقد القادم لن تستطيع الجامعات والمعاهد بمختلف الاختصصات في المغرب قبول الأعداد الضخمة من الشباب، الذين حصلوا على الشهادة الثانوية
في العقد القادم لن تستطيع الجامعات والمعاهد بمختلف الاختصصات في المغرب قبول الأعداد الضخمة من الشباب، الذين حصلوا على الشهادة الثانوية

يقول عمر شداتي أستاذ تعليم ثانوي في الرباط إن هناك في العالم شواهد كثيرة في أنحاء العالم لشباب لم يستطيعوا دخول الجامعة لأسباب مختلفة، لكنهم نجحوا في حياتهم العملية.

وأضاف شداتي في تعليقه على نتائج الثانوية العامة هذا العام التي صدرت مؤخرا في المغرب، أن أحد هؤلاء الذين لم يتمكنوا من الحصول على الشهادة الجامعية هو بيل غيتس مؤسس مايكروسوفت، الذي بلغت ثروته 90 مليار دولار، وأيضا مايكل ديل مؤسس شركة ديل ورأسمالها 150 مليار دولار، وتوماس أديسون مكتشف الكهرباء، وغريغور يوهان مندل مؤسس علم الوراثة الذي فشل مرتين في الامتحان الذي يخوّل له بأن يكون أستاذا مؤهلا للتعليم في المدرسة الثانوية بشكلٍ رسمي، والأخوان رايت مخترعا أول طائرة في العالم.

ومن الكتاب المشهورين، الذين لم يتخرجوا من جامعة، الروائي المغربي محمد شكري الذي بيعت من روايته “الخبز الحافي” أكثر من مليون نسخة، وترجمت إلى عشر لغات، وباولو كويلو صاحب رواية الخيميائي، الذي بيعت منها 40 مليون نسخة، وترجمت إلى أغلب لغات العالم، وأغاثا كريستي التي تعدُّ أكثر الكتاب شهرة في العالم، وكتبها ضمن الأكثر مبيعا منذ الخمسينات حتى يومنا الحالي.

وتابع شداتي “كل هؤلاء كان لهم تصور واضح عن مستقبلهم، وعرفوا ما يميلون إليه، وعملوا على تطوير مهاراتهم بشكل ذاتي، واتبعوا السبل الصحيحة، التي توصلهم إلى تنفيذ أحلامهم، التي كانت مجرد أحلام مراهقة، فحولوها إلى نجاحات لهم وفائدة للبشرية”.

وذكرت ليلى التلمسي أستاذة في مدرسة ثانوية خاصة بالرباط، “من يظن أن الثانوية ودخول الجامعة هي المآل الوحيد، فهو واهم. ففي العقد القادم لن تستطيع الجامعات والمعاهد قبول جميع الأعداد الضخمة، التي تحصل على الثانوية، ففي هذه السنة 2019 بلغ عدد الطلاب والطالبات الذين رشحوا لاختبارات شهادة الثانوية في المغرب 441 ألف طالب وطالبة، بنسبة زيادة 0.3 بالمئة عن العام الماضي. ونجح أكثر من نصفهم، وهذا العدد الكبير من حاملي الثانوية لا يمكن أن تستوعبه جميع الجامعات بالمغرب ولا المعاهد الفنية”.

وأضافت التلمسي أن “هذه الأعداد الكبيرة تعتبر مشكلة حقيقية في أغلب الدول العربية، التي ينظر فيها الطالب إلى الجامعة كخلاص، ليحصل من خلاله على وظيفة في الدولة تدرُّ عليه راتبا ثابتا. وربما يسلك طرقا وأساليب غير شرعية بمحاولة الغش في امتحان الثانوية ليحصل على النقاط العالية لتحقيق هدفه”.

وتابعت “للعلم هذا العام تم تحقيق معدلات عالية وأعلاها 19.4 من أصل 20 درجة، مما يجعل التنافس شديدا على مقاعد جامعية قليلة في كليات الطب والهندسة ومعهد الإعلام والاتصال في العاصمة الرباط”.

بوشعيب البازي : شهادة الثانوية العامة ليست مقياس الشباب الوحيد للنجاح ففرص الحياة أوسع بكثير مما يظن البعض

وأشارت إلى أنه حتى إذا استطاع الطالب النجاح بأساليب ملتوية أو من دونها، وأكمل تعليمه الجامعي، وحصل على وظيفة عمومية. ففي أغلب الوظائف، لا يكفي الراتب الحكومي في بداية الحياة الوظيفية، لتكوين أسرة جديدة، فيبقى عالة على أبيه وأمه لسنوات أخرى سواء بالعيش معهما إضافة إلى أسرته الجديدة أو بعيدا عنها”.

ويعاني أغلب الشباب في الدول العربية من الوضع الذي ذكرته التلمسي، إذ يفضل الكثير من الشباب اللجوء إلى الوظيفة الحكومية في الدولة للحصول على راتب ثابت وضمان المستقبل الوظيفي، لكنهم في ما بعد يدخلون في دوامة أخرى بسبب تزايد أعباء الأحياء اليومية مقارنة بالراتب المتواضع ولاسيما بعد تأسيس أسرة، وتشهد العديد من الدول مظاهرات مستمرة في قطاعات مختلفة من العاملين في الدولة احتجاجا على أوضاعهم الوظيفية.

من جهته، يقول الصحافي بوشعيب البازي  “إن تقنيات متطورة استخدمها بعض الطلاب للغش في امتحانات الثانوية، وأن الشرطة القضائية فككت شبكة للغش في الامتحانات في مدينة أفران، وكذلك في مدينتي فاس ومكناس”.

وأضاف البازي  “ألقت الشرطة القبض على 43 شخصا من الذين ضبطوا في حالة تلبس بالغش، وقد استعانت إحدى الشبكات بتقنيات متطورة من بينها آلة صغيرة الحجم، ليتمكن من خلالها توفير تواصل بين رئيس الشبكة، والطلاب المتقدمين لامتحان الثانوية في قاعة الامتحان، من دون إثارة انتباه لجان المراقبة وأساتذة الحراسة. كما ضبطت طالبة بعثت صورة لأسئلة الرياضيات إلى شخص خارج قاعة الامتحانات بواسطة صفحة فيسبوك عن طريق الخطأ، فذهبت الصورة إلى غير الصفحة المقصودة”.

ويتساءل هشام الإدريسي (45 سنة) موظف، وهو والد الطالبة المتفوقة في الثانوية جليلة الإدريسي التي حققت 17 نقطة من أصل 20 نقطة، هل ستتمكن ابنته من اختيار الجهة التكوينية التي ترغب فيها بواسطة النقاط العالية التي حصلت عليها؟.

كان الإدريسي فرحا، ويرد بين الحين والآخر على تهنئات زملاء وزميلات ابنته، وقال  نصف النجاح الذي يحرزه الأبناء في الثانوية يعود لجهود الأسرة في منح الجو الأسري المريح للطالب خلال السنة الدراسية، وخاصة في فترة الامتحانات. وقد عمدت أنا وأمها إلى جعل أوقاتها متنوعة بين الدراسة والترفيه، ولم نبالغ في تذكيرها بضرورة

الدراسة مرارا وتكرارا، والتحضير للثانوية، فبعض الأسر تخلق عقدة الثانوية لدى الأبناء بسبب المبالغة والتخويف والترهيب من امتحانات الثانوية وتأثيرها المصيري على حياتهم المهنية والمستقبلية. وكنا نشعرها بأن امتحان الثانوية كغيره من الامتحانات، والطالب المُجدّ طوال سنته سيحقق أعلى الدرجات فيه”.

وذكرت الطالبة هند زايد (17 سنة) طالبة ثانوية عامة في الرباط “حققتُ 13 نقطة من عشرين، وهي تؤهلني للدخول إلى أحد المعاهد التكوينية، وأنا غير مهتمة بما نلته من نقاط. فمرحلة تجاوز الثانوية، للدخول إلى مرحلة جديدة أكثر نضجا هي هدفي”.

مشاعر متناقضة

التوجه نحو إرساء نظام تكويني يتسم بالمرونة والفعالية في الوسط المهني
التوجه نحو إرساء نظام تكويني يتسم بالمرونة والفعالية في الوسط المهني

أضافت زايد “قبل الحصول على الثانوية ينظر إليك الجميع، ويعاملك كطفلة في مرحلة المراهقة، وبعد أن تنال شهادة الثانوية تتغير نظرة الأسرة والمجتمع كذلك”.

ويعتبر الأخصائي النفسي عبدالكريم عطا “أن مرحلة الثانوية بالنسبة للطلاب تأتي مع خصوصية فترة المراهقة لديهم، فهم يقعون بين شعورين متناقضين، إحساسهم بأنهم نضجوا، وصارت أجسادهم لا تمت لعالم الطفولة بأي صلة، بينما معارفهم، وتجاربهم لا تزال غير متوازنة مع سرعة نضجهم العاطفي والجسدي”.

وأضاف ، هذا “التناقض يشكل بؤرة للتضاد بين ما يطمحون إليه من معاملة خاصة من الأساتذة ومعاملتهم كناضجين، وبين واقع الأستاذ الذي يكون عادة مكلفا بمنهاج دراسي عليه إكماله، وبين عدد الطلاب يفوق في الكثير من الأحيان العدد التربوي المقرر بين 25 و35 طالبا في الفصل الواحد. وهذا يضطره إلى التعجيل بإعطاء المادة المقررة، ومعاملة الجميع ككل متماثل. وهذا ما يجعل طريقة التلقين التي يؤديها بها عمله غير مجدية، وهذا ما يرفع نسبة الفاشلين في الثانوية”.

وتابع عطا “ولا يعني الفشل في الثانوية أو عند الحصول على نقاط ضعيفة أن نهاية العالم قد حلت، فالكثير من طلاب الثانوية الفاشلين حققوا أفضل النتائج في سوق العمل، كما أن من حققوا نتائج عالية كانوا بعد ذلك طلابا عاديين في الجامعة ولم يحصلوا عند تخرجهم على درجات عالية. وهذا يؤكد أن شهادة الثانوية ليست المقياس الوحيد للنجاح، ففرص الحياة أوسع بكثير مما يظن البعض”.

وفي السنوات الأخيرة اهتمت السلطات المغربية بالمعاهد المهنية التي تؤهل الشباب للدخول إلى سوق العمل، وأفاد رئيس الحكومة سعدالدين العثماني، في فبراير الماضي، بأن نظام التكوين المهني في المملكة حقق بعض المكتسبات الهامة حيث بلغ عدد مؤسسات التكوين المهني 584 مؤسسة عمومية خلال الموسم التكويني 2017-2018، تغطي مختلف المجالات، وقد استقبلت أكثر من 587 ألف شاب وشابة.

وأبرز العثماني، أثناء مناقشة “استراتيجية الحكومة في إصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي” في مجلس النواب، أنه للتوجه نحو إرساء نظام تكويني يتسم بالمرونة والفعالية في الوسط المهني وفتح آفاق أوسع لدخوله بالنسبة لجميع الفئات، فقد تم الشروع في تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للتكوين المهني 2021، كجزء من الرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين 2030-2015 بهدف إقامة نظام للتكوين المهني مندمج مبني على إشراك كل الأطراف المتداخلة.

وذكر رئيس الحكومة أن هذه الاستراتيجية تتوخى تحقيق ضمان الحق في التكوين من خلال تحقيق الاندماج الاجتماعي والترابي، وتحسين تنافسية المقاولة كفاعل وكفضاء متميز للتكوين، والرفع من مستوى إدماج الخريجين عبر تحسين جودة التكوين، وإدماج التعليم العام والتكوين المهني، وتقوية حوكمة السياسة العمومية في ميدان التكوين المهني.

وأشار إلى أنه تنفيذا لهذه الاستراتيجية تضمن البرنامج الحكومي إحداث 123 مؤسسة للتكوين المهني في أفق 2021 بهدف الرفع من عدد المتدربين والمستفيدين من التكوين وتزويد سوق الشغل بحوالي مليون و700 ألف خريج وخريجة.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: